إنقاذ أكثر الذئاب ندرة في العالم
15-09-2015, 10:27 PM
روبن تشيري
صحفي




توجد في أثيوبيا منطقة بالغة الأهمية، فهي موطن أجناس وأنواع محلية ـ بما في ذلك الذئب الأثيوبي النادرـ أكثر من أية منطقة أخرى بمساحة مماثلة على سطح كوكبنا.
تقع "المحمية الوطنية لجبل بيل" على بعد 400 كيلومتر إلى الجنوب الشرقي من العاصمة الأثيوبية، أديس أبابا. وقد استغرقت رحلتنا اليها تسع ساعات، شعرنا خلالها بحالة من التشويق والإثارة. كنا نتنقل عبر طرق قروية ترابية مزدحمة، ونراوغ للمرور بين الناس، والأبقار، والماعز، والحمير، والكلاب، والحُفر.
توجهنا مع سائقنا دانيال صوب "دار إقامة جبل بيل"، وهي استراحة لها ترخيص جديد منحته الحكومة الأثيوبية لضابط بريطاني سابق يدعى "غاي ليفين" وزوجته "يفون" في شهر سبتمبر/أيلول عام 2014.
وتأمل الحكومة أن يؤدي ذلك إلى الإقبال على المحمية والسياحة فيها للمحافظة على ذلك المتنزه من أخطار وتهديدات حقيقية، كقطع أشجار الغابات، وسيطرة البعض على جزءٍ منه بصورة غير شرعية، وتبلغ مساحة ذلك المتنزه 2,200 كيلومتر مربع.
وتعد "المحمية الوطنية لجبل بيل" منبعا للجمال والعجائب، لكن أهميتها أكبر من ذلك، فهي تقع ضمن "القائمة التمهيدية لمواقع التراث العالمي"، بحسب تصنيف منظمة اليونيسكو، وتحوي مناظر طبيعية متنوعة ومذهلة.
فهي موطن لأكبر مستودع وراثي في العالم للقهوة البرية الأثيوبية النفيسة (وهي ضرورية جدا لتحسين أصناف جديدة من حبوب القهوة). كما يحوي المتنزه 40 في المئة من النباتات الطبية لذلك البلد. أضف إلى ذلك أن المتنزه موطن أجناس وأنواع محلية أكثر من أية منطقة أخرى بمساحة مماثلة على سطح كوكبنا ـ بما في ذلك الذئب الأثيوبي النادر وأكثر من 300 نوع من الطيور.
علاوة على كل ذلك، يحوي "جبل بيل" أكبر غابات تغطيها السُحب في البلد، حيث تُعتبر مناطقه الطبيعية الرطبة حوضاً مائياً يزود قرابة 12 مليون إنسان بحاجتهم من المياه في السهول الجرداء من أثيوبيا وكينيا والصومال.
ولعدم إدارتها بشكل فعال لسنين عديدة، نجد أن جميع تلك الخصائص مهددة بالزوال. فقد حصل انفجار سكاني في أثيوبيا خلال السنوات العشر الأخيرة، بسبب معدلات الولادة العالية، وتوفر الأراضي الصالحة للزراعة، مما أدى إلى توافد أفواج من المستوطنين غير الشرعيين إلى ذلك المنتزه الوطني، مصطحبين معهم ماشيتهم.



