المنصور قلاوون
24-05-2021, 01:02 PM


هو المنصور سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي، أحدُ أشهر سلاطين المماليك البحرية، ورأسُ أسرةٍ حكمت مصر والمشرق العربي ما يزيد على قرن من الزمان، كان من رجال الملك الصالح نجم الدين أيوب، وأبلى بلاءً حسنًا في معركة المنصورة، وعلا شأنه بعد ذلك، فكان من كبار الأمراء أصحاب النفوذ في دولة بيبرس، وبُويع له بالسلطنة في الحادي عشر من رجب سنة 678هـ خلفًا للملك الصغير العادل بدر الدين سلامش.

قبل الولاية
بعد وفاة الظاهر بيبرس سنة (676هـ=1278م) خلفه على الحكم اثنان من أولاده؛ هما: بركة خان، وبدر الدين سلامش؛ لكنهما لم يستمرَّا طويلًا في الحكم؛ لصغر سنِّهما وعدم أهليتهما لممارسة أعباء الحكم؛ فالأوَّل كان في السابعة عشر من عمره عندما تولَّى الحكم، وكان على النقيض من أبيه: شابًّا مستهترًا، يميل إلى اللهو والشراب، سيِّئ الرأي والتدبير، فنفر منه كبار الأمراء وقاموا بخلعه، وأمَّا الآخر فكان طفلاً حدثًا في السابعة من عمره، لا يعرف معنى السلطة، ولا يقدر على حمل شيء من تبعاتها؛ فقام الأمير قلاوون بالوصاية على السلطان الصغير وإدارة أمور الدولة نيابة عنه؛ حتى إذا أمسك زمام الأمور بيده، وصار الحُكْم طوع بنانه أقدم على ما لا بُدَّ منه، فخلع السلطان الطفل -الذي لا يعرف لماذا أُقيم على السلطنة؟ ولِمَ خُلع؟- وأعلن نفسه سلطانًا على البلاد.

تولي قلاوون الحكم
كان الأمير سيف الدين قلاوون أحدَ المماليك البحرية، اشتراه الأمير علاء الدين آق سنقر بألف دينار، فعُرف قلاوون بالألفي، ولمَّا تُوُفِّيَ الأمير علاء الدين انتقل إلى خدمة الملك الصالح أيوب، ثم أهَّلته مواهبه وملكاتُه لأن يبرز على الساحة في الفترة التي خرجت فيها دولة المماليك البحرية إلى الوجود، ولمع في عهد السلطان الظاهر بيبرس؛ الذي أولاه ثقته؛ لرجاحة عقله وشجاعته، وتصاهرا؛ حيث تزوج بركة خان ابن السلطان بيبرس من ابنة قلاوون؛ تأكيدًا على رُوح المحبَّة والصداقة بينهما.

ولما ساءت سلطنة بركة خان وفشل في القيام بأعباء الحكم لخفَّته ورعونته وسُوء تصرُّفه؛ أجبره الأمراء على خلع نفسه من الحكم، وكان لقلاوون يد ظاهرة في هذا الخلع، وتطلَّع إلى الحكم وهو به جدير، لكنه انتظر الفرصة المناسبة ليَثِبَ على الحكم دون أن يُنازعه أحدٌ، فلمَّا واتته الفرصة اقتنصها وعزل السلطان الصغير، وتولَّى هو الحكم في (رجب 678هـ = نوفمبر 1279م)، وبايعه الأمراء وأرباب الدولة، وتلقَّب بالملك المنصور.

وأجمع المؤرِّخُون على وصف السلطان قلاوون بأطيب الصفات وأنبلها، ولعلَّ من أبلغ هذه الأوصاف ما قاله بيبرس المنصوري: «كان حليمًا عفيفًا في سفك الدماء، مقتصدًا في العقاب، كارهًا للأذى».
غير أن قلاوون لم يَسْلَمْ من اعتراض كبار أمراء المماليك على تولِّيه الحُكم، وكان بعضهم يرى نفسه أحقَّ بالسلطنة منه؛ فَهُمْ على درجات متقاربة من القوَّة والنفوذ، لكنَّ قلاوون نجح -بالقوَّة أحيانًا وبالسياسة أحيانًا أخرى- في أن يُمسك بزمام الأمور، ويقضي على الثورات التي قامت في وجهه.

ونجح قلاوون في استمالة قلوب الناس إليه؛ لرأفته ولينه، وميله إلى رفع ما يزيد من معاناتهم، فألغى كثيرًا من الضرائب التي كانت تُفرض على الناس، وأبطل كثيرًا من المظالم التي عانى الشعب منها.

