التمايز في الوطن العربي وتاريخ ظهوره
24-09-2020, 05:00 PM
التمايز في الوطن العربي وتاريخ ظهوره


مع بداية ظهور الإسلام، ومع بوادر الدعوة منذ لحظاتها الأولى، استقطب الإسلام الأقليات والمستضعفين من ملونين وغيرهم في مجتمع مكة والمدينة، في حين استكبر الملأ الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أسياد المكان، واستنكروا مساواة العبيد مع الأسياد .. والآية 13 من سورة الحجرات { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير} وكما يذكر الله عز وجل في الآية 70 من سورة الإسراء على تكريم بني آدم على باقي المخلوقات { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير مما خلقنا تفضيلا} .. كما أن الرسول صلوات الله عليه، قد قرر نظرة المساواة بين المسلمين والناس، فقال: الناس سواسية كأسنان المشط، لا فرق بين غربي ولا عجمي إلا بالتقوى .. وما ورد على لسان الصحابة من أقوال تؤكد إيمانهم بالنظرة السماوية تجاه الناس فقد روي أن عمر بن الخطاب قد استمع الى شكوى مصري تسابق مع ابن عمرو بن العاص فسبقه، فقال له ابن عمرو ابن العاص: أتسبق ابن الأكرمين وضربه بالسوط.. فطلب ابن الخطاب عمرو ابن العاص وابنه والمصري وناول المصري سوطا وقال له اضرب ابن الأكرمين .. وأتبع أمره بالقول (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟)* 1

إلا أن النزاهة في التعامل مع الأقليات والتي كانت أجواء حداثة الرسالة السماوية تجعلها أقرب الى العدل بل و (القسط)*2 تجاه أبناء الأقليات، قد تأثرت بتطور الدولة وأداءها، وتأثر هذا الأداء بالعصبية، وقد نوه عن تلك المسألة ابن خلدون في مقدمته إذ قال (إن كل أمر تُحمَل عليه الكافة، فلا بد له من العصبية) ويستشهد بالحديث (ما بعث الله نبيا إلا في متعة من قومه)*3.. ويشرح ابن خلدون تلك المسألة (العصبية) فيقول أنها أساس الملك، وقد ألهم الله رسوله في التعامل مع تلك المسألة بقدرة قيادية هائلة، عندما كان يكرم رؤساء العشائر ويغدق عليهم بالعطاء وهم في طريقهم الى الإيمان الكامل (المؤلفة قلوبهم) وقد نجح هذا النهج، ففي معركة القادسية كان عدد الجنود من جيش المسلمين حوالي 33 ألف جندي، مقابل 120 ألف من الفرس، وجيوش المسلمين في معركة اليرموك تقل عنها في معركة القادسية من حيث العدد، مقابل 400ألف من جنود هرقل .. وقد انتصر المسلمون في المعركتين، لانضوائهم تحت (الديني) مع مراعاة لظروف تجميعهم (الاجتماعي) وفق نظرة سوقية عسكرية واعية ..

أوضاع غير المسلمين

يتجنب كثير من الكتاب والمفكرين الإسلاميين، الذين (يؤدلجوا) الدين سياسيا من استخدام مصطلح الأقليات، بل يميلون الى استخدام مصطلح (التعدد)، كما يفعل (وجيه كوثراني) و (فهمي هويدي) مثلا*4.. ويحاول هؤلاء الكتاب من وضع كلمة أقلية بين قوسين، وكأنهم مجبرين على استخدامها..

وبغض النظر عن التسمية، فإن الإسلام واجه منذ البداية مشاكل رفض تتعلق بالواقع الإثني، ونستطيع تصنيف تلك الإثنيات على طريقة الشهرستاني في كتابه (الملل والنِحَل) *5، حيث قسم الناس في بداية كتابه الى أهل الديانات والملل، وأهل الأهواء والنحل .. فأهل الديانات مثل النصارى والمجوس واليهود والمسلمين، وأهل الأهواء والآراء مثل : الفلاسفة، والدهرية، والصابئة وعبدة الكواكب والأوثان، والبراهمة .. هذا بعد أن مهد لتصنيف الناس حسب عروقهم، فهذا هندي وهذا عربي وهذا فارسي الخ ..

ولو سرنا على تقسيم الشهرستاني، لخرج اليوم علينا كميات هائلة ممن تنطبق عليهم صفة الأقلية، وستكون عندها الأحزاب والنقابات وحتى الطوائف الدينية وأصحاب الطرق أقليات .. وعندها سيضيع جهدنا ويتشتت في إعطاء الموضوع حقه، وقد لا يرغب القارئ بالغوص بتلك التفاصيل، بل إنه يقبل أن يطلع على الكيفية التي كانت الحكومات الإسلامية تتعامل فيها مع أقليات قومية، وقد لا تكون أقليات بل تكون هي الغالبية في مناطقها كأكراد شمال العراق، والأمازيغ في الأقطار المغاربية، والزنج في جنوب السودان وموريتانيا، وأقليات أخرى هاجرت الى منطقتنا في ظروف شتى كالأرمن والشركس وغيرهم .. وإن مررنا على كل ذلك فإننا قد نؤسس للنظرة المستقبلية التي تساعد في التمهيد لوضع تصورات في الكيفية التي يجب مناقشة بها موضوع الأقليات، بما يقود لمناقشة وضع الأوطان بطرح يقبل به كل من يعيش في تلك الأوطان ..


