الباحثون عن الخيبة..صيد صفاء
07-04-2010, 04:06 PM
توزّعنا على خريطة الألم نبحث عن أحلام لا تبحث عنّا و عن وطن لا يدري بوجودنا.وطن ظننا لوهلة أنّه سيستقبلنا كما تستقبل الأمّ ولدها كلّ غروب شمس.توزّعنا نبحث عن كرامة ضائعة في بلد بالأمس سلب كرامة إخواننا و دمّر قلوب أمّهاتنا. وطن ما كنا لنطأه لو لا أنّ تلك اللّيلة المجنونة شجّعتنا على خوض مغامرة النّهاية فيها ذلّ أو موت.
شجّعتنا على خيانة وطن طالما أحبّنا و لمّا فعلنا خانتنا مثلما خنّاه.
نعم...
خانتنا تلك اللّيلة مثلما خنّا هذا الوطن.
غنّت على منصّة خيبتنا أغنية أمل يسكن وراء البحر و سلّمتنا رسالة السّعادة التي بعثت بها إلينا سماء تلك البلاد.
استسلمنا لمفاتنها و ركضنا وراءها إلى لحظة أوقعتنا في شباكها و رمت بنا إلى البحر الذي قبض روحك و أوصلني إلى تعاستي...

دخلتُ بلدا سكن الرّعب أرضه لمّا رأتني فحرّضت السّماء على قصفي برعدها و أبناءها على معاملتي كورقة شجر حملتها إليهم الرّياح من شمال إفريقيا و ربّما كوحش آدمي ابتلاهم به القدر.
****
لم يقبض على جسدي المتمزّق حرس السّواحل فقد سبقهم إليَّ أخ جزائري انتشلني من دوّامة الإرهاق و بحر الدّموع إلى بيته حيث يسكن مع والدته و أخيه الأصغر.
قال لي بعد أن أفقت من النّوم:
-أتعلم أين أنت؟
أجبته:
-هل وصلت حيث أريد؟
أجابتني أمّه:
-وصلت حيث تريدك الخيبة.
وقفت من مكاني:
-سيدتي لماذا تقولين هذا؟هنا الخير كلّه.
ضحكت:
-لم تخبرن لماذا أتيت.
أجبتها مباشرة:
-لأعيش.
ناولني الشاب الذي مدّ لي يد العون كوب شاي و أشار علي أن أجلس ففعلت.
سكن الصّمت الغرفة وقتا طويلا قطعته الحاجة فطيمة بسؤالها:
-أتعرف ما الذي يلزمك لتعيش هنا؟
أخذتُ نفسا عميقا:
-عليَّ أن أجعل لنفسي جنسية أخرى و اسما آخر. أعلم كم هو قاس هذا الأمر و لكن ماذا سنفعل و الحياة تجبرنا على فعل ما لا نريد.
قالت:
-تظنّ أنّ عينيك الزرقاوتين و شعرك الأصفر سيساعدانك على التأقلم؟
أجبتها:
-بنسبة ثمانين بالمئة.
سكتت و نظرت إلى ابنها نظرة تحسّر و قالت:
-علّمه ما لا يعلم فأظنّ الولد تربّي على مشاهدة الأفلام الخيالية.
ثمّ خرجت و تركتنا بمفردنا نبحث عن سبيل يهدينا إلى خلق هوية جديدة و كان لي ذلك عندما أتى الأخ الأصغر الذي دلّني على رجل مختصّ في مثل هذه الأمور.

السّنة الأولى مضت...
اسمٌ تغيّر من *مهدي*إلى*لويس*و من جنسية جزائرية إلى جنسيات أخرى مختلفة استقرّت في الأخير أن تكون فرنسية و من بطّال إلى صاحب محلّ أهدتني إيّاه أو ربّما كان*صدقة* من زوجتي الفرنسية.
طيّب...
أخيرا تحصّلت على ما أريد من ماديات و لكني لم أحصل على مطلبي الأوّل *الكرامة* بل أظنّني فقدتها بمجرّد وصولي إلى سردينيا.
فهل تعتبر كرامة التنصّل من الهوية و العيش تحت رحمة زوجة تكبرك بعشر سنوات؟
هل تعتبر حياة الرّفاه تلك التي تتقاسمها مع امرأة لا تعلم شيئا عن ماضيك و لا يهمّها أن تعلم؟
امرأة لا تدين بدينك،تخرج متى تريد و تدخل متى تريد باللّباس الذي تشتهيه و أنت عاجز عن قول كلمتك في الموضوع أو فرض مبدأ*النّيف الجزائري*الذي إن تخلّى عنه أحد يتخلّى عنه أصدقاؤه أو يتهامسون كلّما رأوه مارّا بجانبهم و ترى زوجته أو أخته تشتكي نقص الشّعور بالحماية التي هي حقّ كلّ امرأة في زمن كثرت فيه الذّئاب.
هل هي سعادة تلك التي بحثت عنها في بلد غير بلادك عندما تحرم من أبسط شيء تعبّر به عن حبّك لوطنك؟
هل هي حرّية تلك التي تجبرك على إخفاء سرورك في عرس وطني كالذي حدث مؤخّرا بمناسبة تأهّل فريق البلد إلى نهائيات كأس العالم بجنوب إفريقيا؟
تجد نفسك مجبرا على مشاهدة مباراة في كرة القدم لبلد ليس بلدك صحبة زوجة لا تعرف عن قوانين الكرة غير أنّ كرة دخت المرمى و بعد نهاية المباراة تخرج بسيارتك ليس لتقول:
أو تحمل علما جزائريا و إنّما لتندمج مع مجتمع لا علاقة لك به لا 1…2…3 viva l’Algérie
من قريب و لا من بعيد.بينما جارك الجزائري الذي دخل البلد بشرف يحمل العلم بكلّ فخر و يهتف بالعبارة المشهورة و كلّه فخر بعد أن شاهد المباراة رفقة الجالية المغاربية في أحد مقاهي باريس أو مرسيليا.

