الطين واليقين
20-01-2021, 02:02 PM
ديما وفي إقليم محيطنا بئر العاتر الذي مسته عوامل التعرية الطبيعية والتهميشية المركزة بعد أن كان مهد الحضارات وامتدادا للثورات ومعتركا للوغى و الذود عن ألحما وتلقين ألدنا دروس إطلاق الرصاص بلون القنا، وباب جحيم للغزاة يلفحهم صبحا ومساء, توفي رجل وترك زوجته وأبنها في كوخ لا يرتقي لداموس، قبالة فج من وحشته هجرته حتى الطيور وإلفه زفير الرياح المزمجرة العاشقة للفجوات لتطلق سيمفونيتها العذراء, وترددات الصدى التي تروي مزيج أراء من المتناقضات البشرية المتسكعة الهائمة , ترتقي تارة لتستأنس بمقبرة اللغو العالقة بين السماء والأرض تنتظر يوما تتبعثر فيه الأجداث لتكون شاهدة حق يوم الحق عندما تجتمع الخصوم ليأخذ كل ذي حق حقه.
لحرقتها على فراق زوجها امتصتها الأحزان وأدخلتها دوامة المتاهات ولكن إيمانها بالله ورحمته وشكواها لخالقها التي لا تتوقف ولا تنتهي ليلا نهارا متواصلة في ركوعها وسجودها، في غدوها ورواحها، في صحوتها وغفوتها، لسانها دائم بذكر الله وشكره مما زادها طاقة ودفعا قويا أنار لها مشارقها ومغاربها فأينع قلبها وأنتعش وأزهر بعد قحط قاس كاد يدخلها في بادئ الأمر دوامة الجنون.
ومما زادها قوة تذكرت قصة سيدتنا هاجر وأبنها إسماعيل عليه السلام عندما تركهما سيدنا إبراهيم عليه السلام بأمر من الله في واد قاحل غير ذي زرع، فاطمأن قلبها وأدركت أن الله لن يضيعها هي وأبنها.
ببصيرتها الثاقبة أدركت بواطن النور الإلهي وأزاحت غشاوة العتمة الشيطانية من أمامها وتفتحت لها أبواب الأمل على مصراعيها وقررت في لحضه تبصر فارقة بين الأمل والإحباط أن تخوض غمار الحياة لتعيل نفسها و أبنها البالغ من العمر عامين وأن تعول على الله ونفسها.
بنور من الله بدأت في تمليس الطواجين الطينية وصناعة أواني البخور وكوانين الجمر التي كانت سائدة في ذلك الوقت الذي يعود لسنة 1963, عندما كان الحطب والحلفاء وبقايا الحيوانات تستعمل كنار لطهي الطعام والأرغفة.
في هذا الوقت ازدهرت تجارة الحطب وكان الكثير من المواطنين يمارسونها لأنها لا تتطلب معدات كثيرة، حمار وحبل وفأس حاد, كما ازدهرت فيه كذلك تجارة. الماء وكان يسمى من يقوم بها (الزقاي).
ببركة من الله ورعايته التي لا تنسى أحد تحسنت أحوالها وأحوال كوخها الذي أدخلت عليه بعض التعديلات وعندما وصل أبنها 6 سنوات أدخلته المدرسة الوحيدة في ذلك الوقت مدرسة عمار السنوسي التي كان أمامها يقام السوق الأسبوعي وهو عبارة عن خيم للمواد الغذائية والأقمشة بمختلف ألوانها, كما أنها كانت تبيع في السوق أوانيها الفخارية التي كان مصدر طينها الجبل المحاذي لوادي الجبانة, ولعزة نفسها الشامخة المترفعة التي لا تنظر ولا تطمع لما بين أيدي الخلائق, المتعففة البعيدة عن الطمع التي لا تنحي إلا لله, تحسبها غنية وهي فقيرة يقول تعالى ( لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273).
فرحت المسكينة بنجاح أبنها في شهادة التعليم الابتدائي الذي أنتقل إلي المرحلة الأعلى بالمتوسطة بتبسة وهو لا يشعر بمعاناة والدته التي تحترق وتذوب كالشمعة من أجل راحة فلذة كبدها, حتى لا يشعر أمام أقرانه بالدونية, يرتدي جيد الثياب, منتعلا متهمما وكأنه أمير بين خدمه وحشمه, يضحك في مد خطواته مع زملائه حتى يخالط بريق أسنانه زرقة السماء, منكبا على دراسته التي كان مجتهدا فيها وبما أن مبارك الجرب تعدي الصحاح , تعلم التدخين وأصبح من هواة سجائر الصافي جزائرية الصنع التي كانت موجودة في ذلك الوقت ومع ذلك لم ينحرف لأمور أخرى, ساعده في ذلك المحيط العاتري التبسي الذي كان في ذلك الوقت راكدا بمحتواه محافظا لم تتغلغل فيه الظواهر السلبية.
