أسباب النصر في عين جالوت
05-10-2016, 04:58 PM




إذا كان لموقعة عين جالوت كلُّ تلك الآثار -التي عرفناها في مقال نتائج وآثار موقعة عين جالوت- فلا يفوتنا هنا أن نتدبر في أسباب هذا النصر العظيم.

لقد شرحنا بالتفصيل خطوات قطز في إعداد الأمة والجيش لهذا النصر.. وهنا -في إيجاز شديد- نعرض لبعض الأسباب التي أخذ بها قطز ومن معه من أبطال ومن علماء الإسلام وأدت في النهاية إلى هذا الانتصار المبهر.

السبب الأول: الإيمان بالله
الإيمان بالله، والاعتقاد الجازم بأن النصر لا يكون إلا من عنده سبحانه أعظم أسباب النصر.. لذلك اهتم قطز بالناحية الإيمانية عند الجيش وعند الأمة، وعظّم دور العلماء، وحفز شعبه لحرب التتار من منطلق إسلامي وليس من منطلق قومي أو عنصري، ولخص ذلك في عين جالوت بصيحته الموفقة: «واإسلاماه»، ولم يقل: وامصراه.. وامُلْكاه.. واعروبتاه!

لقد كانت الغاية واضحة جدًّا عند قطز، وكانت هويتُه إسلامية تمامًا.. ووضوح الرؤية ونقاء الهوية كان سببًا مباشرًا من أسباب النصر، بل هو أعظمها على الإطلاق.

وقد ظهر رسوخ هذا الأمر في نفس قطز عندما لجأ إلى الله بوضوح عند الأزمة الخَطِرة في عين جالوت، حيث وقف متضرعًا يناجي ربه ويقول: «يا الله.. انصر عبدك قطز على التتار».. فالدعاء هو العبادة.. الدعاء اعتراف من العبد بعبوديته لله عز وجل.. الدعاء إعلان صريح من العبد أنه فقير لرب العالمين.

لقد كان قطز يدرك في كل خطوة من خطوات إعداده أنه لن يفلح إلا إذا أراد الله عز وجل، ولذلك لا بُدَّ أن يطلب منه باستمرار وبإلحاح وبخشوع وبتضرع.. ولم ينسب النصر إلى نفسه قط.. بل كان دائمًا ينسبه إلى الله عز وجل؛ لأنه يعلم أنه كثيرًا ما طلب من الله عز وجل، وأن الله عز وجل قد تفضّل وتكرّم عليه بالنصر والتوفيق.. فلله تعالى المنّة والفضل.

السبب الثاني: الوحدة بين المسلمين
فالأمة المتفرقة لا تُنصر، وقد حرص قطز منذ اليوم الأول لارتقائه عرش مصر أن يوحّد المسلمين قدر ما يستطيع؛ فعفا عن المماليك البحرية، وجمعهم مع المماليك المعزّية، وراسل ملوك الشام الأيوبيين، وتقرب إليهم، وضم إلى قواته الشاميين والخُوارِزمية والمتطوعين بصرف النظر عن أصولهم وأعراقهم... وبذلك نجح في تحقيق ما كان يعتقد الكثيرون أنه مستحيل.السبب الثالث: إذكاء روح الجهاد في الأمة.
فقد تيقن قطز أن السبيل الأساسي لاستعادة حقوق المسلمين هو الجهاد، وأن السلام إذا صلح أن يكون اختيارًا في بعض الظروف، إلا أنه لا يمكن أن يُختار إذا انتُهبت حقوق المسلمين، وإذا سُفكت دماؤهم، وإذا شُرّدوا في الأرض.. السلام لا يكون إلا باستعادة كامل الحقوق، ولا يكون إلا ونحن أعزّاء، ولا يكون إلا ونحن نمتلك قوَّة الردع الكافية لدحر العدو إذا خالف معاهدة السلام.. أما من دون ذلك فالسلام لا يكون سلامًا بل يكون استسلامًا، وهو ما لا يُقبل في نظر الشرع.

والحق أن شعب مصر كان مؤهلًا للجهاد، ومُعظِمًا له من جرّاء الحروب الصليبية المتتالية، ولذلك كان سهلًا على قطز أن يذكّر الناس بالجهاد كسبب رئيسي من أسباب النصر، ولا بُدَّ أن تفقه الأُمَّة الإسلامية أنها لا سبيل لها لرفع رأسها في الأرض إلا بالجهاد، ولذلك فالجهاد هو ذروة سنام الإسلام.. أى أعلى ما فيه، ومن يتمسك به يكن أعلى الناس في الأرض.