لنمر سريعا على الكيفية التي تعاملت به دولة صدر الإسلام مع موضوع الأقليات:
أولا: المواطنة وقضية الأقليات في الفكر السياسي الإسلامي :

أ ـ حرية التدين والعقيدة:

وهذا يعني عدم إكراه غير المسلمين على اعتناق الدين الإسلامي، وتركهم ببناء كنائسهم والقيام بممارسة شعائرهم الدينية. وهنا علينا أن نتذكر، كيف ميزت الإدارة الإسلامية بين الأمصار التي فتحت عنوة (بالقوة) والأمصار التي بناها المسلمون، ولم يكن لها وجود كالبصرة والكوفة والفسطاط وبغداد و واسط والقيروان .. ويمكن إرجاع المعايير التي قام هذا التقسيم على أساسها*6:
1ـ الأمن القومي للمجتمع المسلم، حيث يفترض أن الدول التي فتحت عنوة هي أكثر تهديدا للأمن القومي للدولة المسلمة.. فالاحتياطات واجبة.
2ـ الأمصار التي فُتحت صلحا يتم ضبط هذه المسألة من خلال الشروط التي يتفق عليها الطرفان. وبشكل عام فإنه يجوز لأهلها تجديد ما تهدم من معابدهم، وبعد أخذ إذن الدولة إذا أريد بناء الجديد من المعابد.
3ـ في البلاد التي مصرها المسلمون، حيث لا يسكنها سواهم، وتقام فيها شعائرهم كالجمعة والجماعة، لا يجوز بناء المعابد غير الإسلامية فيها.

ب ـ تكافؤ دماء المسلم وغير المسلم في القصاص والدية:

الجمهور يستندون الى الحديث المشهور( لا يُقتَل مسلم بكافر) فيمنعون أن يُقتص لغير المسلم من المسلم إذا قتله.. والأحناف يخالفون الجمهور في ذلك ويذهبون الى أنه يُقتص للمُعاهِد غير المسلم من المسلم.. لقول الرسول صلوات الله عليه (من قَتَل مُعاهدا لم يُرَح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما) .. والعلماء مجمعون على أن قتل الذمي كبيرة من كبائر المحرمات لهذا الوعيد، والأحناف والنخعي وابن أبي ليلى وعثمان البتي يقولون باستوائهما في عصمة الدم المؤبد .. فقد قتل النبي مسلما بمعاهد وقال (أنا أكرم من وفى بذمته، وأمر علي رضي الله عنه بقتل رجل من المسلمين قتل رجلا من أهل الذمة، وقامت عليه البينة فجاء أخوه فعفا عنه .. فقال علي: من كان على ذمتنا فدمه كدمنا وديته كديتنا.. وفي رواية أخرى : إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا*7

ج ـ واجبات أهل الذمة :

منذ حروب الردة، التي خاضها الخليفة أبو بكر الصديق رضوان الله عليه، ضد من امتنع عن أداء الزكاة مرددا قوله الشهير (إنما أنا مُتَبِع ولست بمبتدع)*8، وقد كانت تلك الحروب مع مسلمين غير ملتزمين بدفع الزكاة. وإن الجزية كانت تؤخذ من أجل حماية حقوق المواطنين غير المسلمين، والذين لم يٌطلب منهم حمل السلاح والدفاع عن البلاد .. وتتعدد اتجاهات الفقه الإسلامي بالنسبة لتكييف الجزية، فهناك آراء ثلاثة في هذا الشأن:
1ـ الرأي الأول يذهب الى أن الجزية هي أجرة السكن بأمان في الديار الإسلامية وهم الشافعية ( راجع ابن القيم : أحكام أهل الذمة ص 22ـ24)
2ـ الرأي الثاني: يذهب الى أن الجزية عقوبة على كفرهم ويمثله الحنابلة (راجع الماوردي : الأحكام السلطانية والولايات الدينية ص 144) .

3ـ الرأي الثالث: يذهب الى أن الجزية هي بدل الدفاع عن أهل الذمة، وهو رأي الأحناف ..

هوامش
ـــ
*1ـ http://sahab.net/forums/showthread.php?t=324046
*2ـ القسط هو إحقاق العدل مع إرضاء الطرف الآخر ..
*3ـ مقدمة ابن خلدون/ الدار التونسية 1984/ ص 208
*4ـ مشروع النهوض العربي/ بيروت/دار الطليعة 1995/ص 134.. كما يمكن ملاحظة ذلك في مجلة المنهاج /مركز غدير للدراسات الإسلامية/عدد10/ صيف 1998.. ويمكن ملاحظة ذلك في كتابات فهمي هويدي في (حقوق الإنسان في الإسلام) مقالات المؤتمر السادس للفكر الإسلامي/طهران 1988
*5ـ الملل والنحل/ محمد عبد الكريم الشهرستاني/ تحقيق: محمد بن فتح الله بدران/ مكتبة الأنجلو المصرية/ 1956/ص 20
*6ـ الأقليات والسياسة في الخبرة الإسلامية: من بداية الدولة النبوية وحتى نهاية الدولة العثمانية 621ـ 1908م/ د كمال السعيد حبيب/ مكتبة مدبولي/ 2002/القاهرة/ ص 80ـ 86
*7ـ غير المسلمين في المجتمع المسلم/ يوسف القرضاوي ص 12
*8ـ الأمة والدولة في سياسـة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين/ د نزار عبد اللطيف الحديثي/دار الحرية للطباعة/ بغداد1987/ ص 186