هل هناك مقياس لتطور المدنية الكونية؟
13-04-2018, 12:46 PM
كيف يمكننا القول بأن مدنية ما قد بلغت في تطورها شأوا بعيدا لم تبلغه حضارة مدنية أخرى مثلا، وما هو مرجعنا في مقارنة تقدم المدنيات الإنسانية؟ الحديث يدور هنا عن التقدم العلمي والتقني بالتأكيد، أما حديث الأخلاق والعقائد فنجده في مباحث أخرى كثيرة لسنا بصددها الآن.
لقد قدمنا في موضوع آخر نموذجا لقياس مدى تطور المدنية يقوم على قياس المسافة المقطوعة في واحدة زمن اعتبارية (كاليوم أو الساعة أو الدقيقة ...)، هذا النموذج يبقى صالحا وجذابا طالما كان حديثنا عن كوكب الأرض، أما ونحن نتحدث عن المدنيات أو الحضارات الكونية فسنجد أنفسنا مضطرين للبحث من خلال نموذج أكثر شمولية، يقوم على ما يمكن لهذه المدنية أن تسخره من طاقة كونية في خدمتها.
قبل الخوض في ذلك لا بد من تعريف الواحدة التي نقيس بها الطاقة ومن ثم نعرّج على بعض الأعمال والمشاهد الكونية لنتعرف على مقدار ما تستهلكه أو تنتجه من طاقة وفقا لهذا التعريف.
إن الواحدة التي يعبر بها عن الطاقة وفقا للنظام السغثي (الذي يستعمل السنتيمتر و الغرام و الثانية في القياس) هي الإرغة (ERG) و هي بالتعريف الطاقة اللازمة لتحريك كتلة من المادة مقدارها غراما واحدا مسافة سنتيمتر واحد خلال ثانية واحدة؛ فالحشرة الزاحفة مثلا تبذل من الجهد ما مقداره إرغة واحدة فقط لتتحرك مسافة سنتيمتر واحد في الثانية، و من يتسلق سلما يبذل حوالي مليار إرغة ليصعد درجة واحدة منه، إن الطاقة المبذولة في المثالين السابقين تعتبر ضئيلة جدا إذا قيست بالطاقة التي تستهلكها مدنية كاملة أو دولة كبيرة على الأرض و التي تقاس بملايين المليارات من الإرغة و سنجد أنفسنا في مثل هذه الحالة نتعامل مع أرقام كبيرة جدا، لذلك تلجأ الرياضيات إلى التعبير عن مثل هذه الأرقام بطريقة عملية سهلة، فبدلا من أن نقول مليار مثلا ، نقول 10 مرفوعة إلى القوة تسعة أي عشرة مضروبة بنفسها تسع مرات أو واحد مسبوقة بتسعة أصفار و نكتبها كما يلي: 10 ^9
لنجرب هذه الطريقة في التعبير عن استهلاك بعض المدنيات للطاقة ولنربط بين هذا الاستهلاك وبين مدى التقدم الذي أحرزته هذه المدنيات:
لقد استهلكت المدنية الرومانية في أوج ازدهارها عندما شادت العمران والطرق والمعابر وحركت أساطيلها وجيوشها على مختلف الجبهات ما يعادل 10^24 إرغة سنويا.
أما مدنيتنا المعاصرة بمعاملها و منشآتها و مواصلاتها البرية و البحرية و الجوية بما في ذلك مشاريع الفضاء، فتستهلك سنويا ما يقارب 10 ^29 إرغة أي أكثر مما كانت تستهلكه الإمبراطورية الرومانية بمئة ألف مرة.
لو انتقلنا إلى مسرح المشاهدات الكونية لوجدنا أن انفجار 1 طن من مادة (TNT) يحرر في ثوان قليلة ما مقداره 10^16 إرغة، و أن رحلة مركبة الفضاء إلى كوكب زحل التي احتاجت إلى خمسة صواريخ لدفعها في الفضاء الخارجي احتاجت 10^22 إرغة و أن القنبلة الهيدروجينية التي عيارها 10 ميغا طن تطلق ما مقداره 10^23 إرغة أي ما استهلكته الإمبراطورية الرومانية برمتها في شهر واحد تقريبا.
أما الانفجار البركاني الذي حصل في (كراكاتوا – KARAKATOA) عام 1883 و أدى إلى مقتل 36000 شخص و سمع دوي انفجاره إلى أبعد من 4800 كيلو متر، فقد تحرر عنه 10 ^25 إرغة أي أكثر مئة مرة من الطاقة المتحررة عن قنبلة هيدروجينية من فئة 10 ميغا طن.
إن جميع ما ذكر أعلاه لا يقارن بالطاقة الهائلة التي تتحرر عن الحوادث الكونية بالغة الشدة، فانفجار السعير الذي ينهي حياة بعض النجوم يحرر حوالي 10^ 49 إرغة.
أما الانفجار الأعظم الذي يتوقع أنه قد أدى إلى نشأة الكون، فيتوقع أن يكون من فئة
10 ^80 إرغة، إن هذا الرقم الأخير يماثل عدد ذرات المادة في الكون كما يقدره بعض العلماء.


