وفيات غيرت الموازيين
09-10-2016, 06:14 PM




في أواخر سنة [511هـ] -وخلال سنة [512هـ]، وكذلك في أوائل سنة [513هـ]- حدثت في الساحتين الإسلامية والصليبية عدة وفَيَات أدَّت إلى تغييرات محورية في الصراع الإسلامي/ الصليبي خلال سنتي [1117-1118م]:

أولاً: وفاة السلطان محمد السلجوقي:
توفي عن عمر يناهز سبعة وثلاثين عامًا فقط، وكان قد وحَّد السلاجقة في مملكة واحدة كبيرة صار لها هيبة عند الناس وعند الخلافة العباسية، وسيَّر عدَّة حملات إلى الصليبيين منها ما نجح على أيام مودود، ومنها ما لم يُحَقِّق النجاح كما في عهد آق سنقر البُرْسُقي أو بُرْسُق بن بُرْسُق، وكان كما يقول ابن الأثير: «عادلاً، حسنَ السيرة، شجاعًا». ولكن من أعظم أخطائه هو توليته ابنه السلطان محمود الحكم من بعده، مع أنه كان يبلغ من العمر أربعة عشر عامًا فقط[1]!

وكانت هذه -للأسف- عادة في ذلك الزمن، وهو ولاية الوريث ولو كان طفلاً صغيرًا جدًّا، ثم يتولَّى الحكم الوصيُّ عليه، فيأخذ الدولة يمينًا أو شمالاً حسب ما يتراءى له، وكان من نتائج وفاة السلطان محمد وولاية السلطان محمود أن حدثت فتن وصراعات داخل الدولة التي فقدت هيبتها، بل وصل الصراع إلى التقاتُل بالسيوف بين السلطان محمود وأخيه الملك مسعود، وكذلك بين السلطان محمود وأخيه الملك طغرل، وأخيرًا بين السلطان محمود وعمِّه السلطان سنجر[2]، وكل هذه الصراعات كان لها أسوأ الأثر على الصراع الإسلامي- الصليبي؛ إذ شغلت المسلمين بأنفسهم، وأنستهم قصة الصليبيين!

ثانيًا: وفاة بدر الدين لؤلؤ:
وهو المتصرِّف الفعليِّ في أحوال حلب مقتولاً؛ إذ قتله بعض أعوانه، ولما كان أمر حلب قد اضطرب كثيرًا في السنوات الأخيرة بعد موت رضوان وقتل ابنه ألب أرسلان، ثم قتل بدر الدين لؤلؤ سعى أعيان المدينة إلى تحسين الأوضاع، فذهبوا إلى أفضل العناصر الموجودة حولهم، وهو إيلغازي بن أُرْتُق فسلَّمُوه البلد، وهكذا وجد إيلغازي نفسه فجأةً حاكمًا على مَارِدِين وحلب معًا، ولم يكن ذلك هدية خالصة؛ لأنه وجد في حلب همومًا كثيرة؛ إذ وجد خزانتها خاوية بعد أن أنفق بدر الدين لؤلؤ الثروة الحرام التي جمعها رضوان، وهكذا وصلت حلب إلى وضعٍ يُرثى له مع كونها واحدة من أهم الإمارات الإسلامية في المنطقة[3].

ثالثًا: وفاة المستظهر بالله الخليفة العباسي:
الخليفة المستظهر بالله كان قد تولَّى الحُكم في سنوات [487-512هـ= 1094-1118م][4]، وتولَّى من بعده ابنه المسترشد بالله، ولم يكن الخليفة الجديد كغيره من الخلفاء السابقين، إنما كان رجلاً طموحًا ذا همَّة عالية، وكان شجاعًا مقدامًا ذا هيبة شديدة، وكان عالمًا فقيهًا حتى ذكره ابن الصلاح[5] في طبقات الشافعية[6]، وهذا في حدِّ ذاته من أهمِّ فضائله؛ فهي شهادة من عالم متمكِّن خبير؛ وهذه الولاية للخليفة المسترشد ستترك آثارًا مهمَّة على الساحة الإسلامية؛ إذ إنه لم يقبل بالوضع الذي اعتاد الخلفاء العباسيون عليه في القرنين السابقين؛ وذلك من كونهم مجرَّد صورة للحكم، بل سيسعى ليكون له كيان ورأي، ولا شكَّ أن هذا سيُوَلِّد صراعات كثيرة في المنطقة، وسيكون لهذه الصراعات آثار كثيرة على مجريات الأحداث.

رابعًا: وفاة بلدوين الأول:
وهو ملك مملكة بيت المقدس، والمؤسِّس الحقيقي لها، وكان قد وصل بمملكة بيت المقدس إلى حدودها التي استقرَّت بعد ذلك عشرات السنين، وأسقط كل المدن الفلسطينية باستثناء عَسْقَلان، وكذلك النصف الجنوبي من لبنان باستثناء صور، وكانت وفاته بمدينة العريش سنة [511هـ= 1118م] أثناء عودته من الفرما المصرية بعد احتلالها[7]، وقد اجتمع الصليبيون على تولية ابن عمِّه بلدوين دي بورج أمير الرها مكانه في بيت المقدس[8]، وهذا -لا شكَّ- ترقية لوضع بلدوين دي بورج حيث إِنَّ مَلِكَ بيت المقدس له القيادة على كل الممالك الصليبية؛ لوضع القدس، ولحجم المملكة، ولكونها مملكة وليست إمارة، وقد اختار بلدوين دي بورج -الذي لُقِّب بعد ذلك ببلدوين الثاني- ابنَ عمِّه جوسلين دي كورتناي -الذي كان قد عزله قبل ذلك عن تل باشر- أميرًا لإمارة الرها من بعده[9]، وذلك بعد أن زالت الخلافات التي كانت بينه وبين جوسلين؛ خاصةً أن جوسلين خبير بهذه المناطق الشمالية.

خامسًا: وفاة أدلياد زوجة بلدوين الأول الثانية:
ومما هو جدير بالذكر أن خصوم بلدوين الأول من الصليبيين طعنوا في زواجه من أدلياد الصقلية، وذكروا أن أسباب طلاق الزوجة الأولى أردا ليست صحيحة؛ ومن ثَمَّ فأدلياد هي الزوجة الثانية في الوقت نفسه، وهذا حرامٌ في النصرانية، وقام البابا باسكال الثاني بإرسال مَنْ يُحَقِّق في الأمر، وثبت تلاعب الملك بلدوين الأول في الأمر؛ ومن ثَمَّ اعتُبِر الزواج الثاني باطلاً، واضطرت هنا أدلياد إلى أن تعود إلى صقلية بعد أن عاشت مع بلدوين الأول أكثر من أربع سنوات! وهكذا خسرت إمارة بيت المقدس قوَّة النورمان وثروة أدلياد، ثم ما لبثت أدلياد أن توفِّيت في صقلية[10]، وكذلك بلدوين الأول في العريش على نحو ما ذكرنا.

سادسًا: وفاة أرنولف مالكورن:
بطرك بيت المقدس[11]، الذي اشتهر بسوء خلقه، وتواطئه مع بلدوين الأول على أمورٍ كثيرة مخالفة لدينهم؛ ومن ذلك ما ذكرناه من أمور تسهيل طلاق بلدوين الأول من أردا الأرمينية، وزواجه من أدلياد الصقلية، وقد تولَّى من بعده البطرك جرموند [12] Germond.

سابعًا: وفاة البابا باسكال الثاني في روما:
وتولَّى من بعده جيلاسيوس الثاني، ولم يكن هذا تغييرًا محوريًّا؛ لأن الإمارات الصليبية كانت شبه مستقلَّة، ولم تكن هناك حاجة إلى استنفار جنود جدد في أوربا في ذلك الوقت؛ ومن ثَمَّ لم يظهر كثيرًا اسم البابا في مجريات الأحداث.

ثامنًا: وفاة الإمبراطور البيزنطي الداهية ألكسيوس كومنين:
الذي سهَّل دخول الصليبيين إلى أرض المسلمين بدايةً من دعوتهم، ثم إمدادهم بالمؤن والسلاح والأخبار والأدِلَّة وبعض الفرق، وإن كان الصليبيون بعد ذلك غدروا به، ولم يُعطوه ما اتَّفق معهم عليه من بلاد؛ غير أنه استطاع أن يُسيطر على النواحي الغربية من آسيا الصغرى، ويضمُّها إلى الإمبراطورية البيزنطية، وقد تولَّى الإمبراطورية من بعده ابنه يوحنا كومنين[13].

تاسعًا: وفاة روجر الأنطاكي:
أمير أنطاكية، أو الوصيّ على إمارة أنطاكية بعد وفاة تانكرد النورماني، وانتظارًا لقدوم بوهيموند الثاني ابن بوهيموند الأول مؤسِّس إمارة أنطاكية.

وقد آثرتُ أن أختم بهذا الرجل لأن وفاته جاءت في معركة مهمَّة مع المسلمين، لعلَّها أول معركة ذات قيمة بعد وفاة مودود، وسنتكلم عنها في المقال القادم بإذن الله.

[1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/167، 168.
[2] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/181-185، 191، 192.
[3] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/170، 171.
[4] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/173.
[5] ابن الصلاح [577-643هـ=1181-1245م]: عثمان بن عبد الرحمن بن موسى تقي الدين ، أبو عمرو، الكردي من أهل شهرزور -كورة واسعة في الجبال بين إربل وهمذان- من علماء الشافعية، أحد الفضلاء المقدَّمين في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال، وإذا أُطلق الشيخ في علم الحديث فالمراد هو،. من تصانيفة: مشكل الوسيط، والفتاوي، وعلم الحديث، المعروف بمقدمة ابن الصلاح، وطبقات الفقهاء الشافعية. ابن خلكان: وفيات الأعيان 2/243-246.
[6] ابن الصلاح: طبقات الفقهاء الشافعية 2/658.
[7] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/178.

يوحنا الثاني كومنين: إمبراطور بيزنطيٌّ، وُلد في سبتمبر 1087م ومات في سنة 1143م، واعتلى عرش الإمبراطورية في الفترة الممتدَّة من 1118 إلى 1143م، وكان الابن الأكبر لألكسيوس الأول كومنين، كرَّس جهود الإمبراطورية للتعافي من الهزيمة أمام السلاجقة المسلمين في معركة ملاذكرد، وقد حقَّق بعض الانتصارات العسكرية ضد السلاجقة في البلقان، ورسَّخ السلطة البيزنطية في الإمارات الصليبية الناشئة؛ مثل: إمارة الرها، وإمارة أنطاكية، ونجح في استعادة بعض من سمعة الإمبراطورية البيزنطية، وقد اختار ابنه مانويل لخلافته؛ وفقاً لنبوءة بأن خليفته يجب أن يبدأ اسمه بحرف الميم.


د. راغب السرجاني



التعديل الأخير تم بواسطة غايتي رضا الرحمن ; 09-10-2016 الساعة 06:39 PM