صعبة...صعبة جدا هي الحياة في بلد دخلته بشرف فما بالك ببلد دخلته حقيرا.
***
لم يكن لي في صبيحة اليوم التالي من المباراة إلاّ أن أغنّي بالعربية في غياب زوجتي ما أبدع شاعر الثّورة في قوله:
جزائر يا مطلع المعجــــــــــزات و با حجة الله في الكائنـــــات

و يا بسمة الرب في أرضــــــــه و يا وجهه الضاحك القسمات

انهملت على خدي دموع الشّوق و ثقل لساني لثقل وزن كلمة*الجزائر*و اختلطت المشاعر بين حنين إلى الوطن و إلى الأمّ و الأهل.رحت أغني ما كتب محمود درويش و غنّى مارسيل خليفة:
أحنُ إلى خبز أمّي
وقهوةِ أمي
ولمسةِ أمي ..
وتكبر فيَّ الطفولةُ
يوما على صدر يومِ
و أعشق عمري لأني
إذا متُّ
أخجل من دمع أمي

إنّه الشّوق...إنّه الحنين إلى الوطن.
قالها قلبي عندما سكتت كلّ حواسي عن الحراك.
خرجت إلى شرفة المنزل و رحت أقول لوطني الحبيب:
-تغيب بغيابي عنك البسمة و يأبي لمرارة الغربة ليل آلامي أن ينجلي و يتمزّق قلبي لشوقه إليك في اليوم ألف مرّة.فقط لأنّه يحبّك يا معشوقة القلوب.أحبّك.
أعلم أنّه لم يكن يسمعني و إن سمع فأنا متأكّد أنّه سيصدّقني لأنّه وحده يعلم كم تؤثّر *الحقرة* في الجزائري و كيف لها أن تدفعه إلى فعل ما لا يريد أو ربّما ما لم يكن يتوقّع أنّه سيفعل.
عاودتُ الدّخول إلى المنزل.جلت في أرجائه أقول له:
-أنت الفرنسي الوحيد الذي تعلم أنّي جزائري و الكائن الوحيد الذي يعلم كم يتألّم قلبي لوفاة أبي بسبب حزنه علي.تعلم كم أنا متألّم لفراق ذاك الرّجل الذي طالما وهبني من عطفه و رحمته.الحبيب على قلبي الذي كان يدفئني بكلماته الرّقيقة عندما تلقي عليّ الحياة بردها و تعلم أيّها البيت كم أنا أناني.
ذاك العظيم رغم فقره كان إنسانا صبورا.
أذكر ذات مرّة أنّي قلت له:
-أبي رغم الفقر تبقى صبورا.
أجابني و قد وضع السجّادة على الأرض ليصلّي:
-حبيبي...الفقر وحده يعلّمنا الصّبر.
مات دون أن أراه و دون أن يعرف إن كنت مازلت على قيد الحياة أم لا.
أقول لنفسي:كم أنا غبي،أشتري خيبتي بالتخلّي عن هويتي و عن كرامتي و التسبب في مقتل أبي.
ما أغبانا نحن البشر.
نلهثّ وراء البقاء على قيد الحياة و هذه الفاتنة تقول لنا:
-يلزمكم كثير من الحزن لتبقوا بجانبي.
نقبّل قدميها:
-لبّيك سيّدتي.
و نمضي حياتنا نبكي ذاك الموعد الخبيث الذي ضربه لنا القدر في أحد مقاهي الخيانة.
***
تطرق زوجتي الباب طرقات متتالية و أنا أرفض فتح الباب كالعادة،أسمعها من وراءه تقول:
-لويس لا تخف،هذه أنا زوجتك.
فتحت الباب:
-كم أنت ساذجة.
-دعني أدخل أوّلا.
دخلت البيت و كلّها غضب:
-أنا ساذجة؟
ابتسمتُ:
-هل تظنّين أني أرنب لأخاف من طرق جرذ للباب؟
ضربت الأرض بقدميها:
-ليكن في علمك أنّي قدّمت طلب الطّلاق.. أنا أعتذر و لكنك إنسان ذليل غير مسؤول.
اقتربتُ منها:
-على ماذا تعتذرين؟
أجابت:
-بنيت أسرتنا على نوع من المصلحة و جعلتك تبدو غبيا.
كم هي جريئة هذه المرأة و كم هي وقحة شخصيتي عندما قلتُ لها:
-لا تعتذري فإن كنت بنيتها على نوع من المصلحة أن بنيتها على كلّ أنواع المصلحة و جعلتك تبدين إنسانة جاهلة ليس لها أيّ كيان في هذه الحياة.
احمرّ وجهها:
-ماذا تقصد؟
أجبتُ:
-وهل سألتك أنا ماذا تقصدين بكلامك؟
ثمّ انصرفت إلى الغرفة أجهّز حقيبتي خفية عنها لكي لا تبدأ في طرح أسئلة من الممكن أن توقعني في ورطة.
****
ركبت يومين بعد ذلك أوّل طائرة نحو الجزائر بعد أن كتبت على باب قلبي ما كتبه مالك حداد:لا تطرق الباب كلّ هذا الطّرق فلم أعد هنا.و كنت أقصد بذلك الخيبة و الحزن و مشقاتهما.
لتبقى بذلك الكرامة التي أبحث عنها خيبة و الحبّ الذي يملك قلبي *جزائر المعجزات*
24-3-10
bleh