خطورة دفاع بلخادم عن اسعار البطاطا واهمية الموت في حضرة صاحب الفخامة!
11-09-2007, 04:12 PM
توفيق رباحي


11/09/2007
عاد الارهاب يضرب بقوة في الجزائر. وعاد معه التلفزيون الحكومي ليذكرنا انه مصرّ علي البقاء في الدرك المهني الذي بلغه والذي لا يسرّ عدوا ولا حبيبا.
في 48 ساعة، بين الخميس والسبت الماضيين، ضربت الجماعات الارهابية بقوة في شرق الجزائر مستهدفة رئيس الدولة، وفي شرق العاصمة مستهدفة ثكنة عسكرية تابعة للقوات البحرية الجزائرية.
كانت حصيلة مأساوية من الارواح، وصدمة اعادت المجتمع الي اتون الخوف والشك.
مع الاعتراف لاصحاب التلفزيون بحقهم في قليل من اللامهنية وبعض التضليل الاعلامي، كان من المفروض ان في الحدثين ما يكفي لمادة اعلامية ثرية ومفيدة.
لقد اطلّع الجزائريون علي اخبار تفجير باتنة مضللة ومشوهة (هذا في حد ذاته نصر والفضل لبوتفليقة، اذ لو لم يتعلق الامر بالرئيس لما شاهدوا او سمعوا شيئا من تلفزيون بلادهم). فعدد القتلي والجرحي والحدث الجلل حرك اهل التلفزيون فقطعوا البرامج مساء الخميس، لا ليخبروا الناس بما حدث، بل ليقترحوا عليهم ترقب كلمة بوتفليقة بالمناسبة التي بدت اهم من الخبر ذاته.
ثم جاءت فاجعة مدينة دلّس (بدون الرئيس وبعيدا عنه)، فكان علي الجزائريين ترقب القنوات الاجنبية ليكتشفوا ان ثكنة لقوات البحرية تعرضت لهجوم خطير اودي بحياة 30 جنديا واصاب اكثر من 40 بجروح. كان لا بد من انتظار ساعات كي يتكرم التلفزيون الجزائري ببث الخبر جافا كأنه حدث في ادغال افريقيا.
رغم الفاجعة، ظل حمار التلفزيون الجزائري متوقفا عند عقبة تفجير مدينة باتنة الذي وقع قبل 48 ساعة. وليته كان توقفا اخباريا يشبع فضولك كمشاهد بحاجة الي معلومات اولاً.
من غير اللائق اجراء المقارنات في مثل هذه السياقات المفجعة، لكن استهداف ثكنة عسكرية ومقتل 30 جنديا، كلهم شباب من عامة الشعب المسكين، ليس اقل اهمية من تفجير وسط حشد من المدنيين جيء بهم للمشاركة في مهرجانات فلكلورية مرتبة جيدا لاستقبال الرئيس.
تركيز التلفزيون علي تفجير باتنة سببه ان المستهدف هو الرئيس، رغم انه (التلفزيون) يتعمد تجاهل ان الهجوم الانتحاري استهدف الرئيس وان سوء التحضير ولطف الله ارادا غير ذلك.
لقد امضي التلفزيون الجزائري اكثر من 48 ساعة يقرأ اسماء احزاب وجمعيات ارسلت بيانات ورسائل التنديد بتفجير باتنة، مذكّرا في كل مرة بأن رسائل وبيانات التنديد لا زالت تتهاطل بقوة علي قاعة التحرير مع تلميح الي انه يستحيل قراءتها كلها مما يفسر الاكتفاء باسماء مرسليها.
وكأن كل ذلك لم يكف، فزاد هذا التلفزيون بالوقوع في عصبية مقيتة تقول صراحة وتلميحا ان الشاوية (سكان منطقة باتنة) من التفجير براء، وانهم، ربما تكفيرا عن ذنب ليس ذنبهم، طالبوا الرئيس بالترشح لولاية ثالثة، بحسب بيانات لا احد يعرف مدي مصداقيتها ومصداقية الذين امضوها وارسلوها.