السبب الرابع: الإعداد الجيد للمعركة
فقد أخذ قطز بكل الأسباب المادية لتقوية جيشه، من إعداد للسلاح وتدريب للجنود، وترتيب للصفوف، ووضع للخطة المناسبة، واختيار المكان المناسب، وعقد الأحلاف الدبلوماسية المناسبة، وتهيئة الجو على أفضل ما يكون، ويكفي أن نُذَكِر هنا بالصورة الجميلة البهية الرائعة التى كانت عليها جيوش المماليك في عين جالوت، وكأنها تتجه إلى عرض عسكري، وليس إلى معركة ضارية.

ومن لم يعدّ العدة وتوقَعَ النصر فلا شك أنه واهم.. ليس هذا من سنن الله عز وجل.

السبب الخامس: القدوة
التي ضربها قطز لجنوده ولأمته في كل الأعمال.. وتربية القدوة أعلى آلاف المرات من تربية الخطب والمقالات.. كان قطز قدوة في أخلاقه.. قدوة في نظافة يده.. قدوة في جهاده.. قدوة في إيمانه.. قدوة في عفوه..

لم يشعر الجنود قط بأنهم غرباء عن قطز.. لقد نزل قطز بنفسه إلى خندق الجنود وقاتل معهم، فكان حتمًا أن يقاتلوا معه.

السبب السادس: عدم موالاة أعداء الأمة.
فلم يوال قطز التتار قط مع فارق القوَّة والإعداد بينهما.. كما لم يوال أمراء النصارى في الشام مع احتياجه لذلك.. لقد سقط الكثير من الزعماء قبل قطز في مستنقع الموالاة للكفار، وكان منطلقُهم في ذلك أنهم يجنّبون أنفسهم أساسًا.. ثم يجنبون شعوبهم بعد ذلك -كما يدَّعون- ويلات الحروب.. فارتكبوا خطأً شرعيًا شنيعًا.. بل ارتكبوا أخطاءً مركبة؛ فتجنب الجهاد مع الحاجة إليه خطأ.. وتربية الشعب على الخنوع لأعدائه خطأ آخر.. وموالاة العدو واعتباره صديقًا خطأ ثالث..

لكن قطز كان واضح الرؤية.. وتحقق له هذا الوضوح في الرؤية بفضل تمسكه بشرع الله عز وجل.. لقد قرأ في كتاب الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: 51].

وهذا تحذير خَطِرٌ جدًّا.. من رب العالمين.

وكم هو أحمق -بل ضعيف الإيمان- من يستمع إلى هذا التحذير ثم لا يتلفت إليه.

السبب السابع: بث روح الأمل في الجيش والأمة.
فالأمة المحبطة من المستحيل أن تنتصر.. والإحباط والقنوط واليأس ليست من صفات المؤمنين.

{إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}[يوسف: 87].

لقد عمل قطز على رفع الروح المعنوية للجيش وللأمة.. ووضح لهم أن نصر الله عز وجل للأمة التي سارت في طريقه ليس أمرًا محتملًا، بل هو أمر مؤكد، وأمر يقيني.. وأمر عقائدي {كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[المجادلة: 21].

السبب الثامن: الشورى الحقيقية
سار قطز على هدي الشورى في كل خطواته تقريبًا.. الشورى التي تسعى -حقيقة- للوصول إلى أفضل الآراء، لا إلى تثبيت وتدعيم رأي الزعيم! الشورى أصل من أصول الحكم في الإسلام.. والذي لا يأخذ بها يضحّي بملايين الطاقات في شعبه، ويفترض في نفسه الكمال، ويخالف طريق الأنبياء، ويورث الضغينة في قلوب أتباعه، ويقع في الخطأ تلو الخطأ.. وفوق ذلك كلِّه يخالف أمر الله عز وجل الذي جاء بلفظ صريح في كتابه العزيز: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}[آل عمران: 159].السبب التاسع: توسيد الأمر لأهله.
فقد ولَّى قطز أولئك الذين يتصفون بصفتين رئيسيتين مهمتين لكل وظيفة -صغرت أم كبرت- هاتان الصفتان هما: الكفاءة والأمانة، كما في قوله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص: 26].

القوي في مجال عمله.. المتفوق على أقرانه.. السابق لهم.. المتقن لعمله المبدع فيه.

والأمين الذي لا يضيع حق الله ولا حق العباد ولا حق الأمة ولا حق نفسه.

وكم تخسر الأمم إذا وُسّد الأمر لغير أهله.. بل هي من علامات نهاية العالم، واقتراب القيامة.

ف عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ فقال: «إِذَا ضُيِّعَتْ الأَمَانَةُ، فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ»، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ»[1].

فإذا تولى الأمورَ رجالٌ لا يمتلكون كفاءة ولا يتصفون بأمانة، ولم يصلوا إلى مكانهم إلا بوَسَاطة أو قرابة أو رِشوة.. إذا حدث ذلك فاعلم أن النصر بعيد!

