أرناط أمير الكرك
12-11-2019, 03:06 PM


حقبة الحملات الصليبيَّة على العالم الإسلامي في القرون الوسطى تُعتبر من أطول وأثرى فترات الصراع بين الإسلام والنصرانيَّة في التاريخ الإسلامي؛ إذ امتدَّت هذه الحملات لأكثر من قرنين من الزمان، حفلت خلالها بالكثير من الأحداث والوقائع والمشاهد، وكذلك الأبطال والشخصيَّات على جانبي الصراع؛ فبرز على الجانب الإسلامي الأمراء: مودود، وعماد الدين زنكي، وولده نور الدين محمود الملقَّب بالشَّهيد، وأسد الدين شيركوه، وأخوه نجم الدين أيوب، وولده النجم الساطع صلاح الدين يوسف. في حين برز على الجانب الآخر أو الصليبي: عموري الأوَّل، وبلدوين الثالث، وجاي دي لوزينان، وغيرهم من فرسان وأمراء الحملات الصليبية. ويأتي على رأس قائمة العداوة والكراهية الصليبيَّة الأمير الفرنسي (رينالد دي شاتيون) المشهور في المصادر والمراجع العربيَّة والإسلاميَّة باسم (أرناط) أمير الكرك.


اشتراك أرناط في الحملات الصليبية
وُلِد رينالد أو أرناط في فرنسا سنة (1125م=520هـ)؛ أي بعد انقضاء 35 عامًا على انطلاق شرارة الحملات الصليبيَّة على أرض الشام، وكان الفرنسيُّون هم أكثر الشعوب الأوربِّيَّة استجابةً لنداء البابا أوربان الثاني مُطلِق شرارة هذه الحملات، ومعظم قادة وأمراء ومموِّلي هذه الحملات الدمويَّة كانوا من فرنسا، لذلك لم يكن مستغربًا أن يكون رينالد هو أحد من استجاب إلى هذه الحملات وشارك فيها منذ البداية.
فقد توجَّه رينالد إلى بيت المقدس سنة (1147م=542هـ) -أي وهو شاب في العشرينات- مشتركًا في الحملة الصليبيَّة الثانية، التي أرسلها كرسي البابويَّة على الشام بعد سلسلة الانتصارات الباهرة التي حقَّقها السلطان نور الدين محمود الملقَّب بالشهيد، وكان رينالد صعلوكًا باحثًا عن الثراء والمجد وصكوك المغفرة، وتضطرم نفسه برغبةٍ صليبيَّةٍ عارمة ومدمِّرة تجاه كلِّ ما هو مسلم، وكان نزقًا عصبيًّا أهوجًا مغرورًا طائشًا، لا يحترم عهودًا ولا مواثيق ولا مقدَّسات، وفي الوقت نفسه شَرِهًا طمَّاعًا يسيل لعابه على أيِّ مال.
وكان رينالد صاحب شخصيَّة متلوِّنة ووصوليَّة لأقصى درجة، التحق أوَّلًا بخدمة ملك بيت المقدس الصليبي "بالدوين الثالث" فمكث معه فترة قصيرة ثم انتقل إلى إمارة أنطاكية سنة (1149م=544هـ)، وكان حاكم أنطاكية الأميرة "كونستانزا"، وكانت شابَّة مات عنها زوجها، فخدعها رينالد بالكلام المعسول والتفاني في الخدمة، ونصب عليها شباكه حتى وقعت في حبِّه وتزوَّجته سنة 1153م، على الرغم من معارضة باقي الأمراء والكونتات لعلمهم بانتهازيَّة رينالد، وأنجبت منه ابنتها الوحيدة "أجنس"، وبزواجه مع كونستانزا أصبح رينالد أميرًا على أنطاكية، وزاحم باقي ملوك وأمراء الإمارات الصليبيَّة الأربعة التي تكوَّنت في الشام بعد الحملة الصليبيَّة الأولى سنة (1099م=492هـ).


