تفسير سورة النازعات للشيخ العثيمين 1.2
11-04-2014, 02:11 PM
بسم الله وحده والصلاةوالسلام على أشرف المرسلين
نتابع مع الشيخ العثيمين رحمه الله في تفسيره الممتع لجزء عمّ
قال الله عز وجل : (( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )) (( وَالنَّزِعَتِ غَرْقاً * وَالنَّشِطَتِ نَشْطاً * وَالسَّبِحَتِ سَبْحاً * فَالسَّبِقَتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَتِ أَمْراً )) البسملة آية من كتاب الله مستقلة لا تتبع السورة التي قبلها ولا التي بعدها ولهذا كان القول الراجح أن البسملة ليست من الفاتحة بل هي مستقلة، ودليل ذلك حديث أبي هريرة الثابت المخرج في الصحيحين أن الله قال:( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال : الحمد لله رب العالمين ، قال الله تعالى: حمدني عبدي ... ) وذكر تمام الحديث، كما أنها أيضاً ليست آية من السور الأخرى، أما الذي نشاهده في المصحف من أنها آية في الفاتحة دون غيرها إنما هو على رأي بعض العلماء، ولكن الصواب ما ذكرت لكم بأنها آية مستقلة، وهذا يعني أنه لو اقتصر الإنسان في سورة الفاتحة على قوله:(( الحمد لله رب العالمين...) الخ السورة لكانت صلاته صحيح . إلا أنها لا توجد في أول سورة براءة وسبب ذلك أنه لم ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين السورتين آية البسملة، فلذلك لم تكن موجودة، وأما تعليل بعض العلماء بأنها - أي سورة براءة- نزلت بالسيف فإنه تعليل عليل لا يصح لأن السيف إذا كان بحق أو حق فلا بد . يقول الله عز وجل: (( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )) (( وَالنَّزِعَتِ غَرْقاً * وَالنَّشِطَتِ نَشْطاً * وَالسَّبِحَتِ سَبْحاً * فَالسَّبِقَتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَتِ أَمْراً )) كل هذه الأوصاف للملائكة على حسب أعمالهم التي أمرهم الله عزوجل بها فــ(( والنازعات غرقا )) يعني الملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار تنزعها (( غرقا )) أي نزعاً بشدة. (( والناشطات نشطا )) يعني الملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين، تنشطها نشطاً: أي تسلها برفق كالأنشوطة، وأظنكم تعرفون الأنشوطة: الربط الذي يسمونه عندنا " التكة " أو ما أشبه ذلك من الكلمات، يعني يكون ربطاً بحيث إذا سللت أحد الطرفين انفكت العقدة هذا ينحل بسرعة وبسهولة، فهؤلاء الملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين تنشطها نشطاً أي: تسلها برفق، وسبب ذلك أن الملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار إذا دعت الروح إلى الخروج تناديها بأقبح الأوصاف تقول الملائكة لروح الكافر: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي إلى غضب الله وما أشبه هذا من الكلام، فتنفر تنفر الروح لا تريد أن تخرج إلى هذا، وتتفرق في الجسد- والعياذ بالله -حتى يقبضوها بشدة، وينزعوها نزعاً يكاد يتمزق الجسد منها من شدة النزع. أما أرواح المؤمنين ـ جعلني الله وإياكم منهم ـ فإن الملائكة إذا نزلت لقبضها تبشرها: اخرجي أيتها النفس الطيبة ،كانت في الجسد الطيب اخرجي إلى رضوان الله، وما أشبه هذا من الكلام الذي يهون عليها أن تفارق جسدها الذي ألفته فتخرج بسهولة، ولهذا لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ). قالت عائشة: يا رسول الله: كلنَّا يكره الموت، فقال: ( ليس الأمر ذلك ولكن المؤمن- يعني إذا جاءه أجله - يبشر برحمة من الله ورضوان فيحب لقاء الله )، لأنه في تلك اللحظة يرى أنه سينتقل إلى دار أحسن من الدار التي فارقها فيفرح كما يفرح أحدنا إذا قيل له أخرج من بيت الطين إلى بيت المسلح القصر المشيد الطيب، فيفرح فيحب لقاء الله، والكافر ـ والعياذ بالله ـ بالعكس إذا بشر بالغضب والعذاب فإنه يكره أن يموت، ويكره لقاء الله فيكره الله لقاءه. إذن: (( والنازعات غرقا )) : هي الملائكة التي تنزع أرواح الكفار تنزعها بشدة ، (( والناشطات نشطا )): الملائكة التي تقبض أرواح المؤمنين بسهولة ويسر. (( فالسابقات سبقاً )) أيضاً هي الملائكة تسبق إلى أمر الله عز وجل، ولهذا كانت الملائكة أسبق إلى أمر الله وأقوم بأمر الله من بني آدم، قال الله