فلسطين أرض المعركة
28-09-2016, 05:27 AM




جُهّز الجيش المصري المسلم، وأعد إعدادًا عظيمًا، وجاء وقت إعداد الخطة، ووضع الخريطة لتحرك الجيش.
واجتمع قطز مع المجلس العسكري لبحث أفضل طريقة لحرب التتار، وليبحثوا توفير أفضل ظروف لتحقيق الانتصار.

وقام قطز بإلقاء بيانه الذي يوضح فيه رأيه في الخطة العسكرية.. وبمجرد أن ألقى برأيه، قام المجلس ولم يقعد! لقد أحدث رأي قطز دويًا هائلًا في المجلس العسكري!

حتمية الجهاد.. في فلسطين:
لقد أراد قطز أن يخرج بجيشه لمقابلة جيش التتار.... في فلسطين!

قرر ألا ينتظر في مصر حتى يأتي التتار إليه، بل يذهب هو بجيشه لمقابلتهم.

واعترض أغلب الأمراء.. لقد أراد الأمراء أن يبقى قطز في مصر ليدافع عنها.. فمصر -في رأي الأمراء- هي مملكته، أما فلسطين فهي مملكة أخرى! لقد نظر الأمراء إلى القضية نظرة قومية بحتة.. بمعنى أنه لو لم يدخل التتار مصر، فإننا نكون قد تجنبنا لقاءً دمويًا هائلًا.. أما إذا ذهبنا نحن إليهم فلا خيار حينئذ سوى المعركة.

أما قطز فكانت نظرته أوسع من ذلك.

وبدأ قطز يناقش الأمراء ويشرح لهم مزايا خطته، وأبعاد نظرته، وأهداف الحرب في رأيه، ومهمة الجيش في اعتقاده.. لقد أفهمهم قطز حقائق غابت -لمدة سنوات طويلة- عن أذهان الكثيرين منهم.

من هذه الحقائق:

أولًا:
أمن مصر القومي يبدأ من حدودها الشرقية وليس من داخل البلد نفسه، وإلا فكيف يأمن المصريون على أنفسهم وإلى جوارهم في فلسطين دولة قوية معادية؟! العقل يؤكد أنه من المتوقع جدًّا أن تنتهز هذه الدولة المعادية أي فرصة ضعف، وتجتاح مصر من شرقها، وستأخذ سيناء في أيام معدودات، وتهدد مصر في عمقها، فلابد إذن من إضعاف الجيش المعادي الرابض في فلسطين، إما بقتاله هناك، أو بمساعدة من يقاتلونه هناك.. هذا هو التفكير العقلي والمنطقي.

ثانيًا:
من الأفضل عسكريًا أن ينقل قطز المعركة إلى ميدان خصمه، فإن ذلك سوف يؤثر سلبًا على نفوس أعدائه، كما أنه سيوفر له خط رجعة آمنًا إذا حدثت هزيمة للجيش المسلم، أما إذا حدثت الهزيمة للجيش المصري المسلم في داخل مصر، فإن ذلك سيفتح الطريق أمام العدو إلى القاهرة.

ثالثًا:
من الأفضل عسكريًا كذلك أن يمتلك المسلمون عنصر المفاجأة، فيختارون هم ميعاد المعركة ومكانها بدلًا من أن يختار العدو ذلك، والمسلمون إذا فاجئوا عدوهم فإن هذا يعطيهم أفضل الفرص للنصر، لأن الجيش المعادي لن يكون مستعدًا الاستعداد الكافي، هذا إلى جانب الهزيمة النفسية التي ستلحق به.

رابعًا:
(وهي نقطة مهمَّة جدًّا): أن للمسلمين في مصر دورًا مهمًّا ناحية إخوانهم المسلمين في فلسطين وفي سوريا وفي لبنان وفي العراق وفي أفغانستان وفي أَذْرَبِيجَان وفي الشيشان... ولا يستقيم أن تُقام المذابح للمسلمين في تلك البلاد، وتُنتهك الحرمات، وتُهدم الديار، ولا يتحرك المسلمون في مصر.. إن حركة المسلمين في مصر لنجدة إخوانهم في فلسطين وغيرها ليست فضلًا أو نافلة، إنما هي فرض عليهم.. وليست فرض كفاية، إنما فرض عين.. لقد دهم العدو فعلًا أرض فلسطين فتعيّن القتال على أهلها لدفعه، فإن لم يكفِ أهلها للقتال تعيّن القتال على من جاورهم من الأقطار الإسلامية، أي مصر والأقطار الأخرى المجاورة مثل سوريا والأردن ولبنان، فإن لم يكفِ أهل مصر والأقطار الأخرى تعيّن على الأقطار الأبعد... وهكذا، حتى لو احتاج القتال لكل مسلم على وجه الأرض.

القضية خطِرة جدًّا.

انتهاك حرمات المسلمين في بلد ما، وسكوت المسلمين في البلاد الأخرى عن هذا الانتهاك جريمة كبرى، ومخالفة شرعية هائلة. لذلك فإن قطز سيذهب لنجدة أهل فلسطين وسوريا وغيرها، حتى لو لم يفكر التتار أصلًا في غزو مصر.