وقد رأينا في قصتنا هذه كيف ولَّى قطز فارس الدين أقطاي رئاسة الجيش مع كونه من المماليك البحرية، وكذلك ولى ركن الدين بيبرس على مقدمة جيش المسلمين في عين جالوت مع كونه منافسًا له وصاحب تاريخ وقوة، ومع كونه زعيمًا للمماليك البحرية، ورأينا كيف ولى أمراء الشام على بلادهم ولم يولِ أصحابه وأقاربه.. ومن كان على هذه الصورة فلابد أن يُنصر.. لأن من حفظ الأمانة حفظه رب العالمين. «احْفَظَ اللهَ يَحْفَظْكَ»[2]. هذه قاعدة ثابتة من قواعد النصر.

السبب العاشر: الزهد في الدنيا
وما يفشل الزعماء الوهْميُّون -في أي زمان- إلا بغرقهم في الدنيا، وانغماسهم فيها.. وما ظلموا شعوبهم، وما والَوا أعداءهم.. إلا جريًا وراء المادة، وسعيًا وراء الدنيا.

ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم التحذير من أمر الدنيا.. فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وجلسنا حوله.. فقال: «إِن مِمَّا أَخَاف عَلَيْكُم من بعدِي مَا يفتح عَلَيْكُم من زهرَة الدُّنْيَا وَزينتهَا»[3].

ولم تكن تلك هي المرة الوحيدة التي حذرنا فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر الدنيا؛ فهذا أمر متكرر كثيرًا، وبأكثر من صيغة، وفي أكثر من موقف، وليس كل ذلك إلا لخطورتها الشديدة على المسلمين.. بل على المؤمنين.

وفي قصتنا هذه رأينا الذين تعلقوا بالدنيا كيف كانت حياتهم وطموحاتهم وأحلامهم، وكيف باعوا أنفسهم وشعوبهم وأخلاقهم، بل وعقيدتهم، من أجل أعراضٍ رخيصة من الدنيا.. ورأينا كيف عاشوا في ذلة وصغار، وكيف ماتوا في ذلة كذلك.. رأينا محمد بن خُوارِزم، وجلال الدين بن خُوارِزم، والناصر لدين الله الخليفة العباسي، والمستعصم بالله، وبدر الدين لؤلؤ، والناصر الأيوبي وغيرهم..

أما قطز فقد فطن إلى هذا المرض الذي ابتلي به هؤلاء الضعفاء فزهد فيه وتجنبه، وعلم أن متاع الدنيا -مهما كثر- فهو قليل، وأن نعيمها -مهما كان له بريق- فهو زائف ومنقطع؛ فلذلك لم يُفتن بالدنيا لحظة، ولم يطمع فيها قيد أنملة، بل حرص على أن يبيع دنياه كلها، ويشتري الجنة، فترك المال الغزير الذي كان تحت يده، ولم يطمع فيه.. بل باع ما يمتلكه ليجهز جيوش المسلمين المتجهة لحرب التتار.

لم يطمع في كرسي الحكم، بل عرض القيادة على الناصر يوسف الأيوبي -على قلة شأنه- إذا قبل بالوحدة بين مصر والشام، ولم يطمع في استقرار عائلي أو اجتماعي أو أمن وأمان، فكرس حياته للجهاد والقتال، على صعوبته وخطورته، ولم يطمع في أن يمتد به العمر؛ فخرج بنفسه على رأس الجيوش ليحارب التتار في حرب مهلكة، ولا شك أنه يعلم أنه سيكون أول المطلوبين للقتل، ولا شك أنه يدرك كذلك أنه إذا لم يخرج بنفسه، وأخرج من ينوب عنه، فإن أحدًا لن يلومه؛ لأنه الملك الذي يجب أن يُحافظ على نفسه لأجل مصلحة الأمة، لكنه اشتاق بصدق إلى الجهاد في سبيل الله، وتمنى الموت بين صليل السيوف وأسنة الرماح، وزهد في هذه الدنيا الفانية؛ فلم يتردد لحظة، ولم يجزع قط، وكانت حياته تطبيقًا عمليًا كاملًا لكلماته.. ولذلك أعطاه الله عز وجل الدنيا التي فر منها، وأعطاه الكرسي الذي زهد فيه، وأمده بالغنائم الهائلة، والمال الوفير الذي لم يفكر في الحصول عليه قط!

كان هذا هو السبب العاشر من أسباب النصر في هذه الموقعة الجليلة.. وأسأل الله أن ينصر الإسلام والمسلمين.

[1] البخاري: كتاب الرقاق، باب رفع الأمانة (6496).
[2] الترمذي: أبواب صفة القيامة والأمانة والورع (2516)، وقال الألباني: صحيح.
[3] مسلم: كتاب الكسوف، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا (1052).

د. راغب السرجاني