وقوع أرناط في أسر نور الدين محمود
رينالد كان صاحب شخصيَّة مركَّبة ومعقَّدة، ففي الوقت نفسه الذي كان فيه متعصِّبًا دينيًّا يكره المسلمين لحدِّ الهوس، كان طمَّاعًا شرهًا للمال بأيِّ صورة، لم يتورَّع عن الهجوم عن المقاطعات البيزنطيَّة في آسيا الصغرى والأناضول، كما شارك بالهجوم على جزيرة قبرص التابعة للدولة البيزنطيَّة سنة (1156م=550هـ)، إلَّا أنَّ هذا الطمع والشره قاده في النهاية لمصاعب وشدائد وأهوال؛ فقد أدَّبه إمبراطور بيزنطة مانويل الأوَّل بسبب غاراته على أملاكه أشدَّ التأديب، وأذَّله وأهانه بشدَّة، ثم كانت الواقعة التي زلزلت حياة رينالد وجعلته يقضي سنوات شبابه كلَّها في السجن.
فقد دفعه الشره والطمع والكراهية للإغارة على سهل الفرات الأوسط سنة 1160م من أجل سرقة الماشية والخيول والمحاصيل من الفلَّاحين هناك، فوقع في فخٍّ نصبه له الأمير مجد الدين بن الداية أمير حلب، وهو من كبار أمراء نور الدين محمود وأخوه في الرضاعة، وحُمل رينالد مكبَّلًا بالحديد إلى مدينة حلب، حيث ألقي في السجن في انتظار ما يُفعل به، ونظرًا إلى أهميَّته فقد ادَّخره السلطان نور الدين محمود لمبادلته بأسرى المسلمين لدى الصليبيِّين.
تتابعت الأحداث في هذه الفترة، وانشغل نور الدين بأحداث مصر والصراع داخل الدولة الفاطميَّة الخبيثة بين قادتها ووزرائها، فأرسل جيوشه بقيادة أسد الدين وصلاح الدين، ثم هجم الصليبيُّون على مصر وحاولو احتلالها، وجرت خطوبٌ كثيرةٌ ووقائع هامَّة شغلت نور الدين عن سجينه الهام "رينالد"، فمكث رينالد في السجن 16 عامًا كاملة، حتى إنَّ نور الدين تُوفِّي رحمه الله ورينالد مازال في السجن، فلاقى الأهوال والشدائد، وانصرمت سنوات الشباب والقوَّة (من سنة 1160 حتى سنة 1176م)، وهو في الأغلال والقيود، ممَّا أشعل نيران الحقد والكراهية والرغبة في الانتقام لديه من المسلمين أضعاف أضعاف ما كان عليه من قبل.
بعد رحيل نور الدين تولَّى ولده الصغير الصالح إسماعيل، وكان ولدًا صغيرًا لا يُحسن سياسة ملك أبيه، فاستولى على أمره من كانوا سبب في ضياع ملك أبيه، ومنهم الأمير سعد الدين كمشتكين، وكان رجلًا خبيثًا شرِّيرًا متحالفًا مع رجلٍ على شاكلته، وهو أمير الموصل عماد الدين غازي وكان ابن أخي السلطان نور الدين وعدوِّه اللدود، فلمَّا استبد الأمر لكمشتكين أطلق سراح السجين "رينالد" في صفقةٍ خبيثةٍ مع الكونت ريمون الثالث أمير طرابلس، والوصي على عرش بلدوين الرابع ملك بيت المقدس، وذلك سنة (570هـ=1176م).


أرناط أمير الكرك والشوبك
خرج رينالد من السجن وقد جاوز الخمسين، فوجد أن كلَّ ما بناه قد ضاع وانهدم، فوجد زوجته "كونستانزا" قد ماتت، وابنته "أجنس" قد تزوَّجت رغمًا عنه، وقفل بها زوجها إلى أوربَّا، ووجد إمارته أنطاكية قد ضاعت بعد أن أصبح "لبومند الثالث" -ابن زوج كونستانزا الأوَّل- أميرًا على أنطاكية، فقفل مفلسًا محطَّمًا يجرُّ أحقاده وخسائره وراء ظهره عائدًا إلى القدس؛ حيث قام الملك بلدوين الرابع ملك مملكة بيت المقدس في عام 1177م بتزويج رينالد من الأميرة ستيفاني، وهي أرملة لورد منطقة شرق وجنوب البحر الميِّت، وذلك مكافأةً له على صبره وإخلاصه للوجود الصليبي في الشام، وتعويضًا له عمَّا خسر بسبب السجن الطويل، هكذا أصبح أمير صحراء الكرك والشوبك.