خامسًا:
للمسلمين دور ناحية التتار أنفسهم.. فهؤلاء إن رفضوا الإسلام أو الجزية وجب على المسلمين قتالهم، حتى ولو كانوا في بلادهم، فما بالك لو كانوا في بلاد المسلمين.. ووجود التتار بهذه المعتقدات الفاسدة، وبهذه الحروب الهمجية يمثل فتنة كبيرة في الأرض.. ولا بُدَّ للمسلمين أن يقمعوا هذه الفتنة؛ لأن دور المسلمين في الأرض أكبر بكثير من مجرد تأمين حدود القُطر الذي يعيشون فيه، بل عليهم نشر هذا الدين في ربوع الدنيا كلها، وتعليم الناس الإسلام، والأخذ بأيدي كل الناس في كل بقعة على وجه الأرض إلى الله عز وجل.

يقول الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران: 110].

ويقول أبو هريرة رضي الله عنه تعليقًا على هذه الآية كما جاء في صحيح البخارى: «خَيْرَ النَّاسِ لِلنَّاسِ تَأْتُونَ بِهِمْ فِي السَّلاَسِلِ فِي أَعْنَاقِهِمْ حَتَّى يَدْخُلُوا فِي الإِسْلاَمِ»[1].

والمقصود بذلك الفتوح الإسلامية.. فالناس يكونون في البداية كارهين لمن يغزو بلادهم، ثم بعد ذلك يعرفون الإسلام فيدخلون فيه، فيُستنقذون بذلك من النار ويدخلون الجنة، ولو ظلّوا على حالهم يعبدون صنمًا أو خشبًا أو بقرًا أو نارًا أو بشرًا ما دخلوا الجنة، ولا شموا رائحتها.

{إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء: 48].

إذن هذه خمسة أسباب تجعل قطز يفكر في أخذ جيشه، ونقل ميدان المعركة إلى فلسطين بدلًا من مصر.

وعلى الجانب الآخر فلابد أن قطز كان يعلم أنه كانت هناك بعض الفوائد لانتظار جيش التتار في مصر، فانتقال جيش التتار من فلسطين إلى مصر سيُطيل على التتار خطوط الإمداد والمواصلات، فينقطع التتار بذلك عن قواعدهم، كما أنه سيرغم التتار على اجتياز الصحراء الواسعة في سيناء، وهي صحراء مهلكة للجيش الذي لا يعرف مسالكها ودروبها، كما أن انتظار التتار سيوفر على جيش مصر اجتياز صحراء سيناء وهذا سيوفر كثيرًا من طاقة الجيش.

ومع ذلك فقياس الفوائد المتحققة من نقل ميدان المعركة إلى فلسطين بالنسبة إلى الفوائد المتحققة من انتظار التتار في مصر يجعل القضية واضحة في ذهن قطز، ففوق الأسباب الخمسة التي ذكرناها، والتي تؤيد انتقاله إلى فلسطين.. كان يعلم أن القوات التترية قد أثبتت قبل ذلك كفاءة عالية في اجتياز الموانع الطبيعية المختلفة، وأنهم يجندون الكثير من أبناء المسلمين الذين يبحثون عن الثراء السريع، أو الراغبين في السلطة، أو في الأمان، وهؤلاء سيدلونهم على أقصر الطرق إلى مصر، وأكثرها أمنًا، ولذلك فعبور سيناء بالنسبة إلى الجيش التتري أمر متوقع، كما أن قطز كان يطمئن كثيرًا إلى جيشه، ويثق في قدراته الحركية، وكفاءته التدريبية، ويعلم أن انتقاله عبر سيناء إلى فلسطين أمر ممكن، بل ميسور إن شاء الله.

وهكذا ترجحت كفة الانتقال إلى فلسطين.. واقتنع الحضور في المجلس العسكري الأعلى الذي عقده قطز برأيه الموفق.. وبدأ قطز في إعداد الجيش، وتجهيزه التجهيز المناسب لعبور سيناء وللقاء التتار.

أول القوَّة.. الإيمان

وتبدأ حملة إعلامية تربوية في غاية الأهمية.. ليست للقائد أو للجيش فقط.. بل للشعب بأكمله!

لا بُدَّ أن يُجهّز الشعب لهذا اللقاء المهم.

لا بُدَّ أن يعيش الشعب حياة الجد والكفاح، ويترك حياة اللهو واللعب.

لا بُدَّ أن يحب الشعب الجهاد.. وتتضح في عينه الأهداف.

ولا بُدَّ أن يقوم بالحملة الإعلامية رجال مخلصون.. فأحيانًا يقف بعض المنافقين يتحدثون عن الجهاد، ويشرحون مآسي المسلمين في قُطر ما، وما يفعلون ذلك إلا لمصلحة سياسية مؤقتة، فإذا انقضت المصلحة انقطع الوازع، وانقطع معه الكلام عن الجهاد وعن الحرب.