جهاد المنصور قلاوون ضد المغول
في السابع والعشرين من جُمَادَى الآخرة (680هـ= 1281م) وصل الخبر بقدوم منكوتمر بن هولاكو بجيشه إلى عنتاب، فخرج إليه السلطان وعسكر في حمص، واستقدم سنقر الأشقر وقوَّاته، ودخل التتار حماة فخرَّبوا فيها، ثم وصلوا إلى حمص حيث التقى الجمعان في موقعة حمص في (14 من رجب 680 هـ=30 من أكتوبر 1281م)؛ حيث اضطربت ميمنة المسلمين في البداية، ثم الميسرة، وثبت السلطان ومَنْ معه ثباتًا عظيمًا؛ مما حمل الأمراء والقادة على الانقضاض على التتار وكسروهم كسرة عظيمة، وجرحوا ملكهم، وقتلوا منهم الكثير، وكانت مقتلة تفوق الوصف، وانتهت المعركة بانتصار المسلمين انتصارًا مظفَّرًا، ودخل السلطان المنصور دمشق في أُبَّهة النصر في 22 من شعبان، وبين يديه الأسرى حاملين رءوس قتلاهم على الرماح، ثم تحسَّنت العلاقات نسبيًّا بين دولة المغول والمماليك بعد أن تولَّى الحكم تكودار بن هولاكو خلفًا لأخيه أبغا، وأعلن إسلامه، وكان شديد الرغبة في إقامة علاقات ودِّيَّة مع المماليك، لكنَّ هذا التحسُّن لم يدم طويلاً؛ فسرعان ما أطاح به وبآماله «أرغون» ابن أخيه عن حُكْم المغول، وعاد التوتُّر بين الدولتين من جديد، دون أن يحسم قلاوون أمره مع المغول، فظلُّوا خطرًا محدقًا بدولته، وإن نجح في كبح جماح هذا الخطر.

جهاد المنصور قلاوون ضد الصليبيين
لم يصبر قلاوون على انتهاء المعاهدة التي عقدها مع الصليبيين، وكانوا لا يزالون خطرًا على الدولة، يحتلُّون أجزاءً من أراضيها، ولا يحترمون عهدًا ولا ذمَّة إذا ما سنحت لهم فرصة، أو اشتدَّت بهم قوَّة، فهاجم قلاوون حصن المرقب، وهو من أمنع الحصون الصليبية في الشام؛ وذلك في سنة (684هـ= 1285م)، ونجح في الاستيلاء عليه، ولم يبقَ للصليبيين من إماراتهم سوى طرابلس التي يحكمها أمراء النورمان، وعكا التي أصبحت مقرَّ مملكة بيت المقدس، بالإضافة إلى بعض الحصون؛ مثل حصني المَرْقَب وطَرَسُوس.

ولم تكن الجبهة الصليبية متماسكة البناء؛ بل كانت الخلافات تَفْتِكُ بها، فوجد قلاوون في ذلك فرصة سانحة للانقضاض على الإمارات الصليبية المتبقِّية، فأرسل حملة عسكرية تمكَّنت من الاستيلاء على اللاذقية سنة (686هـ= 1287م)، وبعد سنتين خرج السلطانُ بنفسه إلى طرابلس على رأس قوَّة كبيرة قوامها أكثر من أربعين ألف جندي، وحاصرها أربعة وثلاثين يومًا استسلمت بعدها في ربيع الآخر 688 هـ= أبريل 1289م، وعلى إثرها سقطت المدن الأخرى المجاورة؛ مثل: بيروت، وجبلة، وانحصر الوجود الصليبي في عكا وصيدا وصور وغيليت، بعد أن كانت الممالك الصليبية تمتدُّ على طول الساحل الشامي للبحر المتوسط، وتُوُفِّيَ السلطان المنصور دون أن يتحقَّق أمله في فتح عكا آخر الإمارات الصليبية، غير أن الأقدار شاءت أن ينال ابنه خليل قلاوون شرف إنهاء الوجود الصليبي في بلاد الشام، بعد أن نجح في اقتحام أسوار عكا المنيعة في 17 من جُمَادَى الآخرة 690 هـ= 18 من مايو 1290م، وبعد عكا سقطت بقية المعاقل الصليبية في الشام، وطُوِيَتْ آخر صفحة من صفحاتها.