ارقام نكرة

هذه العصبية الغريبة المستشرية منذ الاستقلال هي التي تجعل سكان منطقة كاملة يشعرون بالحزن (وربما يدفعون الثمن) لان واحدا منهم اقترف ذنبا ما، او بالافتخار لان احدهم حقق ما يعتبرونه نجاحا في الحياة. وهكذا يشعر سكان بلدة مسكيانة التي ينحدر منها الضابط المتهم بقتل الرئيس محمد بوضياف في صيف 1992 انهم مسؤولون عن الجريمة. وشعر سكان مدينة عنابة بالعار لان الرئيس بوضياف قُتل بمدينتهم وان الجريمة اساءت لكل واحد منهم.
اكثر من ذلك، اخشي ان يكون الاصرار علي الاهتمام بردود الفعل علي حادث باتنة نابعا من كونها مسقط رأس منافس بوتفليقة في انتخابات الرئاسة الماضية. ففي تلك الانتخابات نزل كثيرا مستوي التنافس بين انصار بوتفليقة وانصار بن فليس. انتصر انصار الاول ولا زال انصار الثاني ومساعدوه يدفعون ثمنا سياسيا وشخصيا باهظا لتأييدهم له. وأن يُستهدف موكب الرئيس بمسقط رأس خصمه اللدود، ففي ذلك رسائل وقراءات عدة تفرضها الثقافة السياسية الجزائرية المريضة بأناسها.
فهل كانت عشرات البيانات المنددة التي يقرأها مذيعو نشرات الاخبار حتي يجف ريقهم موجهة الي بن فليس؟ ولماذا الاكتفاء باسماء الجمعيات والاحزاب، مقابل تلاوة مضامين البيانات التي ترد عن اناس يقولون انهم يمثلون سكان منطقة باتنة او فئات منهم؟ هل هي رسائل الي بن فليس ان حتي اهل منطقتك ضدك و معي في بلد تحكمه الزُمر والعصبيات والجهوية؟
انظروا كيف يُستعمل التلفزيون للسطو علي حوادث مأساوية فيحوّلها الي تهريج سياسي لا هدف له سوي فرض ترشح الرئيس لولاية ثالثة غير منصوص عليها دستوريا.
تواصل هذا الحال الذي يذكر بالبيانات التي كانت ترد من قسمات وخلايا حزب جبهة التحرير (الحزب الواحد في الثمانينات) تنديدا بالانزال الامريكي في بنما او بالاضطرابات السياسية في كونغو برازافيل، تواصل حتي بعد ان لقي 30 من شباب القوات البحرية حتفهم في اعتداء دلّس. لكن ذنب هؤلاء انهم لم يموتوا في حضرة صاحب الفخامة، لذا فهم مجرد ارقام نكرة في قائمة طويلة من الضحايا لم ينل اصحابها شرف ان تذكر اسماءهم.

هيلمان كبير

مهما قيل، فهذا غير جديد في الممارسات التلفزيونية الجزائرية.
الثلاثاء قبل الماضي بهذا الزاوية، تحدثت عن دور الاطفائي الذي يلعبه التلفزيون الجزائري. في نفس يوم ذلك الكلام شاهد الجزائريون اركان الحكم كلها تهب لاطفاء حرائق الاشاعات التي اشعلوها تصرفاتهم. كان لا بد ان يغرق المجتمع في الاشاعات والغموض وغياب المعلومة ليستفيق اركان الحكم من سباتهم ويتحركوا متأخرين وبدون جدوي.
هذا رئيس الدولة يعود من بعيد فيزور الشيخ يوسف القرضاوي في المستشفي العسكري، وعائلة ونائب قائد المخابرات العسكرية الذي وافاه الاجل ذلك اليوم، ويستقبل سفيرين او ثلاثة ليقول انه بصحة جيدة. نشاط مكثف وجميل اجمعت وسائل الاعلام الجزائرية علي انه جاء ليقطع دابر اشاعات ملأت الدنيا عن صحة الرئيس وفي اي بلد هو موجود للعلاج. قالها بوتفليقة للقرضاوي: الاشاعات متابعتنا.. حتي انا. لقد وصلت الاشاعات اليوم الي فرنسا!
وهذا عبد العزيز بلخادم، رئيس الحكومة التي عجزت عن توفير الحليب والبطاطا لشعبها، (فكيف ستوفر له الأمن؟) يهب لعقد مؤتمر صحافي دام ساعات، لا ليشرح سياسة جديدة، بل ليرد علي الاشاعات حول تدهور صحة الرئيس وعجز حكومته عن التحكم في اسعار البطاطا.
هيلمان كبير، وزراء ومسؤولون ومدراء التلفزيون والاذاعات والصحف، وفطاحلة الصحافيين جاؤوا ليشاهدوا بلخادم.. يدافع عن سعر البطاطا ويفنّد الاشاعات عن تدهور صحة الرئيس.
الحكومات الاخري تعقد مثل تلك المؤتمرات الصحافية لتكشف عن سياسات وبرامج عمل جديدة. اما الحكومة الجزائرية فبرنامج عملها هو الرد علي الاشاعات والقول ان اسعار البطاطا لم ترتفع.
لو سألت جزائريا عن بلخادم ذلك اليوم لقال لك ان وقته ضاع وصوته بحّ ولم يحقق ايا من هدفي مؤتمره الصحافي: بخصوص صحة الرئيس، لقد تسرب الشك الي عقول الجزائريين، فان غاب رئيسهم قالوا انه يعاني صحيا، وان شاهدوه قالوا انه ظهر ليفند الكلام عن تدهور صحته. اما اسعار البطاطا فحالها اسهل بكثير اذا يكفي ان يخرج احدهم للسوق كي يكتشف ان رئيس الحكومة يغالط شعبه او يعيش في دنيا اخري.
وضمن سياق تحرك جوقة الحكم، هب في نفس اليوم زعيم نقابة عمالية (الاتحاد العام للعمال الجزائريين) مشلولة باعت قضايا العمال، ليجتمع باركان نقابته بهدف بحث الدخول الاجتماعي ، وإن كان الهدف الحقيقي من الاجتماع بحث الطرق الممكنة لبقاء عالم العمال تحت السيطرة علي ضوء اشاعات عن اضرابات وغضب اجتماعي في الافق ردا علي غلاء المعيشة.
اذاً، هو موسم هذه بتلك : سلطة تستغبي شعبها، وهو يرد بزرع الشك والارتباك وعدم الثقة. سلاح السلطة هو التلفزيون (يشاهده الناس ولا يثقون به)، وسلاح المجتمع هو عدم الثقة بهذا التلفزيون ومن يطلون منه كل مساء.
كاتب من اسرة القدس العربي
التعديل الأخير تم بواسطة Ucef ; 11-09-2007 الساعة 04:25 PM