جرائم أرناط بحق المسلمين
بعد ذلك اضطرَّ الملك بلدوين الرابع إلى توقيع هدنة مع صلاح الدين الأيوبي؛ بعد الانتصارات البحريَّة الكبيرة التي حقَّقها الأسطول المصري وذلك سنة (576هـ=1180م)، تحدَّدت مدَّتها بسنتين، ومن شروط الهدنة حريَّة التجارة للمسلمين والمسيحيِّين، وحريَّة اجتياز أيٍّ من الطرفين بلاد الطرف الآخر، لكنَّ أرناط لم يقبل أن تمرَّ قوافل المسلمين حاملة الثروات والأموال من منطقته دون مقابل.
في صيف عام 1181م خرج أرناط مع قوَّةٍ كبيرة، متَّجهًا إلى تيماء -على الطريق التجاري بين دمشق والمدينة ومكة- حيث سطى على قافلةٍ عربيَّة واستولى على كلِّ ما تحمله من ثروة، وأسر من فيها منتهكًا الهدنة، فقام صلاح الدين بمراسلة بلدوين الرابع بغضب مذكِّرًا إيَّاه بالهدنة وطالبًا التعويض، فقام بلدوين الرابع بمخاطبة أرناط في الأمر، فرفض أرناط طلبه، فاستطاع المسلمون أن يأسروا أكثر من 2500 صليبيًّا أوروبِّيًّا كانت سفنهم قد جنحت إلى مصر بعد أن كانوا في طريقهم إلى بيت المقدس، وأمر صلاح الدين بحبسهم ثم راسل بلدوين عارضًا إطلاق سراحهم مقابل السلع والسبي التي نهبها رينالد، ورفض رينالد المبادلة، وكان بلدوين أضعف من أن يُجبر مجنون مثل أرناط، واستعدَّ الناصر صلاح الدين للحرب الشاملة.
وجود شخصيَّة صليبيَّة خطرة مثل (أرناط) بكلِّ ما تحمله من عداء وكراهية للإسلام والمسلمين على إمارة حصن الكرك الواقع في شرق الأردن، كان نذيرًا بوقوع أحداثٍ خطرةٍ في المنطقة بأسرها؛ ذلك أنَّ حصن الكرك يتحكَّم في الطرق التجاريَّة المتَّجهة إلى الحجاز واليمن، كما أنَّه يقع بالقرب من ساحل البحر الأحمر، هذا الموقع الجغرافي الاستراتيجي لحصن الكرك جعل (أرناط) بكلِّ صليبيَّته وجنونه وغروره وطمعه وشرهه للمال يُقدم على مشروع صليبي هو الأخطر في تاريخ الحملات الصليبيَّة قاطبة؛ حيث خطَّط لتحقيق سيادة الفرنج على البحر الأحمر تمهيدًا لطعن الإسلام في قلبه بغزو بلاد الحرمين، والهجوم على المدينة النبويَّة، ونبش القبر الشريف لاستخراج الجسد الطاهر لسيِّد الخلق صلى الله عليه وسلم، ونقله إلى فرنسا ودفنه هناك، بحيث لا يسمح للمسلمين بزيارته إلَّا بعد دفع رسومٍ كبيرة.
