ظهور القوة الروسية في القرن الخامس عشر
05-07-2021, 11:24 AM


شاء الله عز وجل أن تشهد هذه المرحلة التاريخية؛ أعني السنوات الأخيرة من القرن الخامس عشر والبدايات الأولى من القرن السادس عشر، أي في عهد السلطان بايزيد الثاني، عدَّة تغييراتٍ جذريَّةٍ في خريطة العالم السياسية، فظهرت قوى عالمية جديدة، وتضاءلت قوى أخرى، وكان لكلِّ هذا تأثيرٌ مباشرٌ على مستقبل الدولة العثمانية، وكان من هذه التغييرات ظهور إمبراطوريَّات كبرى كان لها تأثيرٌ كبيرٌ على مجريات الأحداث العالمية؛ مثل إمبراطوريات إسبانيا، والبرتغال، وروسيا، والنمسا، والصفويين بإيران، كما تطوَّرت أوروبا الغربية علميًّا واقتصاديًّا بشكلٍ لافت ممَّا أدَّى إلى نموِّ إنجلترا وفرنسا لاحقًا بصورةٍ مؤثِّرة، وصاحَب هذا التضخُّم لهذه الإمبراطوريات أفول لنجوم إمبراطورياتٍ أخرى؛ كالمجر، والبندقية، وإمبراطورية البابا نفسه! لا شَكَّ أن هذه التطوُّرات كان لها أثرٌ كبيرٌ على الدولة العثمانية، التي شهدت بدورها في مطلع القرن السادس عشر نموًّا مذهلًا في قوَّتها، ممَّا جعلها في منافسةٍ بارزةٍ لهذه القوى الجديدة التي ظهرت، وفي هذا المقال سنأخذ فكرةً عن ظهور القوة الروسية.

ظهور القوة الروسية:

في عهد بايزيد الثاني -أيضًا- ظهرت القوَّة الروسية كواحدةٍ من القوى المؤثِّرة عالميًّا. كانت إمارة روسيا في حالةٍ توسُّعيَّةٍ ملحوظة، وكان على رأسها في ذلك التوقيت الأمير إيڤان الثالث الملقَّب بالعظيم Ivan III the Great، وقد حكم من 1462م إلى 1505م، وهو أوَّل من جمع الأراضي الروسيَّة المختلفة تحت حكم إمارة موسكو، في عمليَّةٍ يُطْلِق عليها المؤرِّخون: «تجميع الأراضي الروسيَّة» (Gathering of the Russian lands)، ويُعتبر من ناحيةٍ عمليَّة السببَ في تكوين روسيا القيصريَّة[1]، وإن كانت القيصريَّة لم تُعْلَن بشكلٍ رسميٍّ إلَّا في عهد إيڤان الرابع الملقَّب بالرهيب Ivan IV the Terrible؛ وذلك في عام 1547م[2].

كانت عين إيڤان الثالث على الدولة العثمانية بلا شك، لوجود نقاط تقاطع كبيرة في منطقة القرم، بل إن الدولة العثمانية تسيطر على مناطق كثيرة في قفقاسيا، وشمال البحر الأسود، وأوكرانيا، وهذه كلها مناطق يعتبرها إيڤان الثالث من الأراضي الروسية التي ينبغي أن تدخل في عملية «التجميع» التي يقوم بها.

ومع ذلك فالأمير الروسي كان سياسيًّا محترفًا؛ فأدرك الفارق الكبير في هذه المرحلة بينه وبين الدولة العثمانية، فلم يسعَ إلى الصدام معها، بل على العكس سعى إلى العلاقات الدبلوماسية مع السلطان بايزيد الثاني مُوَسِّطًا في ذلك خان القرم منكلي كراي Meñli I Giray التابع للعثمانيين، الذي نجح في إقناع السلطان باستقبال أول سفارةٍ روسيَّةٍ في إسطنبول عام 1492م[3].

كان هذا هدوءً يسبق العاصفة؛ إذ لن تمر إلا عقودٌ محدودةٌ حتى تُصبح الإمارة الروسية قيصرية إمبراطورية كبرى، وستُصبح عندها أشدَّ أعداء الدولة العثمانية قاطبة![4].



[1] Paul, Michael C.: Secular Power and the Archbishops of Novgorod up to the Muscovite Conquest, Kritika: Explorations in Russian and Eurasian History, Slavica Publishers, Indiana University, Bloomington, Indiana, USA, 2007, pp. 131-170.
[2] Andreyev, Nikolay: Appanage and Muscovite Russia, In: Auty, Robert & Obolensky, Dimitri: Companion to Russian Studies, (Volume 1: An Introduction to Russian History), Cambridge University Press, New York, USA, 1976., vol. 1, p. 99.
[3] فريد، محمد: تاريخ الدولة العلية العثمانية، تحقيق: إحسان حقي، دار النفائس، بيروت، الطبعة الأولى، 1401هـ=1981م.الصفحات 183، 184.
[4] دكتور راغب السرجاني: قصة الدولة العثمانية من النشأة إلى السقوط، مكتبة الصفا للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 1442هـ= 2021م، 1/ 359، 360.