الشيخ عبد المجيد سليم
16-05-2021, 03:02 PM


يحفل تاريخ مصر بكوكبة من العلماء الذين عرفوا بمواقفهم الصريحة القاطعة ودفاعهم المخلص والمستميت عن الدين، والتصدي بكل حزم لأي مساس بالشريعة الإسلامية، ومن هؤلاء العلماء الاجلاء فضيلة الإمام الأكبر الشيخ عبد المجيد سليم وهو واحد من أهم الأئمة الذين شرفوا بتولي مشيخة الأزهر وشرفت بهم.

وكان للإمام عبد المجيد سليم بصماته التي لا تنسى في خدمة الإسلام والمسلمين، حيث كا يعمل مدرسًا بالمعاهد الدينية ومدرسة القضاء الشرعي، ويمتاز بغزارة العلم ومداومة البحث والإطلاع وبراعة الأداء، وقاضيًا شرعيًا يمتاز بدقة البحث وتحري الحق. ومفتيًا لمصر يستقصي البحث في موضوع الفتوى، لا يكتفي برأيه هو، وإنما يحرص على ذكر آراء الفقهاء، ويرجح بينها ويستنبط منها ما يراه صحيحًا، ثم يدعم رأيه بالأدلة العقلية والبراهين النقلية

ولد الإمام الشيخ في 13 أكتوبر سنة 1882م في قرية ميت شهالة بمحافظة المنوفية، تعلم مبادئ القراءة والحساب بكتاب القرية، ثم التحق بالأزهر، وحصل على الشهادة العالمية من الدرجة الأولي عام 1908

تأثر الإمام الشيخ عبد المجيد سليم بالشيخ حسن الطويل وعرف منه أساليب عديدة في فنون الجدل والقياس، وكان الشيخ يرعاه ويوجهه ويرشده، وقد تنبأ له أن يصبح شيخًا للأزهر، كما درس الشيخ عبد المجيد سليم الفقه على العالم الجليل الشيخ أحمد أبي خطوة.

وكان فضيلته يحضر دروس الإمام محمد عبده في الرواق العباسي وظل مواظبًا على حضورها على مدى خمس سنوات، تلقي خلالها عنه أسرار البلاغة، كما تلقي عنه دروسًا في تفسير القرآن الكريم والمنطق والفلسفة.

وكان تأثير الإمام محمد عبده والشيخ أبي خطوة قويًا واضحًا في فتاوي الإمام عبد المجيد سليم وأرائه، مع التحرر المطلق من التقيد برأي معين أو مذهب خاص.

اشتغل الشيخ بالتدريس في المعاهد الدينية ومدرسة القضاء الشرعي، حيث كان يدرس للطلاب مادتي الفقه وأصوله، ثم ولي القضاء قبل أن يصبح مفتيًا للبلاد، وفاز بعضوية جماعة كبار العلماء، ثم أصبح وكيلًا لها، قبل أن يعهد إليه بالإشراف على الدراسات العليا بالأزهر ورئاسة لجنة الفتوى.

في 2 من ذي الحجة 1346هـ الموافق 22 مايو 1928م عين مفتيا للديار المصرية، وقضى الشيخ عبد المجيد سليم في منصب المفتي قرابة عشرين عامًا، وهي أكبر مدة قضاها عالم من علمائنا في منصب المفتي، وقد كان تمسكه بالحق ودقته في الفتوى وراء هذه الفترة الطويلة في المنصب، وبلغ إجمالي القضايا التي أفتي فيها 15792 فتوى، وهي ثروة فقهية عالية القيمة.

وشجاعة الشيخ عبد المجيد في فتواه، لم تكن وليدة شغله منصب الإفتاء، وإنما كانت جزءًا من شخصيته، حتى وهو طالب في المعاهد الأزهرية، ثم وهو قاض شرعي بعد تخرجه من مدرسة القضاء الشرعي.

وفي السادس والعشرين من ذي الحجة سنة 1369هـ المواقف 8 أكتوبر عام 1950م صدر قرار تعيينه شيخًا للأزهر، حيث كان الإمام الثالث والثلاثين في تاريخ الأزهر.

وأثناء توليه مشيخة الأزهر عمل فضيلة الإمام على إصلاح مناهج التدريس بهذه الجامعة العريقة، فقد كان يري أن مهمة الأزهر تشمل تعليم أبناء الأمة الإسلامية دينهم ولغتهم بما يؤهلهم ليكونوا حملة شريعة الإسلام وأئمة الدين واللغة. وحُفاظًا حراسًا لكتاب الله وسنة رسوله - صلي الله عليه وسلم، وعمل على تشجيع حركة التأليف والتجديد عن طريق الجوائز العلمية ، وعمل على توجيه العلماء إلى وضع بحوث في الفقه والتشريع تساير الروح العلمية الحاضرة.

واشتمل منهجه الإصلاحي أيضًا على إعداد جيل قوي من أبناء الأزهر يستطيع أن يحمل الرسالة، إضافة إلى مراجعة الكتب الدراسية، وإبقاء الصالح منها ، وتشجيع حركة البعوث العلمية إلى جامعات أوروبا للتزود من شتي العلوم والمعرفة.