وفي سنة 578هـ قرَّر الصليبي المجنون إدخال مشروعه الخَطِر حيِّز التنفيذ، فبدأ بالاستيلاء على ميناء أيلة (إيلات الآن)، ثم شرع في بناء أسطول بحري خفيف، فأمر بقطع أشجار غابات الكرك ومعظم نخيل العريش وحمله إلى قلعة الكرك، حيث طلب من الرُّهبان صنع بعض المراكب، وطلب من صليبيَّة عسقلان صنع البعض الآخر، فأنشأ أسطولًا من خمس سفنٍ حربيَّةٍ كبيرة، وعددٍ كبيرٍ من المراكب الصغيرة والخفيفة، قام بعدها رينالد بنقل المراكب مفكَّكةً على الجمال إلى ساحل البحر الأحمر (بحر القلزم)، ثم ركَّب المراكب ودهنها بالقار الأسود، وجهَّزها بالرجال والآلات القتاليَّة، وخصَّص مركبين لمحاصرة جزيرة قلعة أيلة مانعًا السكان من الوصول إلى مصادر مياه الشرب، فيما أكمل باقي الأسطول طريقه إلى عيذاب، ووصل بعضهم إلى باب المندب وعدن، وأحرق الأسطول ستَّة عشر مركبًا للمسلمين، واستولوا على مركب لنقل الحجَّاج في عيذاب، كما استولوا على مركبين محمَّلين بتجارة وبضائع من اليمن، ودمَّروا مؤن الحجَّاج في ساحل عيذاب، حُملت أجزاؤه مفكَّكة على ظهور الجمال حتى خليج العقبة، وهناك جرى تجميعها وتشغيلها، ثم استولى على جزيرة القلعة في البحر الأحمر، وانقضَّ منها على الموانئ المصريَّة الموجودة على ساحل البحر الأحمر، فانقضُّوا على ميناء (عيذاب) في قبالة جدَّة، ونهبوا السفن التجاريَّة وقتلوا ركَّابها، ثم أسروا قافلة حجَّاج كانت متَّجهة إلى بلد الله الحرام فنهبوا أموالهم وقتلوهم جميعًا، وكان الكلب الصليبي (أرناط) يذبح الحجيج بسيفه وهو يقول بأعلى صوته -وكان يحسن العربية؛ تعلَّمها في الأسر- كان يصيح: أين محمدكم؟ أين محمدكم؟ لو جاءني هنا لقتلته بسيفي! وسوف يعلم ذلك الكلب الحاقد عاقبة هذا الطيش والكفر.
وقعت تلك الأحداث الخَطِرَة في وقتٍ كان صلاح الدين الأيوبي في (حرَّان) في أقصى بلاد الشام، على مسافة كبيرة من تلك التحرُّكات الشريرة، فأرسل بأسرع وسيلة إلى نائبه في مصر -الأمير العادل أبي بكر الأيوبي- يأمره بوقف هذا الهجوم الصليبي وإدراك مقدَّسات الإسلام، وكانت الأخبار قد أشعلت ثورة غضبٍ عارمةٍ بين المسلمين ضدَّ الصليبيِّين، فكلَّف الأمير أبو بكر العادل نائب مصر الحاجبَ حسام الدين لؤلؤ الأرمني وهو قائد الأسطول المصري، بالتوجُّه بمنتهى السرعة إلى الحجاز لإدراك الصليبيِّين قبل الوصول إلى المدينة، ومن شدَّة حماسة ويقين حسام الدين لؤلؤ بالنصر صنع قيودًا حديديَّة خاصَّة سيُقيِّد بها الأسرى الصليبيِّين بعد القبض عليهم.
انطلق حسام الدين لؤلؤ كالسهم إلى ميناء (أيلة) واشتبك مع أسطول الصليبيِّين الراسي هناك فدمَّره بالكلِّيَّة، ثم انطلق إلى ميناء عيذاب على ساحل البحر الأحمر، فقضى على من فيه من صليبيِّين تركهم (أرناط) هناك كحامية تأمين أثناء عودة (أرناط) من مشروعه الخبيث، وبعد ذلك عبر لؤلؤ البحر الأحمر بأسطوله القتالي ونزل على ميناء جِدَّة ومن هناك ركب الخيل هو وطاقم الأسطول المصري، وانطلقوا مثل الرياح يُسابقون الزمان حتى يُدركوا الصليبيِّين قبل الوصول إلى المدينة النبويَّة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
لجأ حسام الدين لؤلؤ إلى حيلةٍ ذكيَّةٍ لتأخير وصول أرناط الكلب ومن معه إلى المدينة؛ إذ رفع أكياس الفضَّة على رءوس الرِّماح لترهيب وترغيب البدو الأعراب، حتى ينحازوا إليه ويتركوا مساعدة الصليبيِّين، وبالفعل تفرَّق الأعراب عن الصليبيِّين، فتاهوا في الطريق حتى أدركهم حسام الدين لؤلؤ وهم على مسيرة يومٍ واحدٍ من المدينة، فلمَّا أحسُّوا بغدر الأعراب وإحاطة المسلمين بهم، صعدوا إلى رأس جبلٍ صعب المرتقى واحتموا به، وكانوا زيادة على ثلاثمائة صليبي من خلاصة فرسان وشجعان الصليبيِّين بالشام.
