كيف يصنع الطغاة
05-09-2018, 04:49 PM
في الحي الذي أسكن يوجد مسجد، كم حلفنا به ونحن صغار، أتذكره منذ كان كعلبة صندوق، بسيط، صغير، إلى فتح الله عليه فاتسع وزين وغدا يدر دخلا مهما عبر مشروع غرف الكراء الذي دشن من مدة، لكن حدث أن اختلست أموال اخزينته بعد أحداث فاضحة عزل خلالها المؤذن، حوكم، وسجن، وغرم، كونه المسؤول عن المسجد. خوفا من فضيحة ثانية بقي المصلون على مسافة آمنين من المسؤولية داخله؛ فمن خاف نجا، هكذا يؤمن هؤلاء القوم، لكن غياب مؤذن للمسجد معتمد، كان صداعا في رأس كل مصل؛ ففي كل مرة كنا نسمع متطوعا لنداء الصلاة، حتى أني أتذكر أن أحمقا هو من أذن للصلاة ظهرا؛ وأقسم على ذلك.
يقال أن الشياطين تسكن أشيائنا، وشيطان المسجد هذه المرة كان في أبوابه. لم يكن بد من أن يغلق المسجد مرة ويفتح مرة من لدن الإمام الذي لا يمتلك وقتا إلا للإمامة فهو يمتهن الخياطة، فما كان من مسؤول بين المصلين إلا رجل، كتوم، وقور، حيي، أعمى، دائم المواظبة على الصلاة، لم يفلت له فجرا يوما أو صلاة إلا وشوهد داخل المسجد، يأتي دائما قبل موعد الصلاة فيجلس منتظرا، له أعطيت مفاتيح المسجد رضاءا، فكان الفاتح والغالق، زاد حب الرجل للمصلين لانضباطه وتمام حضوره، أخذوا يغدقونه بالثناء والمديح الحسن، فرغم الإعاقة الواضحة إلا أنه لم يعق طريقه للمسجد يوما قبل الوقت أو يؤخرها. في يوم لم يجد المصلون من سيؤذن، تناقلوا نظراتهم بينهم، وكجميل اقترحوا الرجل الأعور ليتقدم للمئذنة، تفاجأ المسكين فاجتاحته مشاعر الفرح والسعادة؛ فهو في الأصل لم يكن يتوقع هذا الشرف، ثم لم تر خطوة ألقاها نحو المئذنة إلا سمع المصلون لها دعاءا يردده لهم حبا واحتراما، وما إن بدأ النداء للصلاة حتى تفاجأ من تفاجأ وذهل من ذهل وصدم من صدم وضحك من ضحك، كان شعورا غريبا وتناقضا رهيبا، يتلاطم بوجوه المصلين، فأي مصيبة هذه؟ خصوصا وأن جميع من في المسجد اتفق عليه مؤذنا ومسؤولا جديدا، و جميعهم لاحظوا سعادته وفرحه وسمعوا دعاءه لهم. فلا يصح تدمير مشاعر بئيس فرح. والرسول صل الله عليه وسلم يقول:
يا عائشة : أحبي المساكين وقربيهم ، فإن الله يقربك يوم القيامة.
بقي المصلون على مضض يقدمون الرجل للمئذنة مطأطئ الرؤوس خجلا واحتراما، وورطة شيطانية فتحها عليهم الشيطان حين اقترحوه مؤذنا، حتى عرف الطريق وأخذ الأمور بيده فسقط المسجد بين كفيه، وسويت وضعيته قانونيا، بتزكية من المصلين أنفسهم، لم تكن إلا أياما حتى قال عسكري متقاعد وسط بعض من مؤيديه بلغ نفاقهم درجة الفضح، بلغة ساخرة معقبا على آذان الرجل:
هذا الرجل لا يؤذن بل ينهق.
بمجرد أن سمع الأعور هذا التهكم الساخط، رد في حينه:
إذا فمن اليوم ستكون مجبرا على الجلوس مع الحمير بمجرد أن تسمع نهيقي.
ضحك بعض من سمع رد المؤذن، اشتاط المتقاعد غضبا وهو يهم بالرد قاطعه المؤذن كأنه توقع ما سيلفظ به:
لن يمنعني أحد، فأنا المسؤول هنا ومن له اعتراض فليمت بغيظه أو يشربه بمرارة، فأنا مكلف بشكل شخصي من وزارة الأوقاف، وذلك بتزكيتكم أنتم، إذا فلموا أنفسكم ولا تلموا نهيقي أعزكم الله.
30/08/2018•