[IMG][/IMG]
أطوار المدنية الكونية الثلاثة ومعدل استهلاكها السنوي من الطاقة بالواط (1 واط=10^7 إرغة/الثانية)

يلاحظ أن معدل استهلاك الطاقة هو مؤشر حيوي وهام لمدى التقدم المدني والتكنولوجي يزداد بازدياده. يمر هذا المؤشر بقفزات مفاجئة أو طفرات أحيانا فيسجل ارتفاعا حادا غير متوقع عندما تكتشف طريقة جديدة لاستثمار الطاقة بشكل أكثر فاعلية، هذه الطفرات تحدث مرة واحدة ولا تكون قابلة للإعادة، فاكتشاف العجلة مثلا قبل بضع آلاف من السنين كان تطورا هاما غيّر خارطة السكان والتجارة في العالم القديم، لقد صُنعت ملايين العجلات بعد ذلك لكن العجلة الأولى هي التي غيرت مجرى التاريخ وكل ما عداها كان تكرارا لمبدأ الطفرة التي حدثت أول مرة.

تشهد الإنسانية اليوم حدثين هامين سيقفزان بها بعيدا على طريق التقدم والازدهار: أولهما انفلات ثورة المعلوماتية من عقالها المرتكز إلى الميكانيك النسبي التقليدي، وانطلاقها في فضاء الميكانيك الكمومي الذي يتنبأ باختراع حواسب جبارة ستفوق في سرعة معالجتها للمعلومات الحواسب الخارقة المستعملة اليوم بملايين المرات، و الثاني هو البدء باستثمار مصادر الطاقة المستدامة كالاندماج النووي للهيدروجين النظيف، أو تسخير ضد المادة (Anti-Matter) لإنتاج الطاقة بتلقيحها بالمادة، ... يمكن لهذه المشاريع و غيرها مما يبشر به المستقبل أن تنتقل بالجنس البشري في طفرة كبرى إلى النجوم إذا ترافقت مع شيء من العقلانية في الحفاظ على السلم العالمي و كبح جماح الطمع المسعور و الرغبة من قبل الدول العظمى في الاستئثار بموارد العالم و تحويلها إلى مصلحتها الخاصة، و ذلك من خلال توقيع معاهدات نزع الأسلحة النووية، وتكريس أنظمة الحكم الحرة العادلة في العالم، مما سيؤدي إلى تسخير مصادر الطاقة الهامة المستجدة هذه في الأغراض السلمية كإنتاج الكهرباء و معالجة الأمراض و في البحوث العلمية و سيقود البشرية إلى طفرة نوعية هامة في مجال استثمار الطاقة لم يسبق لها مثيل.
إن هذين الحدثين سيؤديان إلى ارتفاع معدل استهلاك الطاقة للمدنية المعاصرة إلى حوالي 10^32 إرغة من الطاقة النظيفة وبالتالي ستفوق مدنيتنا المعاصرة مدنية روما في رقيها وتقدمها مئة مليون مرة وفقا لهذا المقياس.