هؤلاء الخطباء المنافقون، وهذه الأقلام المأجورة لا تصلح لهذه المهمات النبيلة.. ولذلك كان لا بُدَّ أن يحمل مسئولية الدعاية الإعلامية لحرب التتار علماء الأمة وفقهاؤها.

انطلق الشيخ العز بن عبد السلام ومن معه من علماء الأمة، يصعدون منابر المساجد، ويلهبون مشاعر الناس بحديث الجهاد.. وما أجمل حديث الجهاد.

لقد رغّبوا الناس في الجنة.. وزهّدوهم في الدنيا.. وعظّموا لهم أجر الشهداء.

حدثوهم عن عظماء المسلمين المجاهدين.. حدثوهم عن خالد والقعقاع والزبير والنعمان.. حدثوهم عن طارق بن زياد وموسى بن نصير ويوسف بن تاشفين وعماد الدين زنكي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي.

لقد ذكّروهم بأيام الله.. ببدر.. والأحزاب.. وفتح مكة.. واليرموك.. والقادسية.. ونهاوند.

ذكّروهم بموقعة حطين الخالدة التي لم يمضِ عليها إلا خمسة وسبعون عامًا.

كما ذكّروهم بموقعتي المنصورة وفارسكور والتي لم يمضِ عليهما سوى عشر سنين.

واشتعل الحماس في قلوب الشعب.

لابد من تأهيل الشعب لهذا اليوم.

لابد أن يُربى الأطفال والشباب على حب الموت في سبيل الله، وعلى تعظيم أمر الجهاد، وعلى حب الجنة.

ولا بُدَّ أن يُربى الآباء والأمهات على أن يشجعوا أبناءهم على الجهاد، لا على أن يبعدوا أبناءهم عن كل ما يسبب «المشاكل»، ويهدد الروح ولو كان الدين!

ولا بُدَّ أن تُربى الزوجات على حياة الجهاد.. فتحفز الزوجة زوجها على الخروج للجهاد، وترعى أولادها حق الرعاية في غياب زوجها، ولا بُدَّ أن تُربى على استقبال خبر الشهادة بصبر واحتساب، بل بفرح! لقد صعد الشهيد من أرض الموقعة إلى الجنة مباشرة.

إعداد الشعب ليوم الجهاد مهمة عظيمة.. وهي ليست سهلة أو هينة.. إنما تحتاج لمجهود كبير، ولمناهج مكثفة، ولإخلاص عميق، ولوقت قد يكون طويلًا.. ومن دون هذا التأهيل لن يصبر الشعب على حياة الجهاد، وحياة الحروب، وحياة الحصار.

الأمر في غاية الجدّية.

ليس هناك وقت للترفيه ولا للّعب ولا للمزاح!

وليس معنى هذا أن الترفيه واللعب والمزاح بالضوابط الشرعية حرام.. ولكن حياة الأمة المجاهدة تختلف عن حياة غيرها من الأمم.. الأمة المجاهدة حياتها جادة، فيها شيء من الترفيه.. وليست حياتها لاهية فيها شيء من الجد!

هذه التربية المركزة جدًّا تحتاج إلى تغيير جذري في كيان الشعب وفي طريقة تفكيره، وهذا يحتاج إلى مربين من نوع خاص.. ولا بُدَّ من تفعيل دور العلماء للقيام بهذا الواجب العظيم.

وانطلق علماء الأزهر ليقوموا بمهمتهم النبيلة جدًّا.. لقد فقه علماء الأزهر أن عملهم بالأزهر ليس مجرد وظيفة تدر دخلاً لمجابهة متطلبات الحياة، وليست وظيفة لمجرد الظهور في المحافل المختلفة، وليست وظيفة لإرضاء حاكم أو أمير.. إنما فقهوا وظيفتهم السامية في تعبيد الناس -كل الناس- لرب العالمين، وبالطريقة التي أرادها رب العالمين.

انطلق علماء الأزهر يقومون بالدور الذي طالما قاموا به منذ أن أقر صلاح الدين الأيوبي المذهب السنّي في مصر.. الدور الذي قاموا به أيام الحملات الصليبية، وأيام التتار، والذي قاموا به بعد ذلك في معارك المسلمين اللاحقة مع الصليبيين.. ومع الحملة الفرنسية على مصر، ومع الاحتلال الإنجليزي لمصر، ومع الاحتلال اليهودي لمصر.

ونسأل الله عز وجل أن يضع دائمًا أقدام علماء الأزهر على الطريق الصحيح لقيادة الأمة في قضاياها الحرجة، ومواقفها الخطِرة.

وأصبح شعب مصر مؤهلًا تمامًا ليوم اللقاء.

واستمر إعداد الجيش وتجهيزه، وجمع المتطوعين، وتدريب المجاهدين، وذلك لمدة خمسة أشهر، من شهر ربيع الأول سنة 658 هجرية إلى نهاية شهر رجب من السنة نفسها.

[1] البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب كنتم خير أمة أخرجت للناس (4557).



د.راغب السرجاني