داخل محمية خلابة للحيوانات المهددة بالانقراض في تنزانيا
27-10-2015, 10:08 AM
أنثيا روان
كاتبة صحفية



تتجمع طيور البلشون (مالك الحزين الأبيض) في بحيرة فيكتوريا عند الغسق

تتيح الحدود المائية لجزيرة "روبوندو" في تنزانيا حمايةً مطلقة لحيواناتها، ويُنظر إلى هذه الجزيرة غير المأهولة على أنها "سفينة نوح" الخاصة بتنزانيا لحماية الحيوانات النادرة في ذلك البلد.
كانت الفوضى تعم قرية "مغانزا" الواقعة على ضفاف بحيرة في تنزانيا، وكانت تكثر فيها أصوات متنافرة تسبب الإزعاج.
كان هناك ازدحام حقيقي لحركة مراكب التاكسي التي اعتادت على التدافع فيما بينها لتحصل على رقعة من الشاطيء. كان كل مركب ينشد أنغاماً مختلفة عن الآخر من مكبرات الصوت المثبته على متنه.
ترجلنا من السيارة وتجمعنا حولها بعد أن حُشرنا فيها لساعات ـ وقد تناثرت على أرضيتها بقايا وكسرات البسكويت لتكون شاهداً على الوقت الطويل الذي قضيناه في الطريق. ثم رحب بنا "إدوين"، مدير مخيمنا ومضيفنا لفترة عطلة نهاية الأسبوع.
"لنذهب، لنذهب"، قالها وهو يستعجلنا للتحرك. "ستهب عاصفة". مشينا، مع زوجي وابنتي الصغيرة "هاتي"، بسرعة في طريقنا عبر طريق ملئ بمصنوعات يدوية تربطها ببعضها خيوط رفيعة.
وصلنا إلى العبارة التي ستشق بنا بحيرة فيكتوريا، أكبر بحيرات أفريقيا البالغة مساحتها 69,500 كيلومتر مربع. كانت المياه الباردة رمادية اللون مثل الصخر المرقق، تضربها رياح قارصة. تفتحت عينا "هاتي" بأكملها وأمسكت يدي بإحكام.
جزيرتنا المقصودة هي "روبوندو". لم نكن نعلم موقعها ضمن النطاق المائي للبحيرة. لحسن الحظ، كانت أقرب نقطة لليابسة من الشاطيء، حيث كانت تبعد مجرد بضعة كيلومترات.
كانت الجزيرة مدثرة بغابات خضراء منيعة على النقيض من شواطيء البلد الرئيسية، الخالية من الأشجار.
كنا قد تبللنا تماماً وقت نزولنا من العبارة، بعد 40 دقيقة. بعد الصخب الذي شهدناه في "مغانزا" و "روبوندو"، خيم صمت مُطبق. الصوت الوحيد المسموع هو صرخات مسكونة لنسور السمك (الجزيرة هي موطنٌ لأكثر تجمعاتها كثافة في أفريقيا). في الحقيقة، لم يمسس الجزيرة أحد من قبل، إلى درجة أني لم أكن لأندهش إذا ما ظهر ديناصور أمامنا فجأة.
"سفينة نوح" التنزانية
بينما كنا في طريقنا إلى المخيم بالسيارة، ألقت الظلال الداكنة للغابات الكثيفة مسحة خضراء متوهجة على المشهد. في هذه الأثناء، أوضح لنا "إدوين" أن البيئة الخام لجزيرة "روبوندو" تعود إلى حقيقة تصنيفها كموطن طرائد محمية في عام 1965، كما أُعلنت متنزهاً وطنياً في عام 1977.


إحدى سحالي الوَرَل وهي تتشمس على شاطيء البحر في "روبوندو"