وتنظيم الجامعة الأزهرية تنظيمًا يتفق مع رسالتها، ويساعدها على أدائها، الى جانب أداء رسالتها الإسلامية، وذلك بإنشاء مكتبة كبرى ودار طباعة حديثة، تخرج مؤلفات باللغة الأجنبية والعربية للرد على مزاعم المبشرين، وتفسير القرآن إلى اللغات الأجنبية.

وكان دائمًا ينصح طلاب الأزهر قائلًا لهم: نصيحتي لكم أن تعلموا أنكم مجندون في سبيل الله، فاقبلوا على دراستكم، وتجملوا بالفضيلة بينكم وبين الناس، لتحقيق آمال آلالاف فيكم، وإعلاء كلمة الدين والعلم بكم .

مواقف جريئة للشيخ عبد المجيد سليم:
ومن قضائه الشجاع قضية وقف كان ناظره الملك فؤاد ملك مصر، وقد رفعت القضية لإقصاء الملك عن هذه النظارة للوقف، وقال المدعي في دعواه:

إنه لا يجوز للملك أن ينظر وقفًا بشخصه؛ لأنه صاحب وضع دستوري لا يجيز له القيام بأعمال مثل نظارة الوقف، فهو يدير أملاكه بنفسه أو بأجهزته الخاصة الملكية، أما كونه ناظرًا للوقف فهذا يجعله محل المساءلة إذا أخطأ، والوقف تتعلق به حقوق خيرية كثيرة، منها ما يصيب الأشخاص، ومنها ما يصيب الهيئات، وكل صاحب حق له وجهة نظره في قدر ما يؤدي إليه ريع الوقف، فإذا وجد خطأ كان من واجبه أن يشير إليه وأن يقتضيه، وهذا يجعل موقف الملك حرجًا، فإما أن تضيع حقوق الموقوف عليهم، وإما أن تضيع هيبة ولي الأمر.

وعلى الناحية الأخرى من الدعوى كان محامي الملك فؤاد يدافع عن نظارة الملك للوقف، ويطالب برفض الدعوى، لكن القضية ينظرها قاض شجاع، لا يتحرج من الحكم بالحق، فقضى بعزل الملك فؤاد عن نظارة الوقف، وتم تنفيذ الحكم.

وبرغم هذا الحكم الشجاع، فإن الملك فؤاد عندما عُرض عليه تعيين الشيخ سليم في منصب الإفتاء وافق على الفور، ولم يحاول الانتقام منه، وإنما أصدر المرسوم الملكي بالتعيين، وبالرغم من أنه لم يكن عضوًا في المحكمة الشرعية العليا، وكان التقليد أن يُختار المفتي من بين أعضائها، إن لم يكن رئيسها.

وفي منصب الإفتاء واجه الشيخ تحديًا آخر، ولكن ضد الملك فاروق، الذي تولى الملك بعد وفاة أبيه الملك فؤاد.
فقد وصل إلى الشيخ سؤال من إحدى المجلات عن مدى شرعية إقامة الحفلات الراقصة في قصور الكبار، وقد حمل رسالة المجلة إليه أحد أمناء الفتوى في دار الإفتاء، ولفت نظره إلى أن المجلة التي طلبت الفتوى من المجلات المعارضة للملك، وأن الملك قد أقام حفلاً راقصًا في قصر عابدين، فالفتوى إذن سياسية، وليس مقصودًا بها بيان الحكم الديني ولكن للمجلة هدف آخر وهو الوقيعة بينه وبين الملك، إلى جانب التعريض بالتصرف الملكي وصولاً إلى هدف سياسي.

فقال فضيلته: وماذا في ذلك؟ إنَّ المفتي إذا سُئل لابد أن يجيب ما دام يعلم الحكم، فإن لم يكن يعلمه بحث عنه بوسائله المتاحة من اطلاع على القرآن والسنة، وعلى كتب الأقدمية، وبواسطة جهاز الأمناء في دار الإفتاء، فإذا أعجزته الوسائل قال لا أدري.

وأصدر المفتي فتواه بحرمة هذه الحفلات، ونشرت المجلة الفتوى مؤيدة بالأدلة الشرعية، وحدثت الأزمة بين الملك والمفتي

وبعد أن عُين الشيخ عبد المجيد سليم شيخًا للأزهر، ضغطت الحكومة ميزانية الأزهر، ثار الإمام الأكبر ثورة عارمة، وقال عبارته المشهورة: "قصد هنا - تقتير - وإسراف هناك"، وكان الملك وقتها يقضي عطلة الصيف باستراحته في كابري بإيطاليا، وعندما علم بما قاله الشيخ عبد المجيد سليم غضب، وأمر بعزل شيخ الأزهر من منصبه في سبتمبر سنة 1951م. ثم أعيد إليه مرة أخرى في فبراير 1952م. ولكنه استقال من المنصب في سبتمبر 1952م.

