( قصــة قصيرة ) قصـة الأب الذي يجهـل اسـم طفلتـه !
15-10-2018, 06:03 AM
بسم الله الرحمن الرحيم





( قصــة قصيرة )
قصـة الأب الذي يجهـل اسـم طفلتـه !

هذه قصة إنسان قد تعدى سياج الحكمة حين أراد أن يرفض قرار القدر !.. وأن يتجاهل المكتوب في الأزل .. لقد خدعته النفس يوم أن قالت له أنت سيد الأمر في الكل .. أغرته الأماني وقالت له أرسم وخطط وأفعل ما تريد وكيف تشاء .. فنسي أحكام المشيئة بنوع من الحماقة .. تلك المشيئة المقيدة التي لا تقبل الفرار .. ونفوس البعض من الناس قد تحلم في غيابة الحكمة .. وتظن أنها تملك كامل القرار في مشاوير الحياة .. وكامل القرار لا يكون إلا لسيد الكون .. وهو الخالق المالك الذي يوجد المعدوم من العدم .. أما ذلك المخلوق المتواجد فأمره موكول .. وعليه أن يسلك المسارات المكتوبة في الأزل .. ولكن نفوس البعض من البشر قد تتمادى في أحلامها بالقدر الذي يجعلها تتوهم ثم تضع الشروط كيف تشاء !.. وذلك البعض من الناس قد يتعمد ويتجاهل المشيئة في الكثير من الأحوال .. ثم يركب فرس العناد حين لا يتفق المكتوب مع مخططاته ورغباته .. فهو عبثاً يناكف ويقاوم ثمار الأقدار .. وتلك النفوس التي ترفض مشيئة الأقدار سراً أو علناً تفتقد الحكمة كلياً ولا تملك الحق في ذلك .. أنفس تتمسك بأفكارها بقدر يوازي صلابة الحجارة والحديد .. وهي تعاند بغير حكمة أو منطق أو تفكير أو مقدرة .. وقد لا تدري أنها تحاول المستحيل .. فتلك جرأة خاسرة حين يعاند المرء شأناً ليس بالمقدور !.. وهنا قصة من تلك القصص التي تجسد ذلك النوع من العناد الغير مرغوب .
................. لقد بدأ ذلك الشاب خطوات حياته الخاصة حين اختار شريكة الحياة .. ثم أوجد وأسس عشاَ خاصاَ له ولأسرته .. وكانت البدايات تؤكد حياة زوجية هانئة سعيدة .. حيث ضحكت له الدنيا قليلاَ في لحظة من لحظاتها النادرة .. فأطمئن قلب الشاب لضحكة الدنيا له .. وذات يوم جلس في هدوء تام يخطط ويرسم لمستقبل حياته .. فأوجد خريطةَ مستوفية بكامل البنود والشروط كما يشاء .. تلك الصورة النمطية لحياة سعيدة من رحم الخيال .. وبمواصفات كما كان يتمنى ويشتهي .. وقد نسى أن الحياة ليست كلها في تناول اليد والرغبات .. فجمح به الخيال حين قدم وأخر .. وجمع وطرح .. ثم وضع الأولويات في مخططاته .. وكان من أولوياته ومخططاته أن يكون للذكور من ذريته القادمة حظ البواكير .. وللإناث فرص قد تتاح فيما بعد .. وذلك حسب الحاجة وحسب الظروف .. تلك هي كانت مخططاته .. وتلك كانت رغباته في عالم الأحلام والخيال .. وكأنه يملك كامل المقاليد في الكف .. وقد نسي أن للأقدار دور وقول .. وقولها هو النافذ الناجز الملزم الذي يكون حين يكون .. وقد يخالف قولها أحلام البشر لحكمة يعلمها رب الأقدار .