خلال السنين العشر الممتدة ما بين 1964 و 1974، تم إدخال أنواع مهددة بالانقراض لتعيش في الجزيرة التي تبلغ مساحتها 237 كيلومتر مربع. يعود ذلك الإنجاز إلى الخبير الألماني في علوم الحيوان، بيرنهارد غريميك.
لم تكن جغرافية "روبوندو"، بما يحدها من مياه، السبب الوحيد لتمتع حيواناتها بحماية مطلقة، بل لأن الجزيرة غير مأهولة أيضاً (عدا عن حفنة من العاملين في المتنزه الوطني) إضافة إلى بضعة حيوانات مفترسة.
في الحقيقة، حتى وقت إقدام "غريميك" على البدء في تكوين حديقة الحيوانات تلك، كانت الحيوانات المتوطنة الوحيدة هنا هي سعادين الفرفت، وحيوان القضاعة، وظباء سيتاتونغا الأصيلة. بذلك تصبح الجزيرة ما يشبه "سفينة نوح" تنزانية: فهي جزيرة محمية عائمة تعد ملاذا للحيوانات المهددة بالانقراض.
شرح لنا "إدوين" كيف فشلت محاولات توطين وحيد القرن الأسود والظبي الأسمر، فيما نجحت الفيلة وقردة الكولبس البيضاءـالسوداء، وظباء سوني، والببغاء الرمادي الأفريقي في الاستقرار هناك.
كذلك انتعشت قردة الشمبانزي؛ وما حصل فعلاً هو أن تشابك الأغصان المتسلقة لأشجار الغابات كان كثيفاً إلى درجة ملائمة جداً للحيوانات من رتبة الرئيسيات بحيث يخال لك أن طرزان بنفسه سيتأرجح عليها وهو يصيح. في الحقيقة، يجسد نجاح حيوانات رتبة الرئيسيات في البقاء هنا قصصا تُحكى عن أمجاد الجزيرة.
إن قردة الشمبانزي التي جيء بها إلى جزيرة "روبوندو" وُلدت في البرية وأمسك بها وهي لا تزال ترضع. المتبع تقليدياً في ذلك الوضع، هو اصطياد أمهاتها من قبل صيادين غير مرخصين ممن يستهدفون مجموعات الشمبانزي في تنزانيا وأوغندة والكونغوـ وبما أن صغار الشمبانزي ستظل بجوار أمهاتها النافقة، فقد كانت طرائد سهلة للإمساك بها حية.
تستخدم القرود الرضيعة في استعراضات ألعاب السيرك في الدول الأوربية وحدائق حيواناتها حتى تصبح بالغة وكبيرة الحجم، وفي العادة عدوانية أيضا. ثم تُرسل بعد ذلك لتعيش ما تبقى من عمرها ـ والذي يصل أحياناً إلى 60 عاماًـ كحيوانات تجارب في معامل الأبحاث الطبية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
غير أن "غريميك" أعاد 17 حيواناً محظوظاً منها إلى أفريقيا. وبذلك، يكون قد أنشأ مجموعة مصطنعة في "روبوندو" تمثل النموذج الناجح الوحيد في العالم لإعادة توطين قردة الشمبانزي.


ببغاء رمادي أفريقي يقف فوق شجرة

لم تكن هناك أية حيوانات متوطنة في الجزيرة قادرة على قتل أو افتراس ما أعيد توطينه هناك. وبخلاف قردة الشمبانزي المولودة في الأسر، يبدو على حيوانات "روبوندو" أنها احتفظت ببعض معارفها عن العيش في الغاب.
حالياً، تكاثرت المجموعة الأصلية المكونة من 17 حيواناً لتبلغ ما بين 40 إلى 50 حيواناـ لكنه ليس من السهل إيجادها. إنها المجموعة الوحيدة الموجودة على الجزيرة، ولذا يمكنها أن تسرح وتمرح كما تشاء في المجال الرحب للجزيرة المكون من 237 كيلومتراً مربعاً (مقارنة بمحميات الشمبانزي المعروفة في تنزانيا، "ماهالي" و "غومبي"، التي تبلغ مساحتها عموماً 12 و 20 كلم مربع).
سيكون أي باحث محظوظاً إذا ما لاقى أحد هذه القردة، أثناء تنزهه لساعات أو أيام على التوالي عبر الغابات وبين الشجيرات. أما حظوظ الزوار الماشين في الأدغال، الحاملين لكاميراتهم، فهي معدومة.
سحر الجزيرة المعزولة
غير أن هناك وفرة لما تود أن تراه، بما في ذلك سرب من الببغاوات الرمادية الأفريقية التي رحبت بنا حال وصولنا إلى المخيم. لم أرَ الببغاوات سابقاً إلا في أقفاص، وهي تقضم ببؤس بضعة حبات من بذور عباد الشمس. أما هنا، فتراها في وليمة تتناول التين، وترمي بابتهاج المتبقي منها على رؤوس أي كائن بشري يمر من تحتها.


ظباء سيتاتونغا البرمائية

رأينا بأعيننا ظباء سيتاتونغا البرمائية، ذات الأصالة في الجزيرة. أقدامها مفلطحة، حيث تكيفت للعيش في المستنقات. في كل صباح في المخيم، كنا نرصد زوجاً من حيوانات القضاعة وهي تسبح بلطف من أحد منعطفي الشاطيء إلى طرفه الآخر. كان رأساهما الصغيران يتركان أثراً رشيقاً عبر الماء.
لاحظنا سحالي الوَرَل وهي تنسلُ من مواقع تشمُسها إلى الماء، وبجعات الغاقيات وهي تنشف أجنحتها بتناغم راقص على الصخور. رأينا ما تم اصطياده من سمك البياض النيلي على مراكب الجزيرة. كان حجم بعضها كبيراً بحجم رجل.
سرنا بين الأدغال وانتبهنا لشمس ما بعد الظهيرة؛ ترشحت أشعة الشمس من خلال أوراق الأشجار وانصقلت بألوان أعداد لا تُحصى من الزهور والفطريات البرية. استمتعنا بمنظر الأصيل، وغرقت الشمس تحت سطح الماء (حالة أخرى تشذ بها شرق أفريقيا، حيث تشرق الشمس في أغلب الأحيان من الأعماق).
تنضح الجزيرة البكر المعزولة سحراً وفتنة، وتجعل أي شخص يؤمن بـ "سفينة نوح" الأسطورية: فهي محمية طبيعية معلقة ما بين البحر والسماء، حيث تجد الحيوانات أخيراً ملاذها الآمن.