وبخلاف المتنزهات الوطنية في كينيا المجاورة، الأرض هنا خصبة جدا، ويقوم المستوطنون بالزراعة والرعي وقطع الأشجارـ إضافة إلى الرعي الجائر وقطع الأشجار بشكل غير قانوني بغرض استعماله كوقود. كما يصطحب المستوطنون معهم كلابهم التي تتزاوج مع الذئاب الأثيوبية من جهة، وتهددها بالإصابة بداء الكَلَب، من جهة أخرى.
قبل افتتاح تلك الدار، كانت أماكن الإقامة في المتنزه بسيطة في أحسن أحوالها، إن لم تكن بائسة. كان على الزوار أن ينصبوا خيمهم، أما من يحبذون الضياء والكهرباء والتدفئة، فلم يكن لهم حظ في ذلك. لكن دار الإقامة الجديد يأمل في اجتذاب زائرين موسرين أكثر إلى تلك المنطقة.
وقد إلتزم "ليفين" وزوجته بالتبرع بجزء من الأرباح لحماية المتنزه، بما في ذلك تشخيص وملاحقة المتجاوزين.
بعد قيادة السيارة لست ساعات عبر "وادي الصدع الكبير" ـ وهو شق واسع يمتد من سوريا إلى موزمبيق ـ وصلنا في النهاية إلى مقر المتنزه في "دينشو"، الذي لم يزل يبعد ثلاث ساعات عن دار الإقامة.
توقف قطيع من النيالا الجبلية (نوع من الظباء) محدقاً بنا، بدون حراك، قبل أن يعود إلى رشده ويتوجه برشاقة صوب المراعي الواسعة، حيث تنتشر في كل مكان فيها أشجار السنط الأفريقية ذات القمم المسطحة.
مع عددها المتبقي الذي يبلغ فقط 2500، فإن ظباء النيالا الجبلية هي الأكثر طلباً في أثيوبيا برغم أنها مهددة بالانقراض. ومع ذلك، يمكنك الحصول لنفسك على واحدة من تلك التي لا تقع ضمن حماية المتنزه لقاء رسوم تذكارية يبدأ من 15 ألف دولار أمريكي.
توجهنا بسيارتنا نحو هضبة "سانيتي"، فوجدنا حشائش السافانا وهي تفسح المجال أمام غابات العرعر الخضراء المنتشرة هناك.
تحدّت السعادين المتبخترة "دانيال" حول أولوية إفساح الطريق. كانت درجة الحرارة تنخفض كلما صعدنا أكثر نحو هضبة "سانيتي"، حيث تراها بمشهد رمادي يجثم فوق الصدور بارتفاعها البالغ 4000 متر.



نظرنا نحو الأسفل، باتجاه السُحب المتراكمة، وفي الحال لمح "دانيال" ذئباً أثيوبياً وحيداً. بالنسبة لأكثر الكلبيات ندرة على وجه الأرض، من المدهش ملاحظتها بسهولة، بسبب تناثر الغطاء النباتي عدا زهور لوبيليا العملاقة.
لا يزال 450 من الذئاب الأثيوبية فقط يعيش على كوكبنا؛ وتعيش 50 في المئة منها على هذه الهضبة، أما بقيتها فتتناثر فوق خمس مناطق جبلية مرتفعة في أماكن أخرى من أثيوبيا.
تعيش هذه الذئاب الرشيقة، ذات السيقان الطويلة، في مجتمعات عائلية. تحتضن بعضها البعض حصولاً على الدفء عندما تنخفض درجات الحرارة دون الصفر، وغالباً ما تقوم بذلك. أثناء النهار، تنطلق وحدها لتصيد طرائدها.
الطريدة المفضلة للذئاب هي فأر الخُلد العملاق، وهو من القوارض البدينة القصيرة. تقع عيناه على قمة رأسه، مثل منارات صغيرة من الفرو. ويستوطن فأر الخلد جبل بيل فقط.
وهذا الحيوان من حيوانات المنتزه مهدد بالانقراض أيضا. إنه يحفر جحوره تحت سطح الهضبة حيث يظهر ويختفي فجأة من فتحاتها كأنه يلعب لعبة حية، أو إذا ما أخذنا نزعة الذئاب في الحسبان، فإنها تُسمى "وجبة خفيفة من الخُلد".
وبينما كنا نهبط من الهضبة باتجاه غابة هارينا المخضرة، وهي ثالث أكبر غابات أفريقيا، توقفنا عند طريق ترابية تؤدي إلى دار الإقامة. في تلك اللحظات، اندفعت عائلة من الخنزير الوحشي الأفريقي أمامنا. كانت صغار الخنازير، بعيونها التي تشبه عيون الظباء، تهرول مسرعة للحاق بوالديها.
وعلى ارتفاع مناسبٍ للرئتين يبلغ 2,377 متراً عن مستوى سطح البحر، ترى دار الإقامة التي نقصدها، وهي تشكل بناءً تقليدياً أثيوبياً على طراز ’توكول‘ (هيكل دائري ذو جدران من القش وسقف من القش مخروطي الشكل) مخفياً عن الأنظار. وعلى الرغم من شكل هذا الدار الملائم للبيئة، فقد تم تصميمه بشكل متميز ليقلل من تأثيراته على الطبيعة.
وتأتي الكهرباء إليها من محطة كهرومائية مصغرة لتوليد الطاقة تقع على مجرى نهر "شاوي" القريب. أما الماء فيُجلب من النهر بعد تصفيته باستعمال مرشحات رملية. ويمر الماء بمرحلة نهائية للترشيح باستعمال الأشعة فوق البنفسجية مما يتيح شرب الماء مباشرة من الصنبور دون الحاجة إلى عبوات الماء البلاستيكية.