............... كان الشاب ينتظر قدوم المولود الأول ( فارس الأحلام ) بفارق الصبر .. وعندما بلغت مسامعه تباشير التهنئة بأول القادمين فرح ورقص ثم سأل عن النوع .. ولما قيل له أن باكورة الإنجاب كانت بنتاً وليس ولداً تغيرت ملامح الوجه فجأة ثم ماتت علامات السعادة والفرحة في مهدها .. وفي سويعات قليلة تحول ذلك الإنسان إلى شخص بائس يائس مقهور !.. وكأنه قد أصيب بداء عضال .. وفقد للحظة شهية الحياة .. فغضب وسخط ثم دخل وخرج .. وتمرد وصاح وزمجر .. وعاتب ولام من يستحق ومن لا يستحق .. ثم لعن حظه في الحياة .. ذلك الحظ الذي أبى أن يواكب مخططاته ومشاريعه المسبقة .. وظل يشتكي ثمار ذلك الحدث للبعيد والقريب .. للقاصي وللداني .. وأخيراَ استكان واستسلم وقبل تلك الواقعة على مضض رغم مرارة التجربة في قلبه .. ثم مرت سنتان بعد حدث الباكورة الأولى .. ليكون اللقاء مع ولادات أخرى .. فإذا بالأقدار تصر على مخالفة الأمنيات والمخططات .. حيث كانت المولودة الثانية .. ثم الثالثة والرابعة والخامسة !.. دون أن يكون للذكور حظ .. وقد تكامل العقد المرصع بجوهرة من الأمورات اليافعات .. ولما بلغ به الأمر ذلك القدر من البنات قرر الأب بعناد شديد أن يفلت من ساحة الأحوال .. وكان يحس في أعماقه بنوع من الإحباط في مشاوير الحياة .. فأتخذ ذلك القرار الظالم الذي كان فيه الكثير من الجفاء والخطأ الجسيم .. فقد عزم بإصرار شديد أن يهاجر إلى بلاد المهجر .. وأن يبتعد عن ساحة الأسرة والبنات .. فكان ذلك القرار بالاغتراب في دولة أخرى .. بعيداَ عن الأصحاب الذين ينادونه بأبي البنات .. وعندما قرر السفر كانت الزوجة تحت حمل جديد .. فأقسم لها بأنه لن يعود إليهم مرة أخرى إلا حين يسمع بأن المولود هو ذلك الولد المنشود .. سافر واغترب وهو يحلم بتلك الأمنية التي أصبحت غاية أحلامه في مشوار الحياة .. ثم مكث يترقب وينتظر الحدث بفارق الصبر كما يتمنى ويحلم .. وكان في خياله دائماَ يتمثل طيف ذلك الولد العزيز المفقود .. ولكن قد أصرت الأقدار أن تقول قولتها مرة أخرى .. فجاءت الأنباء تبشره بالولادة السادسة وبسلامة الأم .. فكانت التباشير كالماضي ( أيضاً كذلك ) .. وأن الجديد مثل القديم .. وتلك أمورة جديدة قد أطلت ضيفاَ وشرفت الديار !.. وقد مثلت حبة أخرى في العقد المرصع .. فنزلت عليه الأنباء كالصاعقة تدمر كل أحلامه الباقية المتبقية !.. وكان الخبر قاسياَ مجحفاَ على قلبه .. فأرسل إليهم قائلاً : ( أبعدوني من رباكم ) .. ودعوني من تلك السيرة التي أصبحت تغم صدري وتزيد همومي .. ولكم الخيار في اختيار الاسم كما تريدون .. وقد يطول غيابي واغترابي لأنني أفقد شهية العودة لدياركم .. وبذلك أنهى سيرة البنات والأهل بتلك الكلمات القاسية المجحفة .. وقد أتخذ ذلك القرار الذي يخالف المنطق والأعراف .. وبعد ذلك مرت السنوات كالحة وحزينة على إنسان أبت نفسه أن تواكب الأقدار .. كما مرت على أسرة وبيت قد فقد حنان ذلك