في الجهة المقابلة كانت والدته المسكينة تارة تحادث نفسها وتبتسم وتارة تخاطب ربها فتدمع عيناها من الخشية والرحمة التي تتغشاها وهي تشتكي لله وتشكره على النعم الظاهرة والباطنة التي أصبحنا نجهلها اليوم ولا نحس بنعيمها إلا عندما تتوقف وندخل معاناة الأمراض المزمنة.
نجح أبنها وأنتقل الي ثانوية مالك بن نبي تبسة وبقيت هي تكافح مجتهدة في عملها الذي أصبح معروفا بجودته, كما اقتنصت الفرصة ووسعت تجارتها بوضع جزء منها في محل لبيع الأعشاب الطبية مقابل نسبة من الأرياح, كما كانت تقوم من حين لأخر بتزويد صاحب المحل بالأعشاب الطبية مثل العرعار وزريعة الحرمل والحنظل والمروبية والبابونج والإكليل الجبلي والشيح والنعناع الذي كانت تزرعه خلف بيتها وتسقيه بدموعها وحنانها وبعطر كلماتها في الذكر والتسبيح والحمد, فقد قال الله عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152].
وقَالَ ايضا: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].
مضت السنوات وتقلصت بسمتها وداهمتها الشيخوخة مبكرا لشقائها الدائم المستمر في تحصيل لقمة العيش ونجح أبنها في شهادة البكالوريا وكان مجتهدا حيث أفتك الشهادة بمعدل عال ونال منحة مواصلة دراسته في بريطانيا, ولإعجابه بنفسه نسي تضحيات والدته وتقوس ظهرها من تمليس الطين ليصبح هو رجلا يختال بين علم الدوال والمعادلات والعظام ولين المفاصل, اتسعت حدقتا عيناه على بريق الدنيا الكاذب فضاع بين مدها العابث بالعقول في زمن الاحتياج المنغلق على بيئة جرداء وشعاع شمس منعكس على الصخور السوداء المحترقة وفقر مدقع تساوى فيه الجميع, وجذبه الانحلال الغربي وتفسخه في عالم التعري واللذة العمياء والطيش الدنيوي المحدود الذي يتذبذب لتأثيره العقل فيتيه في دوامة النشوة, ويصبح صاحبه أسير الأهواء وومضات الموضة المتغيرة المرصعة بالمفاتن التي لا تعرف الحشمة ولا الأخلاق.
سافر هو وحزنت أمه حزنا شديدا لفراقه ذرفت الدموع ليلا نهارا في تواصل يفتت الحجر, هجرت عملها وقبعت في كوخها تكلم نفسها أمام موقدها الحزين الذي يشاركها الألم وتساعد حرارته في تجفيف الدموع المنهمرة على خدها المتجعد الذي يحمل في كل تجعيدة قصة من القهر والألم تراكمت منذ والدتها بالرديف في وسط قبيلة الهمامة التي كان لها صيت في ذلك الوقت في الشجاعة والفروسية ومعايشتها للاستعمار الفرنسي وزواجها وعمرها عشرة سنوات وترملها المبكر عندما توفي زوجها في مواجهة دامية بين قبيلة النمامشة وقبيلة الهمامة, وزواجها الثاني من جزائري كان يعمل في دواميس الفسفاط بالرديف والذي أنجبت منه 4 بنات توفوا كلهم بمرض غريب وبعد ذلك رزقها الله في سنة 1961 بمولود بهي الطلعة وفي أواخر سنة 1962 انتقلوا الي بئر العاتر.
يقال أنها في سنة 1980 وجدت ميتة من العطش بين نقرين وحدود بن قشة بعد أن هامت على وجهها حزنا على أبنها الذي تركها مرمية حطاما وحيدة بين الفقر والقهر وألم الأشواق, وسافر إلي بريطانيا للدراسة ومنذ ذلك الوقت لم يظهر عليه أي خبر أو ربما جذبها الحنين لمسقط رأسها بعد أن إحتواها اليأس في لحظة ضعف جارفة, رحمها الله ,اسكنها فسيح جناته.
بلخيري محمد الناصر