مؤلفات الشيخ عبدالمجيد سليم ومصنفاته
ولقد كتب عن الشيخ عبد المجيد سليم كبارُ العلماء والأدباء والمفكِّرين، يثنون على علمه وجرأته، ولم يترك الشيخ عبدالمجيد سليم ثروة علمية في مؤلفات مكتوبة، بل ودع علمه صدور طلابه، كما فعل بعض الأئمَّة السابقين، فكان علمه من السعة بمكانٍ من مقالات ومحاضرات والفتاوى التي جاوزت الخمس عشرة ألفًا.

ومن أعماله التي لا تُنسى محاولةُ التقريب بين المذاهب، فقد كان على قناعة بأنَّ تعاون المسلمين وتضامُنهم هو السبيل إلى قهر أعدائهم، ونشير إلى بعض أسماء المقالات التي ذكرها ونشرتها الصحف:

- "أيها المسلمون.. ثقوا بأنفسكم"، في هذا المقال صوَّر عيبًا متفشيًا في الدول الإسلاميَّة، وهو ضعف ثقتهم بأنفسهم، ومغالاتهم في تقديس الغربيين، والمقال طويل.

- "خواطر حول التعصُّب ومجاراة الفكر الغربي"، والبحث يُعالج مشكلة كبيرة وخطيرة، وأخطاء الباحثين في هذه المشكلة.

- "القطعيات والظنيات"، وضَّح فيه معالم الاجتهاد في الدراسات الدينيَّة، وهذا البحث يدلُّ دلالةً قاطعة على طول باع الرجل في علوم الفقه وأصوله، والمنطق، وأهمية الاجتهاد، والاعتماد على الدليل والحجة والبرهان.

- "جماعة التقريب" بيَّن فيه أنَّ الإسلام هو دِين الوحدة، ويصبحُ المسلمون في ظلِّها كالبنيان المرصوص، وحريَّة الفكر في الإسلام مكفولة ما دامت لا تعارضُ أساسًا أو ركنًا من أركان العقيدة، كما أصدرت "جماعة التقريب" مجلة "رسالة الإسلام" ولقد كان الشيخ عبدالمجيد سليم لسان هذه الجماعة كما ذكرنا في ذلك سابقًا، وأهم ما تركه الشيخ الإمام من آثار علميَّة هي فتاوى، وقد ذكر بعض الباحثين أنها تبلغ خمس عشرة ألف فتوى كما ذكر، وهي ثروة فقهيَّة يجبُ نشرها؛ لينتفع بها علماء المسلمين، ولقد فكَّر المسؤولون في نشرها، وعهدوا إلى الشيخ فرج السنهوري للقيام بهذا، وقامت عقبات حالت دون تنفيذ المشروع، ولعلَّ أحد الباحثين من علماء الأزهر يتفرَّغ لكتابة "رسالة دكتوراه في فتاوى الإمام"، كما أنَّ الشيخ نشر كثيرًا من آرائه ودراساته في الصحف والمجلات، بخاصَّة مجلة "رسالة الإسلام"، وهي لسان حال "جماعة التقريب"، ولقد ورد في كتاب "الأزهر في اثني عشر عامًا" أنَّ الأستاذ الإمام كانت له مراسلات علمية عديدة دارت بينه وبين كبار علماء المسلمين في شتَّى أنحاء العالم، كما ورد أنَّ له مؤلفات ما زالت محفوظة.

وفاة الشيخ عبدالمجيد سليم
كان الشيخ عبدالمجيد سليم مع تواضُعه الجمِّ يعتزُّ بكرامته اعتزازًا كبيرًا، وكان يجهرُ بكلمة الحق، ولا يُبالي بما يترتَّب على ذلك من آثار، وقبل وفاته كانت الخلافات الحزبية قد اتَّسع خطرها، وأصبحت شرًّا وبيلاً في تمزيق الأمَّة المصريَّة شرَّ ممزَّق، هذا إلى جانب ألوان الفساد التي بثَّها الاستعمار وزعماء الطغيان والاستبداد من حاشية الملك ومَن حوله، وتسلَّلت شرور الحزبيَّة إلى الأزهر الشريف؛ فقاوَمَها الإمام مقاومةً عنيفة ولقد لقي إزاء ذلك عنتًا وتعنُّتًا شديدًا، وتعرَّض لحملات مسعورة، شنَّها عليه أعوان القصر وأتباع الأحزاب، لكنَّه صمد أمامها كالطود الشامخ، وأبى أنْ يُهادن أو يَلين، وكثُرت عليه الهموم، فهاجمه المرض، ومع هذا قدَّم استقالته بكلِّ شجاعةٍ في سبيل كلمة الحق، ولقد حاولت الحكومة إرجاعَه عن هذه الاستقالة لكنَّه أصرَّ على موقفه كما ذكر، حتى وافاه أجلُه في صباح يوم الخميس السابع من شهر أكتوبر سنة 1954م، وشُيِّعَت جنازته في اليوم التالي.

قصة الإسلام