عائلات تعيش وسط المستنقعات!
05-02-2018, 02:44 PM


تختصر يومياتهم في البحث عن قارورات الغاز أو الركض في مصالح الاستعجالات بحثا عن العلاج لفلذات أكبادهم الذين حولتهم المساكن الهشة والقصديرية إلى "خفافيش".. يتعايشون مع الرطوبة العالية ومياه الصرف التي تتسرب إليهم من الجدران والأرضية، وهو ما جعل أطفالهم حبيسي قارورة "الأوكسجين".. أسقف تتهاوى عليهم مع كل ريح تهب وقطرة مطر تسقط دون أن يهب أحد من المسئولين لنجدتهم.. إنهم سكان الأحياء الهشة والقصديرية بالعاصمة، الحقيقة المخفية في عاصمة يتغنى المسؤولون بأن تكون "عاصمة بلا قصدير".
"الشروق" تنقلت إلى حي "الكاريار" ببلوزداد في قلب العاصمة وعاشت معهم يومياتهم الصعبة لتنقل هذه الشهادات الحية والمؤلمة.
توجهنا إلى حي "الكاريار" ونحن نعتقد أن الأمر يتعلق فقط بمساكن هشة آيلة للسقوط، على اعتبار أنّ القصدير لا وجود له خصوصا وأن المسؤولين لا يتوانون في كل مرة عن الحديث عن "عاصمة في المتوسط بدون قصدير".
شد انتباهنا خلال الطريق وفد أجنبي كان يستمتع بمشاهدة العاصمة من الأعلى، حيث يقابلك البحر الأبيض المتوسط بزرقته وصفائه، وهو المنظر الذي يخطف الأبصار، وأسفله جبل تقيم فيه أزيد من 200 عائلة مزّقها الفقر وأنهكها المرض.
وصلنا الحي الذي كانت الروائح الكريهة تنبعث منه والرطوبة التي أصابتنا بدوار شديد، دخلنا المنزل الأوّل الذي تسكنه عدة عائلات يعود إنشاءه لفترة ما قبل الحقبة الاستعمارية، يقول نسيم الذي اشترى جده المنزل "لقد حولتنا هذه المنازل إلى مرضى، بعضنا لا يرى النور بالأشهر ولا نتلقى سوى الوعود، حتى الاحتجاجات لم تجد نفعا معهم وعودونا بالترحيل ومرت السنوات ومازلنا ننتظر".
وللوقوف على معاناة بعض العائلات، فضلنا الدخول إلى المنازل، حيث استقبلتنا سيدة في مطلع الثلاثينات من العمر، أم لطفلين، تقيم فيما يشبه غرفتين استغنت عن غرفة نومها وباعتها، لأن المنزل مهدد بالانهيار، فجمعت الملابس في أكياس، لأن المنزل لا يحتمل ثقل الخزانة، اختارت مساحة من الرواق لتحولها لمطبخ. تحكي لنا عن معاناتها، فتقول أنّها تقيم في المنزل منذ 7 سنوات، جدرانه اهترأت بسبب الرطوبة ولم تعد تفيد مواد التنظيف الكثيرة المركونة على الرف شيئا، فطوال الوقت يتعايشون معها ومحرومون من أشعة الشمس، حتى أولادها ليس بوسعهم الركض حتى لا ينهار السقف على جارتهم، تضيف "رانا صابرين لربي وخلاص"، في كل مرة يحاول زوجي تنظيفها وترميها على حسابه، لكن لا فائدة، ابني مصاب بالربو، كل يومين ننقله إلى المستشفى، أخاف أن أفقده في إحدى نوبات المرض".

مصابة بالتوحد تقيم وسط مياه الصرف

اتخذنا سبيلنا وسط مياه الصرف الصحي وحيرة كبيرة، كيف يصعد المسنون هذا الجبل يوميا، وكيف يعيشون في هذا المكان الذي لا تصل إليه سيارات الإسعاف، معاقون ومرضى، دخلنا القبو حيث تقيم عائلة "زعينك"، أين لا توجد نوافذ ولا هواء، ظلام دامس ليل نهار، أطفالها تحولوا لخفافيش، وفي هذه الظروف المزرية تعيش الطفلة "لبنى"، صاحبة 12 عاما، مصابة بالتوحد والصرع، جلست مبتسمة، تلهو في عالمها الجميل، غير مدركة لما يحدث حولهاـ تقول والدتها: لدي ثلاث بنات وذكرين، ونحن نقيم هنا منذ 10 سنوات، المياه القذرة تتسرب إلينا من الأرضية، الطفلة لبنى لا تتحدث ولم تراجع طبيبها المختص في الأعصاب منذ قرابة السنتين، هي الآن دون علاج، نصحها طبيبها المعالج بإلحاقها بمدرسة خاصة بمرضى التوحد كي تتمكن من الحديث فسجلتها لتدرس شهرين فقط لعدم تمكن عائلتها من تسديد المصاريف. تكمل الوالدة المصابة بارتفاع ضغط الدم والمنهكة من شظف العيش سرد حكايتهم: لا نملك المال حتى لشراء الطعام، فغالبية راتب زوجها المصاب بمرض القلب يصرف على حفاظات "لبنى"، لقد تم إدراج هذا المنزل ضمن الخانة الحمراء، لكن لم يرحلونا.

معوق لم يخرج من منزله منذ ثلاث سنوات

"جاو وجاو، بصمنا وسينيينا، بصح ما كاين والوا"، هكذا ردت علينا والدة "بوعكاز عبد القادر" 19 سنة، معاوق، يقيمون في الحي منذ أزيد من 20 سنة، ولديها 5 أطفال، تحكي لنا: عندما كان في عمره 4 أشهر أصيب بالتهاب شعيبي حاد، نقلناه إلى المستشفى فتفاقمت حالته ليصاب بعدها بالصرع ويفقد القدرة على الحركة والكلام، كان يستمع لحديثنا ويطالع نشرة الأخبار ويتفاعل معها بالابتسامة. تستطرد الأم "نعيش في هذا المنزل رفقة 5 عائلات، لدينا مرحاض وحمام مشترك، كنت أعمل وعندما مرض ابني توقفت، حاليا نعيش على مرتب زوجين عون أمن في البلدية لا يتجاوز 20 ألف دينار جزائري، منذ 3 سنوات لم يخرج "عبد القادر" إلى الشارع وليس باستطاعتنا تحريك الكرسي، لم نحصل على أي إعانات باستثناء كيسين من الحفاظات تمنحها لنا البلدية كل شهر، وقد أودع زوجي منذ سنتين طلبا في البلدية للحصول على كرسي متحرك، لم نحصل عليه لحد الساعة، لتختم قولها "الحمد لله على كل شيء، نحن لا نطمع في أي شيء آخر، لا ندق أبواب المسؤولين".
تحكي لنا إحدى الساكنات بأن والدتها مولودة في هذا المنزل الذي شيد سنة 1825 وقد صدمها قطار وبترت ساقها لتلفظ أنفاسها بعد ما وقع سقف المنزل عليها، ظلت طوال سنوات عمرها تحلم بالانتقال إلى منزل آخر وماتت دون أن يتحقق حلمها. غادرنا الحي في موعد عودة الأطفال إلى المنازل، بعضهم كان يجر حقائبه وهم متيقنون أنه لا طعام في انتظارهم ولا روائح زكية تنبعث من القدور، وحدها رائحة الفقر والرطوبة هي التي كانت تنبعث من المنازل وتزكم الأنفس قبل الأنوف.





روبورتاج: زهيرة مجراب