الأب الذي أبى أن يكون ذلك الراعي المغوار .. وقد ركب فرس العناد في حماقة غير مألوفة في بني الإنسان .. وكان قاسياَ قسوة الحجارة حين تمادى في مشوار الجفاء والانقطاع .. حتى أنه لم يفكر يوماَ أن يشغل نفسه بالسؤال عن اسم المولودة الجديدة .. وعاش السنوات التالية في كنف ذلك القرار الظالم الغير مقرون بالعقلانية والتفكير السليم .. وأصر أن يفي بوعده ذلك العقيم .. ذلك الوعد المجحف الذي فرضه على نفسه .. ولكن الأحوال قد لا تدوم بنفس الوتيرة والمنوال في بلاد الآخرين .. فتلك البلاد بشروطها وقواعدها .. وهي شروط وقواعد قد تفرض الجديد على الأجانب المتواجدين في أرضها .. وقد تفرض المغادرة حين يتطلب الاكتفاء والنماء .. فبعد مرور تسعة سنوات في بلاد الغربة أجبرته شروط تلك البلاد أن يعود لوطنه نهائياً .. ذك الوطن الذي يعني الهوية والمعية الأبدية .. فقرر العودة إلى دياره وأهله وأحباءه .. تلك الديار التي كانت فيها بداية حياته .. ثم أنشأته وعلمته ودربته .. وقد نالت منه الجفاء والصدود بغير حق أو مبررات .. فأعد العدة للعودة مجبراَ وليس طوعاً .. وهو يحس في أعماقه بأنه عائد تحت جبروت الظروف وحكم الأقدار .. وتلك الأوبة تشكل ثقلاَ على عاتقه .. ويخال إليه أنه عائد إلى بيت البنات وهو يحمل ثقل الجبال .
..................حطت الطائرة الميمونة في مطار دولته .. وقد عاد إلى بلاده بسلام دون أن يخطر أحداَ بمقدمه .. يقول ذلك العائد العنيد : استأجرت سيارة أجرة من المطار وتوجهت مباشرة صوب داري وأهلي .. وأنا متردد أفقد الاتزان في مجمل القرار .. حيث تلك العودة الاضطرارية الغير مقرونة بالشغف والتلهف .. وبعد ذلك المشوار من المطار إلى البيت توقفت السيارة أمام منزلي .. فنزلت من السيارة ثم تقدمت بخطوات بطيئة خجولة نحو باب داري .. ثم طرقت الباب طرقة خفيفة باستحياء .. وانتظرت هنالك برهة وأنا أترقب أن يفتح لي الباب .. ثم فجأة انفرجت ضلفة الباب لتقف أمامي زهرة حلوة يانعة نضرة في غاية الروعة والجمال .. طفلة يافعة حلوة عذبة تجذب الألباب .. تمثل قبساً فريداً في الملامح .. برعم زهرة يانعة وإطلالة وردة زاهية حلوة باسمة .. درة قد نالت القلب من أول وهلة ونالت شغف فؤادي .. وبلمحة أولى حين تواجدت في ساحة عيني تملكت قلبي ووجداني .. والنظرة إليها قد ملئت وجداني بالبهجة والحبورَ والسعادة .. فوقفت مندهشاَ وأنا أنظر إليها بتعجب وتأمل .. وهي بدورها كانت تنظر في عمق عيني بتعجب وذهول .. نلك النظرة الملائكية البريئة التي فيها كل الحلاوة والنقاوة والطراوة .. وفيها صفاء السريرة وجمال الطفولة والتأمل .. أربكت تلك اللحظات معدل الوقار في سلوكي فهممت أن أقول لها حرفاَ .. ولكن تخاذل لساني وعجز أن يأتي بذلك الحرف .. فلم تمهلني تلك الطفلة الحلوة كثيراَ لأعيش المزيد من لحظات الطلاسم والحيرة .. بل قالت لي بمنتهى البراءة واللطافة أنت ( بـابـا ) .. أعذب كلمة وأجمل لحن يسمعها أذني في