تعالى في وصف ملائكة النار: (( عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون )).. وقال عز وجل: (( ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون. يسبحون الليل والنهار لا يفترون )) فهم سباقون إلى أمر الله عز وجل بما يأمرهم لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لقوتهم وقدرتهم على فعل أوامر الله عز وجل. (( والسابحات سبحا )) هي الملائكة تسبح بأمر الله، أي تسرع فيه كما يسرع السابح في الماء، وكما قال تعالى عن الشمس والقمر والليل والنهار (( كل في فلك يسبحون )) فالمعنى أنها تسبح بأمر الله عز وجل على حسب ما أراد الله سبحانه وتعالى، وهم أي الملائكة أقوى من الجن، والجن أقوى من البشر، انظر إلى قوله تعالى عن سليمان: (( يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين. قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين. قال الذي عنده علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك )) يعني إذا مددت طرفك ثم رجعته فقبل أن يرجع إليك آتيك به (( فلما رآه مستقرّاً عنده )) في الحال رآه (( قال هذا من فضل ربي ليبلوني ءَأَشكر أم أكفر )) قال العلماء: إنه حملته الملائكة حتى يأتوا به إلى سليمان من أين؟ من اليمن، وسليمان بالشام بلحظة فدل هذا على أن قوة الملائكة أكبر بكثير من قوة الجن، وقوة الجن أكبر من بني آدم؛ لأنه لا يستطيع أحد من بني آدم أن يأتي بعرش ملكة سبأ من اليمن إلى الشام قبل مدة طويلة، فالحاصل أن الملائكة تسبح بأمر الله عز وجل بما يأمرها به. (( فالمدبرات أمراً )) أيضاً وصف للملائكة تدبر الأمر، وهو واحد الأمور يعني أمور الله عز وجل لها ملائكة تدبرها، ولننظر: جبرائيل موكل بالوحي يتلقاه من الله وينزل به على الرسل، إسرافيل موكل بنفخ الصور الذي يكون عند يوم القيامة ينفخ في الصور فيفزع الناس ويموتون، ثم ينفخ فيه أخرى فيبعثون، وهو أيضاً من حملة العرش، ميكائيل موكل بالقطر والنبات وبالمطر والنبات، ملك الموت موكل بالأرواح، مالك موكل بالنار، رضوان موكل بالجنة، عن اليمين وعن الشمال قعيد موكل بالأعمال ، كلٌّ يدبر ما أمره الله عز وجل به (( فالمدبرات أمراً ))، إذن هذه الأوصاف كلها لمن؟ هذه الأوصاف للملائكة على حسب أعمالهم، وأقسم الله سبحانه وتعالى بالملائكة لأنهم من خير المخلوقات، ولا يقسم الله سبحانه وتعالى بشيء إلا وله شأن عظيم إما في ذاته، وإما لكونه من آيات الله عز وجل. ثم قال تعالى: (( يوم ترجف الراجفة. تتبعها الرادفة )) هذه (( يوم ترجف )) متعلقة بمحذوف والتقدير: اذكر يا محمد وذكّر الناس بهذا اليوم العظيم: (( ترجف الراجفة تتبعها الرادفة ))، وهما النفختان في الصور، النفخة الأولى: ترجف الناس ويفزعون ثم يموتون عن آخرهم إلا من شاء الله، والنفخة الثانية: يبعثون من قبورهم فيقوم الناس من قبورهم مرة واحدة، قال الله تعالى: (( فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة )). إذا رجفت الراجفة وتبعتها الرادفة انقسم الناس إلى قسمين: (( قلوب يومئذ واجفة. أبصارها خاشعة )): وهذه قلوب الكفار (( واجفة )) أي: خائفة خوفاً شديداً. (( أبصارها خاشعة )) يعني ذليلة لا تكاد تحدق أو تنظر بقوة ولكنه قد غُضت أبصارهم ـ والعياذ بالله ـ لذلهم قال الله تعالى: (( وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي )).- نسأل الله تعالى أن يتولانا وإياكم في الدنيا والآخرة وأن يجعلنا ممن نجوا ذلك اليوم من عذاب الله وأن يجعلنا من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين في الدنيا والآخرة-. قال الله تبارك وتعالى في بيان يوم الساعة : (( فإنما هي زجرة واحدة. فإذا هم بالساهرة )) زجرة من الله عز وجل يزجرون ويصاح بهم فيقومون من قبورهم قيام رجل واحد على ظهر الأرض بعد أن كانوا في بطنها قال الله تبارك وتعالى: (( إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون )). كل الخلق في هذه الكلمة الواحدة يخرجون من قبورهم أحياء، ثم يحضرون إلى الله عز وجل ليجازيهم، ولهذا قال: (( فإنما هي زجرة واحدة. فإذا هم بالساهرة )) وهذا كقوله تعالى: (( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر)). وهذا يعني ما أمر