وفي مشهدٍ أسطوريٍّ حقيقي ليس من جنس أوهام الأفلام السينمائيَّة ولا في خيالات كتَّاب الروايات البوليسيَّة، يصعد البطل حسام الدين لؤلؤ ومعه عشرة فرسان من أبطال الإسلام، صعدوا إلى قمَّة الجبل الذي يتحصَّن فيه الصليبيُّون، وضيَّق عليهم، وقتل منهم عدَّة أنفسٍ من أنجادهم وأبطالهم، فخارت قواهم بعد أن كانوا معدودين من الشجعان الأبطال الذين اختارهم أرناط لتنفيذ خطَّته الشرِّيرة، فاستسلموا إلى حسام الدين لؤلؤ، فقيَّدهم بالقيود التي حملها معه من القاهرة، أمَّا الكلب الصليبي المغرور (أرناط) الذي قاد تلك الهجمة الخبيثة فإنَّه لم يعبر البحر الأحمر مع من عبر، ولكنَّه ظلَّ في أيلة لمراقبة تنفيذ مشروعه، ولمـَّا أحس بتحرُّكات الأسطول المصري عاد مسرعًا إلى حصن الكرك، وإنَّما صُنْعَهُ هذا قد أخَّر هلاكه بضع سنين، حتى إنَّ السلطان صلاح الدين الأيوبي قد أقسم بأغلظ الأيمان ليقتله بيديه نظير جرائمه واعتداءاته على الإسلام ورسوله والمسلمين، وهو ما سيحدث بالفعل سنة 583هـ في معركة حطِّين عندما سيقع أسيرًا بيد صلاح الدين ويذبحه بيده وفاءًا بنذره وانتقامًا لرسوله صلى الله عليه وسلم.
استعدَّ الناصر صلاح الدين لحملةٍ كبيرةٍ على الوجود الصليبي في الشام لردع تحرُّكات جنونيَّة جديدة للطائش المغرور "رينالد"، ولكن بسبب الوباء والقحط الذي أصاب بلاد الشام -وقتها- اضطرَّ كلا الجانبين لتوقيع هدنةٍ لعامين، في عام 1185م تُوفِّي بلدوين الرابع وخلفه بلدوين الخامس الطفل الذي لم يقتنع أرناط بوجوده في الحكم، فلم يعش بلدوين الخامس أكثر من سنة، وكان لأرناط دورًا في إنهاء حياته، وبجهود رينالد تمَّ تتويج سيبيال أخت بلدوين الرابع وزوجها جاي دى لوزيجنيان سنة 1186م، في نهاية سنة 1186م أعاد رينالد الكرَّة فحاول السطو على قافلةٍ ضخمةٍ عائدةٍ من الحجِّ كانت تتواجد بها أخت صلاح الدين، لكنَّه تراجع بعد علمه بتوجُّه جيشٍ من دمشق لملاقاة القافلة، على الرغم من الهدنة التي وقَّعها مع صلاح الدين، هذا الأمر سرع بالتجهيز للحرب، خاصَّةً بعد رفض رينالد مقابلة سفراء صلاح الدين أو الاستماع إلى الملك جاي دى لوزيجنيان، الذي لم يستطع إجبار أرناط على إعادة البضائع والأسرى بسبب دور أرناط في وصول جاي دى لوزيجنيان إلى الملك.


معركة حطين ومقتل أرناط
حانت ساعة ملاقاة رينالد دي شاتيون لسوء فعاله وجرائمه ضدَّ الإسلام والمسلمين؛ فقد تكاملت كلُّ أسباب الهلاك والبوار، فقد استطاع صلاح الدين بحنكته ودهائه استغلال فرصة خلاف بين الصليبيِّين ليميل مع جانبٍ ضدَّ الآخر، وأمر أهل حلب بعقد معاهدة مع البيزنطيِّين، فضمن عدم وصول إمدادات منهم للنصارى، ثم جمع قوَّاته من مصر ودمشق وحلب والجزيرة والموصل، وسار إلى قرب بحيرة طبريَّة، وعسكر على سفح جبل طبريَّة المشرف على سهل حطِّين، وكان صلاح الدين قبل ذلك قد عمل تعبئة ليتأكَّد أنَّ المسلمين سيقدمون إليه إذا استنفرهم، واجتمع الصليبيُّون في تلك الموقعة وكانوا قد هُزِموا في صفورية، واستطاع صلاح الدين رحمه الله تعالى أن يستدرجهم إلى المكان الذي يُريده في سهل جبل طبريَّة الغربي، وكان جملة من معه اثنا عشر ألفًا غير المتطوِّعين مع صلاح الدين، وجمع الصليبيُّون جنودهم فكانت قريبةً من خمسين ألفًا.
