ليلة بيضاء
11-11-2018, 04:46 PM
ليلة بيضاء.



صعد بوط بوط مع الشارع عند منتصف الليل؛ شاب مدمن على شرب الخمر، أعمى من سنوات، لا يقوى على الوقوف، مرة يسقط ومرة يميل بقامته القصيرة المدكوكة والمنفوخة على باب منزل أو محل تجارة، يصدمه بقوة غير مكترث بمن سيخرج متأففا أو غاضبا؛ يشغلهم دائما بكونه أعمى "وليس على الأعمى حرج"؛ لعل هذا ما طبع في دماغه من آي القرآن، حجة أضعف حيلها بثقل ما علق عليها من كوارث، إنه لئيم، معتاد على هذه الصعلكة. يغني أجمل ما تحفظ ذاكرته من كلاسيكيات الأغاني الأمازيغية، وعندما يمل الغناء يخرج نايه الحديدي من إبطه، فيبدأ عزف ألحان شجية ساحرة.
نهض مجددا بعد سقوط يخبط طريقه إلى أحد الأزقة الموصلة إلى منزله، والزقاق ضيق، لا يسع لثلاثة أشخاص بالكاد، في حي فقير مهمش، فيه آلة نقل حديدية مركونة عند أحد الزوايا. انتصف الزقاق ثم رفع يده مقدما إياها على جسده يخشى الارتطام بالآلة؛ دراجة نارية ناقلة للسلع، متواجدة على جنب باب منزل صاحبها، رجل اسمه لكبير، يعلم بوط بوط بتواجدها لأكثر من شهرين، كم من اصطدام وشجار حاد وقع بينهما؟
بلغها وجلس بالقرب منها على غير العادة، بجسد لم يأخذ راحة منذ بدأ الشرب، اتكأ وأسند ظهرها لها رغم أنه يقظ من أي اصطدام آخر مباغت، فأضعف ضربة وأصغرها برغي قد يسقط على رأسه، لذا يرفض خفض انتباهه، بقي حذرا مدة ليست بالقصيرة، يترقب، بينما لم يكن غير الصمت، يخدش سكونه بأقدامه عندما يتحرك بفظاظة، تفاجأ، أن علَّ جسمه الهدوء والراحة تباعا؛ أكثر من الهدوء بدت دراجة لكبير وديعة وحالمة. تفطن عقله المخمر وسأل الدراجة أين أخفيت عني خوفي وحذري؟ لماذا لا أشعر بأي منهما؟ هيا أجيبيني؟ وهو يقلب السؤال والسؤال في رأسه المقلوب، رفع يداه وأخذ في لمس الدراجة وتحسس شكلها، فعين البصير يداه، رغم الخمر فيداه لن تكذبا، دهش كثيرا، ولم يصدق أن الدراجة تنعم بهذا الجمال، رقيقة ولطيفة الملمس، كأن الملائكة من نقش شكلها، وليس الحداد ولا اللحام، خجل وشعر بالعار من نفسه، كم كان وضيعا؟. وهو مستمتع غارق في لمسها والمسح عليها، فطر قلبه أن وجدها وحيدة تقطر بردا، وهي ما فتئت تدخل الفرح لهذه الأسرة يوما بعد يوم، وكم قلوبا أدفأت لصغارها؟، كيف تكون الدراجة بهذا الموت وهي من تبعث الحياة؟ كنهر في السماء لا على الأرض يجري ويسقي الأسرة. استنكر الحال وأخذ نفسا عميقا، ثم أخرج قنينة الخمر البلاستيكية أرفقها بكأس زجاجي صغير، أروى عَطْشَاهُ في الداخل، فأطلقها سيولا صداحة تغني وتعزف على الناي، بأصوات فخمة وقوية، أرق من الحجر وألين من الحديد، كالذهب، كالفضة، ككل المعادن، لشيء من السيد محمد مغني، أداء وغناء لم تسمع الدراجة كمثله يوما طيلة حياتها الشقية، ولم يفعله بوط بوط في أي ليلة لا آتت من قبل ولا من بعد، طاب المقام وأرخت الدراجة عنقها وأخذها السمع البهي، الحسن، أطلق بوط بوط ذراعيه يحضن العجلة ويقبلها في عز الثمالة، ثم يردد:
أَمَارْكْ أَمَارْكْ "الشوق الشوق"
آذَأخْ يِنَغْ أَمَاس يِيظْ "سيقتلنا عند منتصف الليل"
وُرْذَا ثْتْرَرَانْ إِكُوذَارْ وْلَا ثِفْرْوِينْ. "لن ترده الجدران ولا السقوف الخشبية"
لم يتوقف عن العناق والغناء لساعة، حتى استنزف بوط بوط طاقة الراحة، بقي هادئا للحظة ثم بدأ في لملمة الرحيل، استجمع قواه وقبل الوداع نزع معطفه، غطى به الدراجة، ولما دلف طريق العودة. كم كانت الصدمة، بدا الأمر عاطفيا، مشحونا بالمشاعر لأقصى درجة؛ مقود الدراجة يمسك بوط بوط من يديه، يريده لشيء ما، رغم عظمة اللحظة وغرابتها، لم تثر في نفس بوط بوط دهشة، حتى لما نقر صوت رزين شجي في أذنه كأنه نقش لطائر على الخشب، ينساب بين أسلاك الدراجة الكهربائية، بلطف يسأل: لما فعلت هذا؟ فبوط بوط مرفوع في القمر لا يسمع لمن هم في الأرض، أمهلها رويدا ثم أرخى يداه وانسل من المقود كالحرير غير مهتم يدندن:
أَمَارْكْ أَمَارْكْ أَذَاخْ يِنَغْ أَمَاسْ يِيظْ.
غادر بوط بوط واختفى عند أقصى الزقاق، لم يكن أمام رحيله ومغادرته إلا أن أدخل لكبير المفتاح في الدراجة يدير المحرك كي يسترزق يومه، لما سئم انتظار الجواب.


22/10/2018