حياتي .. ثم زادت اللحظات بروعة الطفولة والسماحة حين لم تمهلني لأعيش المزيد في عالم الحيرة والإرباك .. بل فجأة رمت نفسها وجسدها الغض في أحضاني ،، فوجدت نفسي أضمها بشدة وحنان .. لحظات أحسست فيها بأنني أملك الدنيا وما فيها بين أضلاعي .. فتلك هي طفلتي ونور عيني وفلذة كبدي .. وحينها بدأت أسمع دقات قلب الصغيرة تدغدغ وجداني وإحساسي .. وتلك الدرة العزيزة تمثل ملكي دون أن ينافسني فيها أحد من البشر .. وفي تلك اللحظات جرت دمعة ساخنة فوق خدي .. والطفلة قد سافرت في غياهب فرحتها وغابت في خيالاتها حين نامت في عمق أحضاني .. وهي تعيش لحظات أمنية وأحلام ظلت تراودها لسنوات وسنوات .. فكم وكم تمنت تلك الطفلة البريئة أن تنام في أحضان والدها .. ثم بدأت في تلك اللحظات ألوم نفسي وأقول : ( يا إلهي ما ذنب تلك الطفلة البريئة النبيلة الصغيرة الجميلة ؟؟ !! ) .. وقد عوقبت قبل أن تعرف معنى العقاب .. وظلمت وهي في حاجة إلى حنان الأحباب .. وظالمها هو أقرب الناس إليها مودة ولكن بغير حجة وأسباب .. وهي لا تملك أمرها في الرحم بل الحكم لرب الأرباب.
....................ويضيف قائلاَ : وأنا في إرباك ودهشة قلت لها ( ما اسمك !! ؟؟ ) .. فابتسمت تلك الصغيرة اليافعة .. ثم قالت ببراءة الطفولة النقية : هل يعقل يا أبي أنت لا تعرف اسمي ؟؟ .. سؤال عاتب قلبي ليبكي داخلي حسرة وندامة .. وفي تلك اللحظة أحسست بمقدار حماقتي وطيشي في تناول الأمور .. ولكنها كانت تلك الطفلة العالية النقية بروح الملائكة .. وقد أخجلتني بعفوها ورضاها حين تناست سيرة الاسم لتقبلني في جبيني من جديد .. وأنا بدوري قبلتها في جبينها .. ثم أضممتها مرة أخرى في أحضاني .. وتمنيت لو أنها دامت في تلك الأحضان إلى قيام الساعة .. ولكنها فجأة انطلقت وهي تنادي بصوتها العذب وتعلن نبأ قدومي لأهل البيت في الداخل .. فركضت حبات العقد المرصع لتقع في أحضاني حبة تلو أخرى .. ثم كان الجميع يرقص فرحاً بإقدامي .
................ تلك قصة ذلك الأب الذي وجد نفسه أخيراَ محاطاً بقلوب تجمع الحنان والشوق والعطف والرقة .. أنفس بريئة لا تعرف إلا الفرحة والانشراح بقدوم عائد بعد طول جفاء وصدود وغياب .. أهلكت الغيبة الطويلة تلك الأنفس البريئة التي اشتاقت كثيراَ لحنان ذلك الأب المفقود في عالم المجهول .. وكم وكم حلمت تلك الأنفس وعانقت أباها في الأحلام .. ومع ذلك تناست تلك المعاناة في لحظات الفرحة .. فكان ذلك الاستقبال الكريم .. وكان ذلك العفو السخي .. أما ذلك الأب فعندما يتذكر كل ذلك الماضي فإنه يخفي آلامه ويتأسف كثيراَ على ظلم جرى منه على هؤلاء الأبرياء .. الذين يحبونه رغم الأذى و الصدود والجفاء والعناد .. وعندما ينفرد بنفسه في خلوة يجد العتاب في قلبه وضميره فيبكي في الخفاء .. وتلك أحوال كل من يحاول التدخل في أمور الأقدار حسب الأهواء .
ــــــــ
قصة من محض الخيال للكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد