الإشكاليَّاتُ اللغويّة في مواقعِ التّواصلِ الاجتماعيّة
06-09-2018, 05:11 PM
الإشكاليَّاتُ اللغويّة في مواقعِ التّواصلِ الاجتماعيّة
د. عاطف العيايدة


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:



إنَّ الوظيفةَ الأساسيّةَ للغةِ هيَ: إنجازُ المهامِّ الإنسانيّةِ، وتوطيدُ العلاقاتِ الاجتماعيّة، من خلالِ تحسُّنِ النَّشاطِ اللغويِّ للأفرادِ ضمْنَ البيئةِ الّتي يعيشونَ فيها، ويستخدمونَ فيها لغةً ما، وحتّى تضمنَ اللغةُ ديمومتَها: لابدَّ من وضعِ قواعدَ مؤسِّسةٍ تستطيعُ تحمَّلَ البنى الكلاميّةَ الّتي يتعلّمها النَّاسُ، وعلى أساسِها يستخدمونَ لغاتهم، واللغةُ العربيّةُ واحدةٌ من أهمِّ اللغاتِ الّتي استخدمها الخلقُ في منظومِ كلامِهمْ، وكتابةِ تاريخهم، وتسجيلِ وقائعهم الحضاريّةِ؛ لتصبحَ لغةً جماهيريّةً محصَّنةً بالأطرِ النّحويّةِ والصّرفيّةِ والصَّوتيّةِ والنّظريَّاتِ اللغويّة، وفوقَ ذلكَ بالقرآنِ المعجزِ المنزلِ باللغةِ العربيّةِ.
فاللغةُ العربيّةُ لغةٌ اجتماعيّةٌ بامتيازٍ، في خصائِصِها وقاموسِها المعجميّ وإمكاناتِها العالية وأنظمتِها المتنوّعةِ المترابطةِ في نسقٍ تسلسليٍّ واحدٍ، ولا يخامرنا الشَّكُّ في أنَّ اللغةَ العربيّةَ لغةٌ صالحةٌ لكلِّ الأزمنةِ والأمكنةِ، وكفاءتُها مشهودٌ لها في القرآنِ الكريمِ الّذي جاءَ:[ بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ]، وقدْ أثبتَ رصيدُها الحضاريُّ والتّاريخيُّ قوامتَها على سائِرِ اللغاتِ الأخرى، فهي حاضنةُ التراثِ والإبداعِ والأدبِ، وبها تناقلَت الأجيالُ أحداثًا طويلةً من التّاريخِ والعصورِ البائدةِ، فهيَ (أيقونةُ الخلودِ) كأداةٍ تواصلٍ على مرِّ الأزمانِ، لحفظِ الأنسابِ، وتسجيلِ معالمِ التَّاريخِ، وتثبيتِ دعائمِ العلومِ بشتَّى أنواعِها، وبناءِ جسورٍ من العلاقاتِ الإنسانيّةِ الاجتماعيّةِ.
ولا يمكنُ التّسليمُ بمقولةِ الثّباتِ اللغويّ لأيِّ لغةٍ من اللغاتِ الّتي تداولَها بنو البشرِ، وشكّلتْ فيما بينهمْ قنواتٍ منَ الاتّصالِ الاجتماعيِّ والتّعارفِ الشّخصيِّ، فاللغةُ حاجةٌ اجتماعيّةٌ لمْ تتحقّقْ لولاها روابطُ التّواصلِ والتّماسكِ في المجتمعاتِ، فهيَ أداةُ التّخاطبِ اليوميِّ في جميعِ المجالاتِ الّتي يمارسُ فيها الفردُ نشاطاتِه وحياتَه، وهي عصبُ التَّأثيرِ الّذي من خلالِهِ تتحقّقُ التّفاهماتُ، وتُبدى الآراءُ، ويُعبَّرُ عن المشاعرِ، فهيَ باختصارٍ كما قالَ (هدجر): " منزلُ الكائنِ البشريِّ ".
واللغةُ العربيّةُ شأنُها شأنُ اللغاتِ الأخرى لغةٌ متطوّرةٌ وناميةٌ لا تقفُ عندَ حدٍّ من حدودِ الانجمادِ اللّغويّ العاجزِ عنْ مسايرةِ الانفلاتِ السّريعِ في عجلةِ التّطوّرِ التّكنولوجيّ والبشريّ، فما يصلحُ من ممارسةٍ لغويّةٍ في مرحلةٍ زمنيّةٍ متأخِّرةٍ قد لا يصلحُ لذاتِ الممارسةِ اللغويّةِ في مرحلةٍ زمنيّةٍ متقدّمةٍ، على أنَّ التّطوّرَ اللغويّ لا يتأصّلُ في سياقِ الوصفِ التّاريخيّ ما لمْ ينطلقْ من أساسٍ واضحٍ، ونهجٍ قويمٍ معَ مخالفةِ فكِّ القيودِ، ونقضِ الشّروطِ عن اللغةِ العربيّةِ الّتي نشأتْ ونمتْ وتطوّرتْ على ألسنةِ المتكلّمين، معَ الأخذِ بعينِ الاعتبارِ: أنَّ اللغةَ ليستْ صنيعةَ الأفرادِ، لكنّها ناشئةٌ في أحضانِ المجتمعاتِ، وترقى برقيّها، وتنحطُّ بانحطاطِها.
وبعيدًا عن التّطوّرِ المُطَّردِ للغةِ العربيّةِ في مكوّناتِها اللفظيّةِ، كأصواتِها وعناصرِها هناكَ تطوّرٌ من نوعٍ آخر نلمسُهُ في أيَّامِنا هذهِ من خلالِ فضاءاتِ التّواصلِ الاجتماعيّ الإلكترونيِّ التي تحتلُّ موقعَ الصَّدارةِ في عمليّاتِ التّواصلِ، والّتي أصبحتْ ميدَانًا فسيحًا لكلِّ مَنْ هبَّ ودبَّ، بمجرّدِ إِضاءةِ لوحةِ مفاتيحِ الهواتفِ النَّقَّالةِ، أو الضَّغطِ على مفتاحِ التّشغيلِ لأجهزةِ الحاسوبِ المحمولةِ بأنواعِها المتعدّدةِ، هذا التّطوّرُ الّذي ينبئُ عنْ حالاتٍ من الإضرارِ باللغةِ العربيّةِ، عبرَ تحوّلِها إلى أداةِ تخاطبٍ ذاتِ مستوىً متدنٍّ أثناءَ وضعِ المشاركاتِ، أو المحادثاتِ الّتي لا تخضعُ لرقيبٍ ولا لحسيبٍ.
فالملاحظُ أنَّ مستوى الأداءِ اللغويّ الذي يمارسهُ مستخدمو شبكاتِ التّواصلِ الاجتماعيّ داخلَ غرفِ الحوارِ والدّردشةِ قدْ بلغَ درجةً هابطةً من الانحدارِ قياسًا معَ الإحصائيّاتِ الرّقميّةِ لمستخدمي شبكاتِ التّواصلِ الاجتماعيّ من النّاطقينَ باللغةِ العربيّةِ، وهذا يشكّلُ خطورةً على قوّةِ الأداءِ اللغويّ في سياقهِ الاجتماعيّ، ويجرُّ اللغةَ العربيّةَ إلى وادٍ سحيقٍ من التَّدهورِ والتّراجعِ، وبالتَّاليْ إلى ضعفِ الممارسةِ اللغويّةِ السّليمةَ الّتي تمثِّلُ درعَ الوقايةَ للغةِ العربيّةِ من الابتذالِ والانسياقِ وراءَ المستحدثاتِ اللغويّةِ الطّارئةِ على اللغة العربيّةِ، والوقوعِ في كمائنِ المنعطفاتِ الخطيرةِ المرسومةِ من أعداءِ الأمّةِ المتربّصينَ بها.
فالحرفُ العربيّ الّذي ظلَّ صامدًا على مدى عهودٍ طويلةٍ من الزّمنِ، معَ ما رافقَهُ من تيَّاراتٍ استعماريّةٍ ضاغطةٍ سعتْ إلى طمسِ الهويّةِ اللسانيّة للأمّةِ نجدهُ اليومَ محاصرًا على طاولاتِ البحثِ الإلكترونيّ، ومستباحًا من قِبَلِ مستخدمي وسائطِ التّواصلِ الاجتماعيّ دونَ أدنى مسئوليّةٍ في خلقِ الإشكالاتِ اللغويّةِ، من مثلِ استبدالِ الحروفِ بأرقامٍ أصبحتْ علاماتٍ متداولةً، أو نحتِ الكلماتِ واختصارها، أو مزاوجةِ الحروفِ العربيّةِ بالحروفِ الانجليزيّة؛ لتنتجَ لغةٌ منصهرةٌ تسمّى في أوساطِ المتحدّثين اليومَ باللغةِ (العربيزيّة).
هذا بالإضافةِ إلى رصدِ كثيرٍ من الظّواهرِ الطَّارئةِ على استخدامِ اللغةِ باستخفافٍ عبرَ التّمرّدِ على قواعدِها النّحويّةِ والإملائيّة الرّاسخةِ الّتي وطّدَ أركانَها علماءُ العربيّةِ الأجلّاء، وهذا بحدِّ ذاتِهِ انفلاتٌ لغويٌّ سيؤدّيْ لا محالةَ إلى نشوءِ حالةٍ من الفوضى العارمةِ في الاستخدامِ اللّغويّ الّذي فاقَ بتقديري انتشارَ العامّيّةِ، إِذْ إنَّ شرائحَ المجتمعِ العامّيِّ تكتسبُ لغتَها اكتسابًا بريئًا، ثمَّ تعتادُ عليها، لكنَّها تدركُ إدرَاكًا واعيًا: أنَّ اللغةَ الأصليّةَ الأمّ هي: اللغةُ العربيّةُ الفصحى، وهي لغةُ الكتابةِ والتّخاطبِ والإبداعِ.
بينما تمتدُّ موجاتُ الاستخدامِ اللغويّ عبرَ مواقعِ التّواصلِ الاجتماعيّ إلى كلِّ البيوتِ والمدارسِ، والأماكنِ العامّةِ والخاصّةِ كظاهرةٍ جديدةٍ في التّطوّرِ اللغويِّ الحادثِ كصيحةٍ من صيحاتِ الحداثةِ؛ ليبدأَ النّشءُ بتعلّمِها بكلِّ رغبةٍ وطواعيةٍ؛ لمواكبةِ أقرانِهِ ممّنْ تملّكوا لغةً عصريّةً تتواءمُ معَ تيّاراتِ السّرعةِ والعبثيّةِ الإلكترونيّةِ، وتحقّقُ متطلّباتِ التّواصلِ القصيرِ الأمد، الخارجِ على كلِّ قيمِ مجتمعاتِنا الأصيلةِ.
فمنَ المعلومِ أنَّ مساحة التّوسّع في استخدامِ مواقعِ التّواصلِ الاجتماعيّ تزدادُ يومًا بعدَ يومٍ، وبصورةٍ هائلةٍ وسريعةٍ، ودونَ وجودِ رقابةٍ تحدُّ من خطرِ الاستخدامِ غير الآمنِ، خاصّةً عندَ غيرِ الرّاشدينَ والأطفالِ، ومنْ هم دونَ السّنِّ المؤهّلِ لولوجِ بوَّابةِ العالمِ الإلكترونيّ، واللغةُ العربيّةُ في سياقِ الامتدادِ العربيّ على صفحاتِ التّواصلِ الاجتماعيّ هي أداةُ التّفاعلِ الأولى، وهي منطلقُ الأصواتِ المغرّدة والهاشتاق(الوسم) والفاف(التدوينة) والايموجي(الرّموز التعبيريّة) والستوري(القصّة في تطبيق السناب تشات) والبلوك(حظر جهات التّواصل) والدايركت(المحادثة الخاصّة) والريتويت(إعادة التّغريد) والفورورد(إعادة التّوجيه) والمنشن(الرّد على المستخدم) والفولو(متابعة الحساب) والبايو(خانة النّبذة الشّخصيّة) والترند(المواضيع الأكثر تداولًا)، والكثير الكثير من المصطلحاتِ المتعارفِ عليها بينَ روّادِ مواقعِ التّواصلِ الاجتماعيّ.
وفي ظلّ هذا التّوغّل الإلكترونيّ عبر وسائلِ التّواصلِ الاجتماعيّ:(الفيس بوك، التويتر، الواتساب) ينزلقُ المستخدمون في منزلاقاتِها بقصدٍ أو دونَ قصدٍ أثناءَ استخدامهم للغةِ العربيّة كوسيلةٍ معبّرةٍ عن محادثاتِهم وتعليقاتِهم، ومنشوراتِهم المتتابعة، فقلّما تجدُ من المستخدمينَ من هو حريصٌ على تنقيةِ نصوصِه ومحادثاتِه ممّا يشوبُها من عوالقَ أو من أخطاء لغويّةٍ أو إملائيّةٍ أو تركيبيّة، فيظهرُ اللحنُ جليًّا ومتراكمًا للدّرجةِ الّتي تزكمُ أنوفَ المتذوّقينَ لجماليّاتِ اللّغةِ العربيّة الّتي وصَفَها عمرُ بن الخطّابِ رضي الله عنه بقولِهِ:
" تعلّموا العربيّةَ؛ فإنَّها تشبّبُ العقلَ، وتزيدُ في المروءةِ ".
فالعاميّة الّتي شكّلتْ سيلًا جارفًا من الاعتداءِ على قدسيّة اللغةِ العربيّة الفصحى لم يتجرّأْ أنصارُها أو المتحدّثونَ بها على اللغةِ العربيّة كما تجرّأ أنصارُ مواقعِ التّواصلِ الاجتماعيّ، إذْ وصلَ الحدُّ بهم إلى الاتّفاقِ بمحضِ التتبّعِ والتّقليدِ على إعدادِ قوالبِ جاهزة كاختصاراتٍ لتراكيبَ عربيةٍ، أذكرُ منها على سبيلِ المثالِ الدّارجِ اختصارَ تركيب (سأذهبُ وأعود) في قولهم: (برب)، واختصار عبارة (سأراكَ قريبًا) في قولهم: (سيس)، واختصار عبارة (سأضحك طويلًا) في قولهم: (ههههه) معَ مراعاة زيادة الهاءات إذا زادتْ الضحكاتُ والقهقهات!!؟، وما إلى ذلك من القوالبِ المختصرة المتعارفِ على معناها بينهم، دونَ أدنى فهمٍ لمحدّداتِ التّركيبِ اللّغويّ، وهذا الأمرُ يُقاسُ عليهِ أنّ اللغةَ العربيّة مع مرورِ الزّمنِ ستصبحُ في نظرِ أبنائِها مجرّدَةً من جوهرها، فهناكَ بدائلُ لألفاظِها إذا كانَ المقصدُ الأساسيّ منها مجرّدَ أداةٍ للتّواصلِ.
ويبقى الضَّررُ في استخدامِ اللغةِ العاميّةِ دونَ اللغةِ الفصحى أقلَّ من التّداخلِ مع اللغاتِ الأخرى، من خلالِ ما أصبحَ معمولًا بهِ في سياقِ مسمّياتٍ لا تمتُّ للغةِ بصلةٍ، مثل: (الفرانكو آرب، العربيزيّة، الأنجلو عربيّة)، الّتي تحوّلتْ من خلالِها اللغةُ العربيّةُ منْ لغةٍ صافيةِ المشاربِ إلى لغةٍ معكّرةٍ، ويعلوها كثيرٌ من الشّوائبِ، بينما اللغةُ الفصحى واللغةُ العامّيَّةَ لغتانِ من فصيلةٍ واحدةٍ، والفرقُ بينهما فرعيٌّ لا أساسيّ، فهو واضحٌ ومحدَّدٌ في آليّةِ اللفظِ، وصياغةِ الجملِ، والموقعِ الإعرابيّ للكلمة في سياقِ التّركيبِ اللغويِّ.
فهذه الممارسات في استخدام اللغة العربيّة عبر صفحات التّواصل الاجتماعيّ من الأخطارِ الّتي تحيقُ بها، فشيوعُ أساليبِ التّواصلِ الاجتماعيّ أخذتْ من حياةِ النّاسِ الوقتَ الطّويلَ، ودخلتْ في أدقِّ شؤونِ حياتِهم، عبرَ مغرياتِها المتنوّعةِ سهلةِ المنالِ، وهنا يظهرُ الوجهُ الشّديدُ القبحِ للتّقنياتِ الحديثةِ في التّواصلِ الّتي من المفترضِ أنْ تُساهمَ في ارتقاءِ اللّغةِ العربيّة، لا أنْ تكونَ نقمةً عليها، وجرثومةً سامّةً تتسلّلُ عبرَ بريقِها الحضاريّ والتّاريخيّ؛ ونفخًا من الشرِّ المحدّقِ في أصولِها وثوابتِها كلغةٍ باركَها اللّه، وتكفّلَ بحفظِها، وأمنَ سموّها على سائرِ اللغاتِ، لكنَّ أبناءَها اليومَ غافلونَ عنها، ومغيّبونَ عن دسائسِ المكرِ المغلّفةِ بثوبِ العصريّة والحداثةِ، الّتي تُحاكُ في أروقةِ الظّلامِ، وتُعدُّ في مطابخِ السّياسةِ العالميّة الّتي وضعتْ نصبَ عينيها أهدافًا مدروسةً بعنايةٍ لإضعافِ اللغةِ العربيّة، وبالمحصّلةِ إضعافِ الأمّةِ.
فمعَ الانفتاحِ على العولمةِ بأشكالِها المتعدّدةِ أصبحَ العالمُ قريةً كونيّةً صغيرةً على حدّ قولِ عالمِ الاتّصالِ الكنديّ:(مارشال ماكلوهان)، معَ ما رافقها (العولمة) من تطوّرٍ في الوسائلِ الإلكترونيّة للإعلام والاتّصالِ الّتي ساعدتْ في تقليصِ الفجوةِ الزّمنيّةِ والمكانيّةِ، وانكماشِ الكرةِ الأرضيّة للحدّ الّذي أُلْغيتْ معهُ مفاهيمُ المسافاتِ، فقدْ أصبحَ بمقدورِ أيِّ شخصٍ عبرَ الأنظمةِ الإلكترونيّةِ المتوفّرةِ الوصولِ إلى المعلوماتِ، والتّواصل معَ الآخرينَ في أيِّ وقتٍ شاءَ، وهذا التّطوّرِ اللافتُ هو مدعاةٌ الزيادةِ الفائقةِ والمستمرّةِ في أعدادِ مستخدمي شبكاتِ التّواصلِ الاجتماعيّ؛ حتّى أُشيدتْ لهذهِ الغايةِ مقاهيْ الانترنت ونواديهِ في جميعِ أنحاءِ العالمِ، ومعَ التّقدُّمِ الزّمنيّ تحوّلتْ المقاهيْ والنّواديْ إلى غرفٍ صغيرةٍ للدّردشةِ، ثمُّ إلى أيقوناتٍ صغيرةِ الحجمِ يستعرضُها المستخدمونَ على شاشاتِ هواتِفهم النّقَّالةِ المتطوّرةِ، لدرجةِ أنَّ ذواكرَها التّخزينيّةَ قدْ تفوّقتْ على الكثيرِ من أجهزةِ الحاسوبِ الثّابتةِ والمحمولةِ.
كما أنَّ هناكَ ظاهرةً جديرةً بالوقوفِ تشيعُ في أوساطِ مستخدمي شبكاتِ التّواصلِ الاجتماعيّ، وهي: استخدامُ لغةِ تخاطبٍ مكوّنةٍ من خليطٍ من الحروفِ العربيّةِ واللاتينيّةِ والانجليزيّةِ والفرنسيّةِ، والرّموزِ والرّسوماتِ والأرقامِ، وكلُّ ذلكَ تحتَ مسمّى (اللغةِ الانترنيتيّة)، وقدْ امتدّتْ هذه الظّاهرةُ لتصلَ إلى كافّةِ الأماكنِ، خاصّةً في الجامعاتِ والمعاهدِ والمدارسِ، وقدْ أشارَ كثيرٌ من الدّارسينَ والباحثينَ إلى هذهِ الظّاهرةِ المسمّاة (التّداخل اللغويّ)، وهيَ دخيلةٌ على اللغةِ العربيّةِ، وتؤثِّرُ في نظامِها اللغويّ الوضعيّ تأثيرًا سلبيًّا، فإذا ما شاعتْ في بيئةٍ، ولمْ تجدْ قوَّةً مكافئةً للوقوفِ في وجهها: انتشرتْ انتشارَ النّارِ في الهشيم، وهذا ما حدثَ بسرعةٍ وعشوائيّةٍ لدى السّوادِ الأعظمِ من مستخدمي شبكاتِ التّواصلِ الاجتماعيّ.
ومن جانبٍ آخرَ: برزتْ ظاهرةُ استبدالِ الحروفِ العربيّة بالأرقامِ أثناءَ كتابةِ الكلماتِ العربيّة باللغةِ الانجليزيّة، وقدْ لوحظَ هذا الملمحُ وشاعَ بينَ مستخدمي اللغةِ الانجليزية من العربِ والعجمِ في محادثاتهم، كاستبدالهم حرفَ الحاءِ بالرّقم (7) إذا ما كتبوا اسمَ محمّدٍ، ليكتبوه هكذا (mo7amad)، والسّببُ المباشرُ في مثلِ هذه الظّاهرةِ ما هو إلَّا خروجٌ فاضحٌ على اللغةِ العربيّة أوّلًا: باستبدالِها بلغةٍ أخرى ليستْ أرفعَ منها شأنًا، وثانيًا: من بابِ التّقليدِ الأعمى، ومسايرةِ المخطّطِ الغربيّ للقضاءِ على العربيّة في عقرِ دارِها تحتَ ما يسمّى بمخطّط (الفرانكو آرب).
أمّا شيوعُ الأخطاءِ النّحويّة والإملائيّة، فقد بلغَ السّيلُ فيها الزّبى، حتّى انتقلتْ عدوى الوقوعِ بها إلى أصحابِ الاختصاصِ، وحملة الشّهاداتِ العليا، بحجّةِ أنّ المقامَ ليسَ مقامَ احتفالٍ باللغةِ الغربيّة بقدرِ ما هو امتثالٌ لمتطلّباتِ التّفاعلِ السّريعِ، وإيصالِ (المسجاتِ) بأسرعِ الطّرقِ، معَ وجودِ حالاتٍ من التّثاقلِ في البحثِ عن الهمزاتِ وحركاتِ الضّبطِ وزخرفةِ الكلماتِ ما دامَ أنّ الرّسالةَ ستصلُ دونَ هذا العناءِ!!؟.
فلا يمكنُ القولُ: إنَّ مستخدمي شبكاتِ التّواصلِ الاجتماعيَّ قدْ نجحوا في إيجادِ لغةٍ جديدةٍ عبرَ عالمهم الافتراضيِّ، لغةٍ خارجةٍ على الأُطرِ والقواعدِ اللّغويّةِ الرّاسخةِ للغتنا العربيّةِ الأمّ؛ لأنَّ هذا الاعترافَ: نوعٌ من التّسليمِ بأحقيَّتهم في الخروجِ على لغتِهم الأصيلةِ، وتحويلِها إلى خليطٍ من الحروفِ والأرقامِ والرّموزِ والرّسوماتِ والاختزالاتِ، رغمَ أَنَّها تؤدّيْ رسالتَها، وتحقِّقُ متطلَّباتِ التّعبيرِ عن الذَّاتِ الإنسانيّةِ، إِذْ إِنَّ اللغةَ العربيّةَ من أقدمِ لغاتِ الأرضِ، وخزائِنُها ملأى بالمفرداتِ ومرادفاتِها الّتي أهَّلتْها لمواكبةِ الحداثةِ، فلا يعتريها النّقصُ لتحقيقِ أيِّ نشاطٍ اجتماعيٍّ تواصليٍّ مهما كانَ طابعُهُ وشكلُهُ، فلا يُقالُ اليومَ على ألسنةِ المنظّرينَ والمنادينَ بالانقسامِ اللغويّ: إنَّ لغتَنا قاصرةٌ عن مجاراةِ اللغاتِ الأخرى، والثَّقافاتِ المتنوّعةِ؛ ليكونَ هذا الاتّهامُ الموجَّهُ للغتنا العربيّةِ دافعًا للتّوسّلِ إلى لغاتٍ هابطةٍ لا ترتكزُ على قواعدَ، بلْ تعتمدُ العشوائيّةَ في توجيهِ النّظامِ اللغويّ الضَّعيفِ كتابةً ومشافهةً.
وممّا لا شكَّ فيهِ: أنَّ شبكاتِ التّواصلِ الاجتماعيّ قدْ أصبحتْ تشكّلُ خطرًا على اللغةِ العربيّة، فالرّواجُ للغةِ الإنترنيتيّة انتشرَ بشكلٍ واسعٍ، وفقَ الإحصاءاتِ الّتي قدّمها الباحثون، وذلكَ على حسابِ اللغةِ العربيّة الّتي باتتْ منسيَّةً، إلَّا لدى فئةٍ قليلةٍ من المهتمّينَ والمدافعينَ والمثقّفين الّذين يتداولونَها، ويعبّرون بها، ويثرونَ فيها المشهدَ الثّقافيَّ، والأكثر إدهاشًا وحزنًا: أنَّ هذهِ اللغةَ قدْ تسلّلتْ من الواقعِ الافتراضيّ إلى الواقعِ الحقيقيّ، بلْ إِنَّها أصبحتْ في نظرِ الكثيرين من مستلزماتِ التّواصلِ الاجتماعيّ؛ لسهولةِ استخدامِها وسرعةِ إنجازِها، والتّنازلُ عنها ليسَ بأسهلَ من التّنازلِ عن اللغةِ العربيّة الأصيلةِ، فاستخدامُها مبرَّرٌ ومباحٌ بكلِّ الأوجهِ والأشكالِ.
فهامشُ الحرِّيَّةِ المعطى لمرتادي صفحاتِ التّواصلِ الاجتماعيِّ جعلهم يقفزون عن كثيرٍ من الحواجزِ القيميّةِ الضَّابطةِ في استخدامِ اللغةِ العربيّة، للدرجةِ الّتي استباحوا فيها التّعدّي على قواعدها النَّاظمة؛ باستنساخِ لغةِ محادثةٍ أقربَ ما تكونُ إلى اللغةِ التِّجاريّةِ الّتي تتبدّلُ مصطلحاتُها وتراكيبُها يومًا بعدَ يومٍ حسبَ متطلّباتِ السّوقِ، فلا تستقرُّ على حالٍ، والمجالُ مفتوحٌ فيها للحشو والاستبدالِ والتَّمازجِ معَ اللغاتِ الأخرى، والانزياحِ بالألفاظِ إلى غيرِ معانيها، والتَّرويجِ للمبتذلِ من التَّراكيبِ الدَّخيلةِ، وتفريغِ المفرداتِ من مضامينِها الحقيقيّةِ، إذْ لا مكانَ للاستنادِ إلى مقولاتِ العلماءِ وآرائهمْ، ومراجعةِ القواعدِ والمسائلِ اللغويّةِ المتَّفقِ عليها، وتمحيصِ الأقوالِ الواردة في سياقِ النَّصِ قبلَ زجِّهِ في الصَّفحاتِ للمتلقِّيْ، ولا رادَّ من استباحةِ ساحةِ اللغةِ العربيّةِ بما لا حصرَ لهُ من المخالفاتِ الّتي لا يحتاجُ الأمرُ معها بعدَ ذلكَ إلى مصحِّحٍ أو مدقِّقٍ لغويٍّ؛ لتقودنا تلكَ الحملةُ على اللغةِ العربيّةِ في نهايةِ المطافِ إلى الاستخفافِ بها، ثمَّ وبالتَّدريجِ طمسِ الهويَّةِ للحرفِ العربيِّ، وإحداثِ حالةٍ من التّغريبِ بينَ اللغةِ العربيّةِ وأبنائها.