والتقى صلاح الدين رحمه الله ومن معه من المسلمين في صباح يوم الجمعة (24 ربيع الآخر 583هـ) وابتدأ القتال، وفصل بين الجيشين الليل، ثم عادوا في النهار للاشتباك مرَّةً أخرى وصلاح الدين يُطوِّقهم شيئًا فشيئًا، ويطوف بين الصفوف يُحرِّضهم على الجهاد، واستمات المسلمون في القتال وأدركوا أنَّ من ورائهم نهر الأردن، ومن أمامهم الروم، وأنَّه لا يُنجِّيهم إلَّا الله تعالى، واشتدَّت المعركة، ونحن لا نسرد هنا تفاصيلها، ولكن حصلت فيها كثيرٌ من البطولات، واستخدم صلاح الدين ومن معه من المسلمين الأسلحة وبالذَّات أسلحة النفط، حتى منح الله المسلمين أكتاف المشركين فقُتِل منهم في تلك المعركة ثلاثون ألفًا، وأُسِر كثيرٌ منهم، وكان من ضمن القتلى والأسرى أعظم ملوك النصارى وحكَّامهم وأمرائهم في تلك الديار، وكان يومًا ميمونًا مباركًا، ولمـَّا انتهت الوقعة أمر صلاح الدين رحمه الله المسلمين بضرب المخيَّم العظيم؛ وجعل فيه سريره، وعن يمينه أسرَّةً مثلها، وأُوتِي بملوك النصارى في قيودهم يتهادون بذلَّةٍ مطأطئي الرءوس، وكان من بين المأسورين أرناط؛ فقد ساقه الله إلى صلاح الدين في هذه المعركة، وصلاح الدين رحمه الله كان يبتهل إلى الله طيلة القتال، حتى إنَّه لمـَّا قرب النصر للمسلمين قام المسلمون وندبوا ليقولون: هزمناهم. قال: اصبروا حتى تسقط تلك الخيمة لم نهزمهم بعد. وكانت خيمة ملك النصارى لازالت باقية، فلمَّا سقطت خيمة ملك النصارى سجد صلاح الدين رحمه الله شكرًا لله تعالى وبكى من الفرح.
وكان من ملوك النصارى الذين مثلوا أمام صلاح الدين الملك جاي دي لوزنيان، وأرناط، وكونت طرابلس، وابن صاحب طبريَّة، وجيرار مقدَّم الداوية، وغيرهم من أكابر الصليبيِّين، فأجلس صلاح الدين ملوك النصارى بجانبه، وبدأ بالملك جاي فأعطاه إناءً مملوءًا بالماء البارد ليشرب، فهذا الرجل لمـَّا انتهى من الشرب أعطى أرناط ليشرب، فغضب صلاح الدين، وقال: لم أقل لك أن تسقيه؛ لأنَّه لا يشرب عندي! إنَّما ناولتك ولم آذن لك أن تسقيه! هذا لا عهد له عندي!
ثم إنَّ السلطان صلاح الدين تحوَّل إلى خيمةٍ داخل الخيمة واستدعى أرناط، فلمَّا أوقِفَ بين يديه قام إليه بالسيف، ودعاه للإسلام فامتنع، ثم قال له: أنت الذي غدرت وخنت وفعلت وفعلت، فكان يقول: هذه عادة الملوك، ثم قال له صلاح الدين رحمه الله القولة الذهبيَّة المشهورة: نعم أنا أنوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنت قلت للمسلمين: هاتوا محمَّدًا يُخلِّصكم، أنا أنوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم فأخلص المسلمين من شَرِّك، ثم ضربه بسيفه على عاتقه وتتابع من حضر من المسلمين على أرناط، فقتل هذا الطاغية ذليلًا بين المسلمين، وكانت تلك فرحة عظيمة للمسلمين.

شريف عبد العزيز