وتُعالَج النفايات الصلبة عن طريق وحدة الغاز الحيوي التي تحول قسماً منه إلى غاز يستعمل في الطبخ.
كما يوفر "ليفين" وزوجته مجاناً، السكن والطعام والمكاتب وخدمة الإنترنت لفرق الأبحاث الدولية الذين يعملون على مشاريع المحافظة على البيئة في المتنزه.
ترتبط بالدار 11 غرفة ضمن أجنحة مبنية من الحجر في بيوت قائمة بذاتها تدعى ’مينياتيباتس‘ باللغة الأمهرية. يسهل للمعاقين الوصول إليها وتحيط بها جميعاً الغابات.
وتشذ البيوت الملائمة للمعاقين عن المألوف في أفريقيا، غير أن ابن ليفين، ويدعى "ماكس"، أصيب بالشلل بعد حادث غريب خلال مباراة لكرة قدم الرغبي. كان مهماً بالنسبة لهما شعور ابنهما، وأمثاله من المعاقين من الزوار، بأنهم على مرحب بهم في هذا المكان. وكان "ماكس" قد اختبر بنفسه مسارات الدار وغرفها ونالت استحسانه.
كانت غرفتي مزينة بأنسجة أثيوبية ملونة بألوان حمراء وبيضاء وسوداء، وسجاداً منسوجاً زاهياً. وضع الفراش بجوار جدار صخري، مواجهاً لشرفة خاصة حيث كنت أستمتع هناك بشرب قدح من الشاي كل صباح.
قضيت ثلاثة أيام وأنا أستكشف المتنزه مع "دانيال" وشخص أخر مقيم في الدار من عشاق الطبيعة، وهو "جيمس كوريا ندونغ"، وهو عالم طيور، وعندما لا يرافق ضيوف الدار في نزهتهم، فإنه يقوم بربط أجهزة خاصة بالطيور لكي يتتبع نمط رحلاتها.



ويمكن له التعرف على طيور لم أكن لأراها. كما أنه أشار إلى نباتات وأزهار تكاد تُرى بالعين المجردة. إضافة إلى ذلك، فإنه يلتقط صوراً للمستوطنات غير الشرعية ليسلمها إلى السلطات التي بدأت في اتخاذ إجراءات ضدهم.
في إحدى الليالي، تناولنا العشاء مع زوجين إنجليزيين. كان الزوج أستاذا متقاعداً في مجال علم الطيور من جامعة كارديف. عندما تبادل أطراف الحديث مع "ندونغ"، كانت المحادثة عبارة عن شيء لا نفهمه بشأن الطيور.
خفتت أصواتهما عندما ذكرا أغلى مجنحات أثيوبيا: الطائر الذي يعرف باسم "توراكو روسبولي"، وهو طائر نادر ومهدد بالانقراض، ويلفت النظر بلونه الأخضرـالقرمزي وبتسريحة ريش رأسه الشقراء الناتئة.
أول من قام بجمع هذا الطائر هو الأمير "روسبولي" في تسعينيات القرن التاسع عشر. كان مستكشفاً إيطالياً قُتل في مواجهة مع أحد الفيلة ولم يترك أي أثر عما جمعه. وبالرغم من شائعات برؤيتها في المتنزه، فإني لم أرَ طائر "توراكو روسبولي". ولكني رأيت قرداً نادراً لجبل "بيل"؛ وهو نوع يعيش بالكامل تقريباً على شجر الخيزران.
كما أخبرني "ندونغ" أنه ربما يكون قد إكتشف نوعاً جديداً من الأفاعي التي يُعتقد بأنها سوداء متغيرة متوطنة في المنطقة لم يعهدها العلم من قبل. لم أرَ أياً من هذه أيضاً ـ ولم يكن ذلك غريباً بالنسبة لي.
في ليلتي الأخيرة، وبينما كنت أحدق في السماء المرصعة بالنجوم بشكل لم أعهده من قبل، أحسست بقشعريرة تسري في جسدي. إذ بدأت درجة الحرارة تنخفض بشكل كبير.
تخيلتُ الذئاب الأثيوبية وهي تتدثر ببعضها البعض لتقضي ليلتها بنوم دافيء. وتمنيت بأن تظل تلك الذئاب وأسلافها قادرة على التجوال عبر هذه المناظر الطبيعية الحيوية والمذهلة، إلى الأبد.