النشاط الحضاري
على الرغم من انشغال السلطان بمجابهة الخطر الصليبي والمغولي، وإعداد الحملات العسكرية التي استنفدت المال والجهد، فإنَّ السلطان لم يغفل عن تنشيط الحركة العلمية، ومواصلة البناء والعمارة، وإقامة المدارس والمساجد، وكانت القاهرة قد أصبحت موئلًا للعلم، ومركزًا للحضارة بعد سقوط بغداد وازدياد سقوط دول الإسلام في الأندلس على يد الإسبان، فتوافد إليها العلماء واتخذوها قبلة لهم، ووجدوا في كنف سلاطين المماليك كل رعاية واهتمام.

ويذكر التاريخ للسلطان قلاوون ما قام به من إنشاءات عظيمة ارتبطت بها نهضة علمية ونشاط وافر؛ فأقام عددًا من المدارس التي امتلأت بالشيوخ وطلبة العلم، وفي مُقَدِّمَتِهَا المدرسة المنصورية، التي أوقفها لتدريس الفقه على المذاهب الأربعة، وكان يتولَّى التدريس بها كبار الأئمة وأعيان الفقهاء والمُحَدِّثين. وتتضمَّن حُجَّة الوقف التي كتبها قلاوون إشارات كثيرة تتعلَّق بتنظيم العملية التعليمية داخل المدرسة؛ وذلك من حيث مقرِّ الدراسة، وجلوس أهل المذاهب الأربعة بها، وأماكن سكن المدرِّسين الفقهاء وأجورهم ورواتبهم.. وغير ذلك من الشروط، وتُعَدُّ المدرسة من أروع المدارس المملوكية التي شُيِّدت بالقاهرة لعمارتها الراقية، وزخارفها الرائعة.

ولم تكن القبة المنصورية التي أقامها لتكون مدفنًا له مقصورة على هذا الغرض؛ بل جعل منها مدرسة ومسجدًا، ورتَّب بها خمسين مقرئًا؛ يقرءون القرآن ليلاً ونهارًا، وخصَّص لها إمامًا للصلاة، وعالمًا لتفسير القرآن للطلاب الذين يؤمون القبة، وجعل بها خزانة للكتب، وخازنًا يقوم بأمرها، وهذه القبة من أجمل القباب الباقية بمدينة القاهرة.

ومن أفضل إنشاءات المنصور قلاوون البيمارستان الذي أقامه لتقديم الرعاية الصحية والاجتماعية للمرضى، وافتتحه السلطان في حفل كبير شارك فيه الأمراء والقضاة والعلماء، وتضمَّنَتْ حُجَّة وقف هذا الصرح الطبي أنه مفتوح طوال اليوم لتقديم العلاج للمرضى؛ دون نظر إلى طبقاتهم أو جنسياتهم، ودون مقابل أو أجر.

ولم يقتصر دور البيمارستان على تقديم العلاج، بل تعدَّاه إلى تدريس الطبِّ للطلَّاب، وهو ما يُشبه الآن المستشفيات التعليمية التابعة لكليات الطبِّ؛ حيث يُتاح للطلَّاب ممارسة الطبِّ تحت إشراف أساتذتهم.

ولم يبقَ من منشآت قلاوون الكثيرة سوى المجموعة المعمارية التي تتضمَّن القبة والمسجد والبيمارستان؛ وهي شاهدة على ما بلغته الدولة المملوكية من تقدُّم وازدهار شمل مناحي الحياة كلها.

وفاة السلطان قلاوون
كان السلطان قلاوون يرجو أن ينال شرف إنهاء الوجود الصليبي، فاستعدَّ لذلك، لكنَّ القدر لم يُمهله، فتُوُفِّيَ السلطان قلاوون بقلعة الجبل بالقاهرة في السابع والعشرين من ذي القعدة سنة 689 هـ= 11 من نوفمبر 1290م، وفيها غُسِّل وكُفِّن، ثم حُمل إلى تربته الملحقة بمدرسته العظيمة بين القصرين (شارع المعز) فدُفن فيها، ولا تزال المدرسة شامخة شاهدة على عظمة هذا السلطان وازدهار عهده.

خلف السلطان المنصور ولده السلطان الأشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون، الذي استكمل رحلة الجهاد، وفتح فتوحًا عظيمة؛ كان أهمّها فتحه لعكا، ومن بعده أخوه الناصر محمد بن قلاوون، وظلَّ الحكم في ولد قلاوون نحو قرنٍ من الزمان.

تامر بدر