حركة الترجمة ودورها في الحضارة الإسلامية
28-07-2019, 12:42 PM


عندما ظهر الإسلام وفتح المسلمون فارس والعراق والشام ومصر في القرن 7م، رؤوا ما في هذه البلاد من مدارس، مثل مدرسة الإسكندرية ( تأسست 331 ق.م) ومدرسة أنطاكيا شمال الشام (تأسست 300 ق.م) تحتضن حضارة اليونان وفكرهم، ولم يكونوا على جهل بهذه الثقافات جهلا تاما، لأن بعض المؤثرات الثقافية من المدارس السابقة تسربت إليهم. وبفضل ما أثاره الإسلام من حماسة للعلم وحثهم على التسامح إزاء الديانات الأخرى أدى ذلك إلى تزود المسلمين بقسط نافع من الثقافات التي التقوا بها ولم يكن السبيل إلى معرفتها إلا بترجمتها.

نشأة حركة الترجمة في الحضارة الإسلامية
هناك رأيان مختلفان حول نشأة حركة الترجمة في الحضارة الإسلامية:

الرأي الأول: أنها ترجع إلى أوائل العصر الأموي
- ويقول هذا الرأي أن الجذور الأولى لحركة الترجمة إلى العربية في أوائل العصر الأموي، حيث ذكر في المصادر أن خالد بن يزيد بن معاوية -والملقب بحكيم آل مروان- أرسل إلى الإسكندرية في طلب بعض الكتب في الطب وعلم الصنعة (الكيمياء) لترجمتها إلى العربية، وذلك بعدما أقصى عن الخلافة طواعية.

يقول عنه ابن النديم: وقد ذكر في "الفهرست" أن خالد كان يسمى حكيم آل مروان وكان فاضلا في نفسه وله محبة في العلوم، فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونان الذي نزلوا مصر وتفصحوا بالعربية وكان هذا أول نقل في الإسلام من لغة إلى لغة.

ويقول عنه ابن خلكان: وصف خالد بن يزيد بقوله أنه كان أعلم قريش بفنون العلم، وله كلام في صنعة الكيمياء والطب وكان متقنا لهذين العلمين.

ويقول عنه الجاحظ: قال عنه أنه كان أول من أعطى الترجمة والفلاسفة وقرب أهل الحكمة ورؤساء كل صنعة.

- ويقال أن خالد بن يزيد استقدم من الإسكندرية راهبا بيزنطيا اسمه مريانس، وطلب منه أن يعلمه علم الصنعة، ولم يكتفي بذلك وإنما طلب من آخر اسمه اصطفن ترجمة ما أتى به مريانس إلى العربية.

- وقد اتجه بعض الباحثين الأوروبيين المحدثين أن يشككوا فيما نسب إلى خالد بن يزيد من جهود في الترجمة إلى العربية مستهدفين غمس الإسلام وطمس دوره في ظهور أعظم حضارة عرفتها البشرية في العصور الوسطى، وفي ذلك شككوا أيضا في شخصية جابر بن حيان الكوفي ( القرن 2 ﻫ) الذي يعتبر أبا لعلم الكيمياء، وأيضا شككوا في قسطنطين الأفريقي الذي ينسب إليه ترجمة مؤلفات العرب في الطب إلى اللاتينية مما مهد لظهور مدرسة سالرنو الطبية. وقد ذهب الكاتب لوتسيان كاسيموفتش إلى التشكيك في شخصية محمد في كتابه "لم يكن هناك محمد إطلاقا" .

- ومن الخلفاء الأمويين الذين استكملوا جهود الترجمة بعد خالد بن يزيد عمر بن عبد العزيز (99- 101 ﻫ) حيث اصطحب معه عند ذهابه إلى الخلافة في المدينة أحد علماء مدرسة الإسكندرية، بعد أن أسلم على يديه ابن أبجر واعتمد عليه في صناعة الطب. وقد قام الخليفة عمر بن عبد العزيز أيضا بنقل علماء مدرسة الإسكندرية إلى مدرسة أنطاكيا سنة 100هـ.

لكن هذا لا يعني أن مدرسة الإسكندرية أغلقت بل ظلت قائمة في العصر العباسي ومن أشهر أطبائها:
1- بليطان الذي اعتمد عليه هارون الرشيد (170-194 ﻫ) في علاج جارية له.
2- سعيد بن توفيل كان طبيب أحمد بن طولون ( 254- 270 ﻫ).

المدارس التي ازدهرت بالعلوم والترجمة

مدرسة الإسكندرية
إلا أن انغماسها في الجدل الديني حول بعض القضايا المسيحية وبعدها نسبيا عن مركز الخلافة خاصة في العصر العباسي، جعل تأثير مدارس الشرق وخاصة جنديسابور يبدو أكثر قوة.

مدرسة جنديسابور
اشتهرت هذه المدرسة بدراسة الطب وفيها ترجمت مؤلفات اليونان في الطب إلى السريانية وبعد ذلك نقلت إلى العربية، وينتسب إلى هذه المدرسة أطباء أسرة بختيشوع الذين اشتهر منهم من عالجوا الخلفاء العباسيين الأوائل.

مدرسة حران
وكانت مركزا للأثينيين الصابئة، وهم من السريان الذين اختلطوا باليونانية الوثنيين الفارين من الاضطهاد المسيحي، وينسب إلى هذه المدرسة: ثابت بن قرة الصابئي وله مؤلفات عديدة في الطب وعمل في خدمة الخليفة المعتضد العباسي ( 279-289 ﻫ) وكان من ذريته سنان بن ثابت الذي حظي برضاء الخليفة القاهر. كما اشتهرت مدرسة حران بالفلك وينسب إليها في هذا المجال:
- عبد الله محمد البتاني - أبوجعفر الخازن.

الرأي الثاني: الرأي الأصح في نشأة الترجمة
أن حركة الترجمة ترجع إلى صدر الإسلام في عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وبتكليف منه، فنُقل عن الصحابة رضوان الله عليهم: "من عرف لغة قوم أمن شرهم" . ومن أشهر من تعلم السريانية في عهد الرسول هو زيد بن ثابت رضي الله عنه، وقد تعلمها في ستين يوما وتعلم كذلك الفارسية والرومية.

وأقدم بردة في الإسلام تعود إلى سنة 22هـ، وعليها نص باسم عمرو بن العاص رضي الله عنه، وبه ثلاثة اسطر باليونانية والترجمة بالعربية تحتها، وبالتالي الترجمة ظهرت في صدر الإسلام وليس منذ العصر الأموي.

تطور حركة الترجمة وازدهارها
أخذت حركة الترجمة إلى العربية تتسع وتزداد قوة في العصر العباسي بفضل:

1- تشجيع الخلفاء العباسيين ورعايتهم لهم، وقد فتحوا بغداد أمام العلماء وأجزلوا لهم العطاء وأضفوا عليهم ضروب التشريف والتشجيع بصرف النظر عن مللهم وعقائدهم. في حين أن حركة الترجمة في العصر الأموي كانت محاولات فردية لا يلبث أن تذبل بزوال الأفراد.
2- غدت ركنا من أركان سياسة الدولة، فلم يعد جهد فردي سرعان ما يزول بزوال الأفراد سواء حكام أوغير ذلك بل أصبح أمرا من أمور الدولة وركنا من أركانها.

وفي حين أن الترجمة في العصر الأموي اقتصرت على الكيمياء والفلك والطب، نجد أنه في العصر العباسي صارت أوسع نطاقا بحيث شملت الفلسفة والمنطق والعلوم التجريبية والكتب الأدبية.

من أمثلة اهتمام الخلفاء العباسيين بالعلماء والمترجمين
الخليفة أبا جعفر المنصور( 136- 158هـ)
وقد عني بترجمة الكتب إلى العربية سواء من اليونانية أو الفارسية، وفي تلك المرحلة نقل حنين بن إسحاق بعض كتب أبقراط وجالينوس في الطب ونقل ابن المقفع كتاب "كليلة ودمنة" من الفهلوية.

هارون الرشيد (170 - 193هـ)
عندما كثر أعداد العلماء في بغداد أنشأ لهم دار الحكمة؛ لتكون بمثابة أكاديمية علمية يجتمع في رحابها المعلمون والمتعلمون وحرص على تزويدها بالكتب التي نقلت من آسيا الصغرى والقسطنطينية.

المأمون ( 198-218هـ)
ازداد اهتماما ببيت الحكمة، فوسع من نشاطها وضاعف العطاء للمترجمين وقام بإرسال البعوث إلى القسطنطينية لاستحضار ما يمكن الحصول عليه من مؤلفات يونانية في شتى ألوان المعرفة، فاخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجاج بن مطر، وابن البطريق فاخذوا مما اختاروا وقد ذكر ابن النديم انه كان بين المأمون وإمبراطور القسطنطينية مراسلات بهذا الشأن.

من أشهر المترجمين في العصر العباسي
- ثيوفيل بن توما الرهاوي.
- جورجيس بن جبرائيل.
- يوحنا بن ماسويه.
- الحجاج بن يوسف الكوفي.
- ثابت بن قرة.
- حنين بن إسحق.

حنين بن إسحاق
ونخص بالذكر حنين بن إسحاق الذي ترجم كتبا عديدة في المنطق والفلسفة والطبيعة، لكن أغلب ما نقله كان في الطب وقد ترجم من اليونانية إلى السريانية والعربية فترجم لجالينوس 95 كتابا إلى السريانية نقل منهم إلى العربية 39 كتابا فقط.

تأثير الحضارات الأخرى في الحضارة الإسلامية

التأثير الفارسي
كان التأثير الفارسي في الحضارة الإسلامية أقوى في مجال الأدب، حيث كان الأدب الفارسي الشرقي أقرب إلى ذوق العرب وأحاسيسهم من الأدب اليوناني.
ففي العصر العباسي قام من يجيدون اللغتين الفارسية والعربية بترجمة الكتب الفارسية ومن هؤلاء :
- عبد الله بن المقفع. - أبناء خالد. - الحسن بن سهل.

ونخص بالذكر ابن المقفع حيث ترجم تاريخ الفرس وقيمهم وعاداتهم وسير ملوكهم فضلا عن كتب أدبية منها:
- كليلة ودمنة. - الأدب الكبير. - الأدب الصغير. - كتاب اليتيمة.

ولم تكن حضارة الفرس في مجال الأدب فقط فقد امتلكوا تراثا في العلوم الأخرى كالهندسة والفلك والجغرافيا، لكن تأثير اليونان في العلوم العقلية كان أقوى من تأثير الفرس.

التأثير اليوناني
كان التأثير اليوناني في الأدب محدودا ولا يزيد عن نقل بعض الكلمات مثل:
- القنطار - الدرهم - القسطاس - الفردوس - بالإضافة إلى بعض الحكم.

وكانت الحضارة اليونانية ذات تأثير قوي في العلوم العقلية وهذا نتج عن معتقدات اليونان أنفسهم واهتمامهم بالعقل وارتفاع شأنه على حساب الأعمال اليدوية أو المجال الأدبي، فنقل العرب عنهم في مجال الفلسفة عن أفلاطون وأرسطو وفي مجال الطب عن جالينوس وأبقراط..

التأثير الهندي
امتدت حركة الفتوح الإسلامية إلى الهند في أواخر القرن الأول الهجري، أي في خلافة الوليد بن عبد الملك ( 86 -96 ﻫ) واستؤنفت في منتصف القرن الثاني الهجري في عهد أبي جعفر المنصور (136- 158 ﻫ) ونشطت مرة أخرى في القرن الخامس الهجري، وذكر في ذلك بعض المؤرخين:

- الجاحظ:" اشتهر الهند بالحساب وعلم النجوم وأسرار الطب".
- الأصفهاني: " الهند لهم معرفة بالحساب والخط الهندي وأسرار الطب وعلاج فاحش الداء....".

وجزء كبير من ثقافة الهند وعلومهم انتقل إلى فارس بحكم العلاقات التجارية بين الطرفين قبل الإسلام ومن ذلك أن كسرى أنوشروان أرسل طبيبه برزويه إلى الهند لاستحضار كتب ومؤلفات في الطب فعاد بالكثير منها ويقال أن قصة كليلة ودمنة انتقلت من الهند ضمن ما نقله برزويه من كتب بالإضافة إلى لعبة الشطرنج.

وعندما عكف المسلمون على ترجمة كتب الفرس إلى العربية نقلوا بين ثناياها أجزاء من ثقافة الهنود وعلومهم وأحيانا قام بعض المترجمين بنقل السنسكريتية وهي اللغة الهندية إلى العربية مباشرة ومنهم:

- منكة الهندي. - ابن دهن الهندي.

ومن العلوم التي أخذ فيها المسلمون عن الهنود: الرياضيات والفلك والطب:

أ‌-الرياضيات

- الأرقام الحسابية المستخدمة في العالم حاليا عرفها المسلمون عن الهنود وعن المسلمين نقلت إلى الغرب، وقد عرف المسلمون هذه الأرقام باسم راشيكات الهند.

ونقل عن الهنود الكثير من المصطلحات الرياضية مثل مصطلح الجيب في حساب المثلثات. واستفاد العالم الرياضي أبا جعفر بن موسى الخوارزمي من معارف الهنود في الرياضيات.

ب‌- الفلك

- أمر أبو جعفر المنصور سنة 154هـ بترجمة كتاب في الفلك ألفه أحد علماء الهند وهو برهمكبت وقد كان باللغة السنسكريتية، كما أمر باستخراج زيجا من أزيجة هذا الكتاب يستخدمه العرب لدراسة حركة الكواكب، وقد قام بترجمة هذا الكتاب الفزاري وأنجز الزيج المشهور الذي ينسب إليه. كما أخذ المسلمون عن الهنود كتاب "السند هند" في الفلك.

ت‌- الطب

من الكتب التي ترجمت إلى العربية عن الهندية في مجال الطب:

- كتاب " السيرك" وقد ترجم أولا إلى الفارسية ثم من الفارسية إلى العربية عن طريق عبد الله بن علي.

- كتاب " سسرد" نقله منكة عن الفارسية ليحيى بن خالد البرمكي.

- كتاب "أسماء عقاقير الهند" نقله منكة عن اسحق بن سليمان.

- كتاب " استنكر الجامع" نقله ابن دهن الهندي.

ومن المعروف أن أطباء الهند نبغوا في استخدام الأعشاب الطبية في مداواة الكثير من العلل، وقد نقل المسلمين الكثير عن فوائد الأعشاب عن الهنود، وبعض هذه الأعشاب لم يعرفها اليونان حيث لا تنبت إلا في أقاليم الهند وشرق آسيا، ويقال أن خالد بن يحيى البرمكي جلب بعض أطباء الهند مثل:

- منكة. – قلبرقل. – سندباد.

وكان الاتصال بالحضارة الهندية مصحوبا بتعريب كثير من المصطلحات والأسماء مثل:

- زنجبيل. – كافور. – خيرزان. – فلفل.

فضلا عن ترجمة بعض القصص مثل كليلة ودمنة والسندباد كما سبقت الإشارة.

وإذا كان المسلمون أخذوا عن الحضارات السابقة، فإن هذا لا يقلل من شأنها؛ لأن الترجمة كانت مرحلة من مراحل الابتكار العلمي الإسلامي وهذه المراحل هي:

1- النقل والترجمة. 2- الشرح والتفسير.

3- النقد والتصحيح. 4- الإضافة والابتكار.

- المرجع: سعيد عبد الفتاح عاشور وآخرون، دراسات في تاريخ الحضارة الإسلامية العربية، الكويت، 1986م.
- موقع التاريخ الإسلامي.