الله إن أراد شيئاً إنما يقول إلا واحدة فقط : (( كن )) ولا يتأخر هذا عن قول الله لحظة (( إلا واحدة كلمح بالبصر )) والله عز وجل لا يعجزه شيء، فإذا كان الخلق كلهم يقومون من قبورهم لله عز وجل بكلمة واحدة فهذا أدلّ دليل على أن الله تعالى على كل شيء قدير، وأن الله لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض كما قال تعالى: (( وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً )) (( فإنما هي زجرة واحدة. فإذا هم بالساهرة )) . ثم قال تعالى مبيناً ما جرى للأمم قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وليعلم أن قصص الله عز وجل عليه وأخبار الأمم السابقة له فوائد كثيرة وعبر عظيمة كما قال تعالى: (( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)) فهم من ذلك تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام عما أصابه من قومه من الأذى في القول والفعل،فكأن الله يقول له: إن الرسل من قبلك قد أوذوا (( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا .و لا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين )) ، وأيضاً وكذلك إن فيها تهديداً للمكذّبين لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة من العذاب والنكال، قال الله تبارك وتعالى: (( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ))، والعبر في القصص قصص الأنبياء كثيرة. قال الله تعالى: (( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى )) والخطاب في قوله (( هل أتاك )) للنبي صلى الله عليه و آله وسلم إذن و لكل من يتأتى خطابه ويصح توجيه الخطاب إليه، ويكون على المعنى الأول (( هل أتاك )) يا محمد، وعلى المعنى الثاني: (( هل أتاك )) أيها الإنسان (( حديث موسى )) وهو ابن عمران عليه الصلاة والسلام أفضل أنبياء بني إسرائيل، وهو أحد أولي العزم الخمسة الذين هم: محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونوح، وقد ذكروا - أعني هؤلاء الخمسة- في القرآن في موضعين، أحدهما في الأحزاب في قوله تعالى: (( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم )). والثاني في قوله تعالى: (( شرع لكم من الدين ما وصَّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى )). وحديث موسى عليه الصلاة والسلام ذكر في القرآن أكثر من غيره؛ لأن موسى هو نبي اليهود وهم كثيرون في المدينة وحولها في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت قصص موسى أكثر ما قص علينا من نبأ الأنبياء وأشملها وأوسعها وفي قوله: (( هل أتاك حديث موسى )) تشويق للسامع ليستمع إلى ما جرى في هذه القصة. (( إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى )) ناداه الله عز وجل نداءً سمعه بصوت الله عز وجل، قال الله تعالى: (( وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيًّا ))، (( إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ )) فرعون كان ملك مصر، وكان يقول لقومه إنه ربهم الأعلى، وأنه لا إله غيره (( قال يا أيها الملا ما علمت لكم من إله غيري )) فادعى ما ليس له، وأنكر حق غيره وهو الله عز وجل، وقوله: (( بالواد المقدس )) هو الطور، والوادي هو مجرى الماء، وسماه الله مقدساً لأنه كان فيه الوحي إلى موسى عليه الصلاة والسلام. وقوله: (( طوى )) اسم للوادي . مخاطباً موسى صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (( اذهب إلى فرعون إنه طغى )) ، فأمر الله نبيه موسى أن يذهب إلى فرعون وهذا هو الرسالة، وبيّن سبب ذلك وهو طغيان هذا الرجل ـ أعني فرعون ـ وفي سورة طه قال: (( اذهبا إلى فرعون إنه طغى )). ولا منافاة بين الآيتين وذلك أن الله تعالى أرسل موسى أولاً ثم طلب موسى صلى الله عليه وآله وسلم من ربه أن يشد أزره بأخيه هارون فأرسل هارون مع موسى فصار موسى وهارون كلاهما مرسل إلى فرعون. وقوله تعالى: (( إنه طغى )) أي: زاد على حده؛ لأن الطغيان هو الزيادة، ومنه قوله تعالى: (( إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية )). طغى أي : زاد، ومنه الطاغوت: لأن فيه مجاوزة الحد. وهنا يقول الله عزوجل : (( إنه طغى )) (( فقل هل لك إلى أن تزكى )) : الاستفهام هنا لتشويق فرعون أن يتزكى مما هو عليه من الشر والفساد، وأصل الزكاة النمو والزيادة، وتطلق بمعنى الإسلام والتوحيد، ومنه قوله تعالى: (( وويل للمشركين. الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون )) . ومنه قوله تعالى: (( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها )).(( فقل هل لك إلى أن تزكى )) (( وأهديك إلى ربك )) أي أدلك إلى ربك أي إلى دين الله عز وجل الموصل إلى الله. (( فتخشى )) أي فتخاف الله عز وجل على علم منك؛ لأن الخشية هي الخوف المقرون بالعلم، فإن لم يكن علم فهو خوف مجرد، وهذا هو الفرق بين الخشية والخوف. الفرق بينهما أن الخشية عن علم قال الله تعالى: (( إنما يخشى الله من عباده العلماء )). وأما الخوف فهو خوف مجرد ذعر يحصل للإنسان ولو بلا علم، ولهذا قد يخاف الإنسان من شيء يتوهمه، قد يرى في الليلة الظلماء شبحاً لا حقيقة له فيخاف منه، فهذا ذعر مبني على وهم، لكن الخشية تكون عن علم. (( وأهديك إلى ربك فتخشى )) (( فأراه الآية الكبرى )) أي: فذهب موسى عليه الصلاة والسلام وقال لفرعون ما أمره الله به (( هل لك إلى أن تزكى . وأهديك إلى ربك فتخشى )) ولما كان البشر لا يؤمنون ولا يقبلون دعوى شخص أنه رسول إلا بآية كما هو ظاهر أن الإنسان لا يقبل من أحد دعوى إلا ببينة جعل الله سبحانه وتعالى مع كل رسول آية تدل على صدقه، وهنا قال: (( فأراه الآية الكبرى )) يعني أرى موسى فرعون الآية الكبرى، فما هي هذه الآية؟ الآية أن معه عصاً من خشب من فروع الشجر كما هو معروف، فكان إذا وضعها في الأرض صارت حية تسعى ثم يحملها فتعود عصا، وهذا من آيات الله أن شيئاً جماداً إذا وضع على الأرض صار حية تسعى، وإذا حمل من الأرض عاد في الحال فوراً إلى حاله الأولى وهي أنه عصا من جملة العصيان (( فأراه الآية الكبرى )) ، وإنما بعثه عليه الصلاة والسلام بهذه الآية، وبكونه يدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء أي من غير عيب، أي: بيضاء بياضاً ليس بياض البرص ولكنه بياض جعله الله آية، إنما بعثه الله بذلك بالعصا واليد؛ لأنه كان في زمن موسى السحر منتشراً شائعاً فأرسله الله عز وجل بشيء يشبه السحر لكنه ليس بسحر حقيقة من أجل أن يغلب السحرة الذين تصدّوا لموسى عليه الصلاة والسلام. قال أهل العلم: وفي عهد عيسى صلى الله عليه وآله وسلم انتشر الطب انتشاراً عظيماً، فجاء عيسى بأمر يعجز الأطباء، وهو أنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برأ، إذا جيء إليه بشخص فيه عاهة أي عاهة تكون مسحه بيده ثم برأ بإذن الله (( يبرىء الأكمه والأبرص )) مع أن البرص لا دواء له لكن هو يبرىء الأبرص بإذن الله عز وجل، ويبرىء الأكمه الذي خلق بلا عيون يبرئه، وأشد من هذا وأعظم أنه يحيي الموتى بإذن الله، يؤتى إليه بالميت فيتكلم معه ثم تعود إليه الحياة، وأشد من ذلك وأبلغ أنه يخرج الموتى بإذن الله يخرجهم من أي مكان؟ من قبورهم، يقف على القبر وينادي صاحب القبر فيخرج من القبر حيًّا، هذا شيء لا يمكن لأي طب أن يبلغه، ولهذا كانت آية عيسى في هذا الوقت مناسبة تماماً لما كان عليه الناس. قال أهل العلم: أما رسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد أتى إلى العرب وهم يتفاخرون في الفصاحة، ويرون أن الفصاحة أعظم منقبة للإنسان فجاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بهذا القرآن العظيم الذي أعجز أمراء الفصاحة، وعجزوا عن أن يأتوا بمثله، قال الله تعالى: (( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً )) : يعني لو كان بعضهم يعاون بعضاً فإنهم لن يأتوا بمثله. حينئذ نقول إن موسى عليه الصلاة والسلام أرى فرعون الآية الكبرى ولكن هل انتفع بالآيات؟ لا، (( وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون )) . (( إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب )) فالذين ليس في قلوبهم استعداد للهداية لا يهتدون ولو جاءتهم كل آية ـ والعياذ بالله ـ ولهذا قال: (( فكذب وعصى )) كذب الخبر، وعصى الأمر، يعني قال لموسى إنك لست رسولاً بل قال (( إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون )) . وعصى الأمر فلم يمتثل أمر موسى ولم ينقد لشرعه.
يتبع بإذنه تعالى
نتابع مع الشيخ العثيمين رحمه الله في تفسيره الممتع لجزء عمّ
قال الله عز وجل : (( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )) (( وَالنَّزِعَتِ غَرْقاً * وَالنَّشِطَتِ نَشْطاً * وَالسَّبِحَتِ سَبْحاً * فَالسَّبِقَتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَتِ أَمْراً )) البسملة آية من كتاب الله مستقلة لا تتبع السورة التي قبلها ولا التي بعدها ولهذا كان القول الراجح أن البسملة ليست من الفاتحة بل هي مستقلة، ودليل ذلك حديث أبي هريرة الثابت المخرج في الصحيحين أن الله قال:( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال : الحمد لله رب العالمين ، قال الله تعالى: حمدني عبدي ... ) وذكر تمام الحديث، كما أنها أيضاً ليست آية من السور الأخرى، أما الذي نشاهده في المصحف من أنها آية في الفاتحة دون غيرها إنما هو على رأي بعض العلماء، ولكن الصواب ما ذكرت لكم بأنها آية مستقلة، وهذا يعني أنه لو اقتصر الإنسان في سورة الفاتحة على قوله:(( الحمد لله رب العالمين...) الخ السورة لكانت صلاته صحيح . إلا أنها لا توجد في أول سورة براءة وسبب ذلك أنه لم ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين السورتين آية البسملة، فلذلك لم تكن موجودة، وأما تعليل بعض العلماء بأنها - أي سورة براءة- نزلت بالسيف فإنه تعليل عليل لا يصح لأن السيف إذا كان بحق أو حق فلا بد . يقول الله عز وجل: (( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )) (( وَالنَّزِعَتِ غَرْقاً * وَالنَّشِطَتِ نَشْطاً * وَالسَّبِحَتِ سَبْحاً * فَالسَّبِقَتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَتِ أَمْراً )) كل هذه الأوصاف للملائكة على حسب أعمالهم التي أمرهم الله عزوجل بها فــ(( والنازعات غرقا )) يعني الملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار تنزعها (( غرقا )) أي نزعاً بشدة. (( والناشطات نشطا )) يعني الملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين، تنشطها نشطاً: أي تسلها برفق كالأنشوطة، وأظنكم تعرفون الأنشوطة: الربط الذي يسمونه عندنا " التكة " أو ما أشبه ذلك من الكلمات، يعني يكون ربطاً بحيث إذا سللت أحد الطرفين انفكت العقدة هذا ينحل بسرعة وبسهولة، فهؤلاء الملائكة الموكلة بقبض أرواح المؤمنين تنشطها نشطاً أي: تسلها برفق، وسبب ذلك أن الملائكة الموكلة بقبض أرواح الكفار إذا دعت الروح إلى الخروج تناديها بأقبح الأوصاف تقول الملائكة لروح الكافر: اخرجي أيتها النفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث، اخرجي إلى غضب الله وما أشبه هذا من الكلام، فتنفر تنفر الروح لا تريد أن تخرج إلى هذا، وتتفرق في الجسد- والعياذ بالله -حتى يقبضوها بشدة، وينزعوها نزعاً يكاد يتمزق الجسد منها من شدة النزع. أما أرواح المؤمنين ـ جعلني الله وإياكم منهم ـ فإن الملائكة إذا نزلت لقبضها تبشرها: اخرجي أيتها النفس الطيبة ،كانت في الجسد الطيب اخرجي إلى رضوان الله، وما أشبه هذا من الكلام الذي يهون عليها أن تفارق جسدها الذي ألفته فتخرج بسهولة، ولهذا لما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ). قالت عائشة: يا رسول الله: كلنَّا يكره الموت، فقال: ( ليس الأمر ذلك ولكن المؤمن- يعني إذا جاءه أجله - يبشر برحمة من الله ورضوان فيحب لقاء الله )، لأنه في تلك اللحظة يرى أنه سينتقل إلى دار أحسن من الدار التي فارقها فيفرح كما يفرح أحدنا إذا قيل له أخرج من بيت الطين إلى بيت المسلح القصر المشيد الطيب، فيفرح فيحب لقاء الله، والكافر ـ والعياذ بالله ـ بالعكس إذا بشر بالغضب والعذاب فإنه يكره أن يموت، ويكره لقاء الله فيكره الله لقاءه. إذن: (( والنازعات غرقا )) : هي الملائكة التي تنزع أرواح الكفار تنزعها بشدة ، (( والناشطات نشطا )): الملائكة التي تقبض أرواح المؤمنين بسهولة ويسر. (( فالسابقات سبقاً )) أيضاً هي الملائكة تسبق إلى أمر الله عز وجل، ولهذا كانت الملائكة أسبق إلى أمر الله وأقوم بأمر الله من بني آدم، قال الله تعالى في وصف ملائكة النار: (( عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون )).. وقال عز وجل: (( ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون. يسبحون الليل والنهار لا يفترون )) فهم سباقون إلى أمر الله عز وجل بما يأمرهم لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، لقوتهم وقدرتهم على فعل أوامر الله عز وجل. (( والسابحات سبحا )) هي الملائكة تسبح بأمر الله، أي تسرع فيه كما يسرع السابح في الماء، وكما قال تعالى عن الشمس والقمر والليل والنهار (( كل في فلك يسبحون )) فالمعنى أنها تسبح بأمر الله عز وجل على حسب ما أراد الله سبحانه وتعالى، وهم أي الملائكة أقوى من الجن، والجن أقوى من البشر، انظر إلى قوله تعالى عن سليمان: (( يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين. قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين. قال الذي عنده علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك )) يعني إذا مددت طرفك ثم رجعته فقبل أن يرجع إليك آتيك به (( فلما رآه مستقرّاً عنده )) في الحال رآه (( قال هذا من فضل ربي ليبلوني ءَأَشكر أم أكفر )) قال العلماء: إنه حملته الملائكة حتى يأتوا به إلى سليمان من أين؟ من اليمن، وسليمان بالشام بلحظة فدل هذا على أن قوة الملائكة أكبر بكثير من قوة الجن، وقوة الجن أكبر من بني آدم؛ لأنه لا يستطيع أحد من بني آدم أن يأتي بعرش ملكة سبأ من اليمن إلى الشام قبل مدة طويلة، فالحاصل أن الملائكة تسبح بأمر الله عز وجل بما يأمرها به. (( فالمدبرات أمراً )) أيضاً وصف للملائكة تدبر الأمر، وهو واحد الأمور يعني أمور الله عز وجل لها ملائكة تدبرها، ولننظر: جبرائيل موكل بالوحي يتلقاه من الله وينزل به على الرسل، إسرافيل موكل بنفخ الصور الذي يكون عند يوم القيامة ينفخ في الصور فيفزع الناس ويموتون، ثم ينفخ فيه أخرى فيبعثون، وهو أيضاً من حملة العرش، ميكائيل موكل بالقطر والنبات وبالمطر والنبات، ملك الموت موكل بالأرواح، مالك موكل بالنار، رضوان موكل بالجنة، عن اليمين وعن الشمال قعيد موكل بالأعمال ، كلٌّ يدبر ما أمره الله عز وجل به (( فالمدبرات أمراً ))، إذن هذه الأوصاف كلها لمن؟ هذه الأوصاف للملائكة على حسب أعمالهم، وأقسم الله سبحانه وتعالى بالملائكة لأنهم من خير المخلوقات، ولا يقسم الله سبحانه وتعالى بشيء إلا وله شأن عظيم إما في ذاته، وإما لكونه من آيات الله عز وجل. ثم قال تعالى: (( يوم ترجف الراجفة. تتبعها الرادفة )) هذه (( يوم ترجف )) متعلقة بمحذوف والتقدير: اذكر يا محمد وذكّر الناس بهذا اليوم العظيم: (( ترجف الراجفة تتبعها الرادفة ))، وهما النفختان في الصور، النفخة الأولى: ترجف الناس ويفزعون ثم يموتون عن آخرهم إلا من شاء الله، والنفخة الثانية: يبعثون من قبورهم فيقوم الناس من قبورهم مرة واحدة، قال الله تعالى: (( فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة )). إذا رجفت الراجفة وتبعتها الرادفة انقسم الناس إلى قسمين: (( قلوب يومئذ واجفة. أبصارها خاشعة )): وهذه قلوب الكفار (( واجفة )) أي: خائفة خوفاً شديداً. (( أبصارها خاشعة )) يعني ذليلة لا تكاد تحدق أو تنظر بقوة ولكنه قد غُضت أبصارهم ـ والعياذ بالله ـ لذلهم قال الله تعالى: (( وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي )).- نسأل الله تعالى أن يتولانا وإياكم في الدنيا والآخرة وأن يجعلنا ممن نجوا ذلك اليوم من عذاب الله وأن يجعلنا من أوليائه المتقين وحزبه المفلحين في الدنيا والآخرة-. قال الله تبارك وتعالى في بيان يوم الساعة : (( فإنما هي زجرة واحدة. فإذا هم بالساهرة )) زجرة من الله عز وجل يزجرون ويصاح بهم فيقومون من قبورهم قيام رجل واحد على ظهر الأرض بعد أن كانوا في بطنها قال الله تبارك وتعالى: (( إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون )). كل الخلق في هذه الكلمة الواحدة يخرجون من قبورهم أحياء، ثم يحضرون إلى الله عز وجل ليجازيهم، ولهذا قال: (( فإنما هي زجرة واحدة. فإذا هم بالساهرة )) وهذا كقوله تعالى: (( وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر)). وهذا يعني ما أمر الله إن أراد شيئاً إنما يقول إلا واحدة فقط : (( كن )) ولا يتأخر هذا عن قول الله لحظة (( إلا واحدة كلمح بالبصر )) والله عز وجل لا يعجزه شيء، فإذا كان الخلق كلهم يقومون من قبورهم لله عز وجل بكلمة واحدة فهذا أدلّ دليل على أن الله تعالى على كل شيء قدير، وأن الله لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض كما قال تعالى: (( وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً )) (( فإنما هي زجرة واحدة. فإذا هم بالساهرة )) . ثم قال تعالى مبيناً ما جرى للأمم قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وليعلم أن قصص الله عز وجل عليه وأخبار الأمم السابقة له فوائد كثيرة وعبر عظيمة كما قال تعالى: (( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)) فهم من ذلك تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام عما أصابه من قومه من الأذى في القول والفعل،فكأن الله يقول له: إن الرسل من قبلك قد أوذوا (( ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا .و لا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين )) ، وأيضاً وكذلك إن فيها تهديداً للمكذّبين لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة من العذاب والنكال، قال الله تبارك وتعالى: (( أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ))، والعبر في القصص قصص الأنبياء كثيرة. قال الله تعالى: (( هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى )) والخطاب في قوله (( هل أتاك )) للنبي صلى الله عليه و آله وسلم إذن و لكل من يتأتى خطابه ويصح توجيه الخطاب إليه، ويكون على المعنى الأول (( هل أتاك )) يا محمد، وعلى المعنى الثاني: (( هل أتاك )) أيها الإنسان (( حديث موسى )) وهو ابن عمران عليه الصلاة والسلام أفضل أنبياء بني إسرائيل، وهو أحد أولي العزم الخمسة الذين هم: محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ونوح، وقد ذكروا - أعني هؤلاء الخمسة- في القرآن في موضعين، أحدهما في الأحزاب في قوله تعالى: (( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم )). والثاني في قوله تعالى: (( شرع لكم من الدين ما وصَّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى )). وحديث موسى عليه الصلاة والسلام ذكر في القرآن أكثر من غيره؛ لأن موسى هو نبي اليهود وهم كثيرون في المدينة وحولها في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت قصص موسى أكثر ما قص علينا من نبأ الأنبياء وأشملها وأوسعها وفي قوله: (( هل أتاك حديث موسى )) تشويق للسامع ليستمع إلى ما جرى في هذه القصة. (( إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى )) ناداه الله عز وجل نداءً سمعه بصوت الله عز وجل، قال الله تعالى: (( وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيًّا ))، (( إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ )) فرعون كان ملك مصر، وكان يقول لقومه إنه ربهم الأعلى، وأنه لا إله غيره (( قال يا أيها الملا ما علمت لكم من إله غيري )) فادعى ما ليس له، وأنكر حق غيره وهو الله عز وجل، وقوله: (( بالواد المقدس )) هو الطور، والوادي هو مجرى الماء، وسماه الله مقدساً لأنه كان فيه الوحي إلى موسى عليه الصلاة والسلام. وقوله: (( طوى )) اسم للوادي . مخاطباً موسى صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (( اذهب إلى فرعون إنه طغى )) ، فأمر الله نبيه موسى أن يذهب إلى فرعون وهذا هو الرسالة، وبيّن سبب ذلك وهو طغيان هذا الرجل ـ أعني فرعون ـ وفي سورة طه قال: (( اذهبا إلى فرعون إنه طغى )). ولا منافاة بين الآيتين وذلك أن الله تعالى أرسل موسى أولاً ثم طلب موسى صلى الله عليه وآله وسلم من ربه أن يشد أزره بأخيه هارون فأرسل هارون مع موسى فصار موسى وهارون كلاهما مرسل إلى فرعون. وقوله تعالى: (( إنه طغى )) أي: زاد على حده؛ لأن الطغيان هو الزيادة، ومنه قوله تعالى: (( إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية )). طغى أي : زاد، ومنه الطاغوت: لأن فيه مجاوزة الحد. وهنا يقول الله عزوجل : (( إنه طغى )) (( فقل هل لك إلى أن تزكى )) : الاستفهام هنا لتشويق فرعون أن يتزكى مما هو عليه من الشر والفساد، وأصل الزكاة النمو والزيادة، وتطلق بمعنى الإسلام والتوحيد، ومنه قوله تعالى: (( وويل للمشركين. الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون )) . ومنه قوله تعالى: (( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها )).(( فقل هل لك إلى أن تزكى )) (( وأهديك إلى ربك )) أي أدلك إلى ربك أي إلى دين الله عز وجل الموصل إلى الله. (( فتخشى )) أي فتخاف الله عز وجل على علم منك؛ لأن الخشية هي الخوف المقرون بالعلم، فإن لم يكن علم فهو خوف مجرد، وهذا هو الفرق بين الخشية والخوف. الفرق بينهما أن الخشية عن علم قال الله تعالى: (( إنما يخشى الله من عباده العلماء )). وأما الخوف فهو خوف مجرد ذعر يحصل للإنسان ولو بلا علم، ولهذا قد يخاف الإنسان من شيء يتوهمه، قد يرى في الليلة الظلماء شبحاً لا حقيقة له فيخاف منه، فهذا ذعر مبني على وهم، لكن الخشية تكون عن علم. (( وأهديك إلى ربك فتخشى )) (( فأراه الآية الكبرى )) أي: فذهب موسى عليه الصلاة والسلام وقال لفرعون ما أمره الله به (( هل لك إلى أن تزكى . وأهديك إلى ربك فتخشى )) ولما كان البشر لا يؤمنون ولا يقبلون دعوى شخص أنه رسول إلا بآية كما هو ظاهر أن الإنسان لا يقبل من أحد دعوى إلا ببينة جعل الله سبحانه وتعالى مع كل رسول آية تدل على صدقه، وهنا قال: (( فأراه الآية الكبرى )) يعني أرى موسى فرعون الآية الكبرى، فما هي هذه الآية؟ الآية أن معه عصاً من خشب من فروع الشجر كما هو معروف، فكان إذا وضعها في الأرض صارت حية تسعى ثم يحملها فتعود عصا، وهذا من آيات الله أن شيئاً جماداً إذا وضع على الأرض صار حية تسعى، وإذا حمل من الأرض عاد في الحال فوراً إلى حاله الأولى وهي أنه عصا من جملة العصيان (( فأراه الآية الكبرى )) ، وإنما بعثه عليه الصلاة والسلام بهذه الآية، وبكونه يدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء أي من غير عيب، أي: بيضاء بياضاً ليس بياض البرص ولكنه بياض جعله الله آية، إنما بعثه الله بذلك بالعصا واليد؛ لأنه كان في زمن موسى السحر منتشراً شائعاً فأرسله الله عز وجل بشيء يشبه السحر لكنه ليس بسحر حقيقة من أجل أن يغلب السحرة الذين تصدّوا لموسى عليه الصلاة والسلام. قال أهل العلم: وفي عهد عيسى صلى الله عليه وآله وسلم انتشر الطب انتشاراً عظيماً، فجاء عيسى بأمر يعجز الأطباء، وهو أنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برأ، إذا جيء إليه بشخص فيه عاهة أي عاهة تكون مسحه بيده ثم برأ بإذن الله (( يبرىء الأكمه والأبرص )) مع أن البرص لا دواء له لكن هو يبرىء الأبرص بإذن الله عز وجل، ويبرىء الأكمه الذي خلق بلا عيون يبرئه، وأشد من هذا وأعظم أنه يحيي الموتى بإذن الله، يؤتى إليه بالميت فيتكلم معه ثم تعود إليه الحياة، وأشد من ذلك وأبلغ أنه يخرج الموتى بإذن الله يخرجهم من أي مكان؟ من قبورهم، يقف على القبر وينادي صاحب القبر فيخرج من القبر حيًّا، هذا شيء لا يمكن لأي طب أن يبلغه، ولهذا كانت آية عيسى في هذا الوقت مناسبة تماماً لما كان عليه الناس. قال أهل العلم: أما رسول الله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد أتى إلى العرب وهم يتفاخرون في الفصاحة، ويرون أن الفصاحة أعظم منقبة للإنسان فجاء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، بهذا القرآن العظيم الذي أعجز أمراء الفصاحة، وعجزوا عن أن يأتوا بمثله، قال الله تعالى: (( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً )) : يعني لو كان بعضهم يعاون بعضاً فإنهم لن يأتوا بمثله. حينئذ نقول إن موسى عليه الصلاة والسلام أرى فرعون الآية الكبرى ولكن هل انتفع بالآيات؟ لا، (( وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون )) . (( إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب )) فالذين ليس في قلوبهم استعداد للهداية لا يهتدون ولو جاءتهم كل آية ـ والعياذ بالله ـ ولهذا قال: (( فكذب وعصى )) كذب الخبر، وعصى الأمر، يعني قال لموسى إنك لست رسولاً بل قال (( إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون )) . وعصى الأمر فلم يمتثل أمر موسى ولم ينقد لشرعه.
يتبع بإذنه تعالى
من مواضيعي
0 السؤال عن جمال المرأة قبل الزواج
0 سُنَّة مهجورة بعد تلاوة القرآن
0 الزدة و الوعدة لشيح حماني رحمه الله
0 بشرى لمحبي وطلاب العلم الشرعي
0 بشرى لمحبي وطلاب العلم الشرعي
0 طريقة حساب فاتورة الكهرباء
0 سُنَّة مهجورة بعد تلاوة القرآن
0 الزدة و الوعدة لشيح حماني رحمه الله
0 بشرى لمحبي وطلاب العلم الشرعي
0 بشرى لمحبي وطلاب العلم الشرعي
0 طريقة حساب فاتورة الكهرباء
التعديل الأخير تم بواسطة abchir ; 13-04-2014 الساعة 06:26 PM