السيوطي الموسوعي المجتهد
13-01-2020, 12:35 PM


ميلاد السيوطي ونشأته
هو أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي. وُلِدَ بأسيوط ليلة يوم الأحد غرة شهر رجب سنة 849هـ / أكتوبر 1445م، لأسرة اشتُهِرَت بالعلم والتدين، وكان أبوه من العلماء الصالحين ذوي المكانة العلمية الرفيعة.

نشأ السيوطي يتيمًا؛ إذ تُوفي أبوه وله ست سنوات، وأَتَمَّ حفظ القرآن الكريم وهو دون الثامنة، ثم حفظ بعض الكتب في تلك السن المبكرة مثل: العُمدة، ومنهاج الفقه والأصول، وألفية ابن مالك، فاتسعت مداركه وزادت معارفه، وكان محل العناية والرعاية من عدد من العلماء من رفاق أبيه، وتولَّى بعضهم أمر الوصاية عليه، ومنهم "الكمال بن الهمام الحنفي" [1] أحد كبار فقهاء عصره، الذي تأثّر به السيوطي تأثرًا كبيرًا خاصة في ابتعاده عن السلاطين وأرباب الدولة [2].

شيوخ السيوطي
عاش السيوطي في عصرٍ كَثُرَ فيه العلماء الأعلام؛ فتأثر السيوطي بهذه النخبة، فابتدأ في طلب العلم سنة ([864 هـ= 1459م)، ودرس الفقه والنحو والفرائض، ولم يمضِ عامان حتى أُجِيز بتدريس العربية، وألَّف في تلك السنة أول كتبه "شرح الاستعاذة والبسملة" وهو في سن السابعة عشرة، فأثنى عليه شيخه "علم الدين البلقيني".

وللسيوطي نحو ست مئة شيخ [3]؛ من أبرزهم: الحافظ ابن حجر، شمس الدين القياتي، الشيخ باكير، جلال الدين المحلي الشافعي، محمد الجيلاني [4].

تلاميذ السيوطي
وتلاميذ السيوطي من الكثرة والنجابة بمكان، وأبرزهم "شمس الدين الداودي" صاحب كتاب "طبقات المفسرين" الذي كتبه بمساعدة أستاذه "السيوطي"، و"شمس الدين بن طولون"، و"شمس الدين الشامي" محدِّث الديار المصرية، والمؤرِّخ الكبير "ابن إياس" صاحب كتاب "بدائع الزهور" [5].

ومنهم كذلك قاضي القضاة برهان الدين بن ظهيرة الشافعي، وقاضي القضاة نور الدين بن أبي اليمن المالكي، ونور الدين السنهوري شيخ مالكية عصره، وفخر الدين المقدسي فقيه الشافعية، ومحب الدين بن مصيفح، وزين الدين عبد القادر بن شعبان [6].

رحلات السيوطي
سافر السيوطي لطلب العلم إلى الفيوم ودمياط والمحلة وبلاد الشام واليمن والهند والمغرب [7] والتكرور (تشاد حاليًّا)، ورحل إلى الحجاز سنة (869هـ) [8] وجاور بها سنة كاملة، وشرب من ماء زمزم ليصل في الفقه إلى رتبة سراج الدين البلقيني، وفي الحديث إلى رتبة الحافظ ابن حجر العسقلاني [9].

اعتزال السيوطي الحياة العامة والسلاطين
عاصر السيوطي ثلاثةَ عشرَ سلطانًا مملوكيًّا، إلا أن علاقته بهم كانت متحفظة، وطابعها العام المقاطعة، وإن كان ثمة لقاء بينه وبينهم، وضع نفسه في مكانته التي يستحقها، وسلك معهم سلوك العلماء الأتقياء، فإذا لم يقع سلوكه منهم موقع الرضا قاطعهم وتجاهلهم، وكان بعض الأمراء يأتون لزيارته، ويقدمون له الأموال والهدايا النفيسة فيردها، ورفض مرات عديدة دعوة السلطان لمقابلته، وألَّف في ذلك كتابًا أسماه "ما وراء الأساطين في عدم التردد على السلاطين".

وقد أعانه على كثرة تأليفه انقطاعه التام للعمل وهو في سن الأربعين حتى وفاته، وثراء مكتبته وغزارة علمه وكثرة شيوخه ورحلاته، وسرعة كتابته، فقد اتسع عمره التأليفي إلى خمسٍ وأربعين سنة، حيث بدأ التأليف وهو في السابعة عشرة من عمره، وانقطع له اثنين وعشرين عامًا متواصلة، ولو وُزِّع عمره على الأوراق التي كتبها لأصاب اليومُ الواحد أربعين ورقة، وقد تمنَّى أن يكون إمام المائة التاسعة من الهجرة، فيقول: "إني ترجَّيت من نعم الله وفضله أن أكون المبعوث على هذه المائة، لانفرادي عليها بالتبحُّر في أنواع العلوم" [10].

إسهامات السيوطي العلمية
عطاء علمي نادر

إنَّ ما أنجزه السيوطي رحمه الله من مؤلفات تعجز اليوم عن إنجازه مؤسسات ومراكز بحوث، رغم ما يتوافر لها عادة من مال ورجال وعلماء، ومصادر معلومات من الكتب والمراجع والحواسب ونحوها.

ولا شك أن توفيق الله كان فوق الأسباب جميعها التي هيأت للسيوطي تأليف هذه الكتب، بالإضافة إلى تبحره في العديد من العلوم؛ يقول السيوطي عن نفسه: "رُزِقتُ التبحُّرَ في سبعة علوم: التفسير والحديث والفقه والنحو والمعاني والبيان والبديع" [11]، بالإضافة إلى أصول الفقه والجدل، والقراءات التي تعلَّمها بنفسه، والطب.

وأهم أسباب هذا العطاء العلمي النادر [12]
طموح السيوطي، ورغبته بالتفوق، والتصدر في ساحة الحياة، كما كان لبُعده عن الحياة العامة، والمجاملات الاجتماعية الفارغة التي لا تليق بأهل العلم دور كبير.

وكثرة المصادر بين يديه، فقد ترك له أبوه مكتبة زاخرة بالمنصفات، وكان يتردد منذ صغره على المدرسة المحمودية، وبها مكتبة كبيرة من أنفس الكتب الموجودة في القاهرة، كما أنَّ أسلوبه في التأليف قد مكَّنه من ذلك؛ فهو قد يختار مسألة من مسائل العلم، ولو صغيرة، فيفردها في رسالة مستقلة.

وقد تميز السيوطي بالموسوعية، وجمع الأقوال والنُّقول في المسألة الواحدة، بحيث يُشَعِّبها تحريرًا، سواء كان الموضوع مخترَعًا أم مجموعًا.

منهج السيوطي في التأليف
للسيوطي رحمه الله منهج في التأليف، يمكن إيراده على الوجه التالي:

- أمانته في النقل، فهو يلتزم بعزو كل قولٍ إلى مَن قاله، كما يتبين من مؤلفاته العديدة.
- نقله عن كتبٍ اندثرت الآن؛ مما ساعد على حفظ نصوصها لنا.
- ذكره الأقوال المختلفة في الموضوع، مسندها إلى من قالها، ومناقشة الأدلة، وبيان ترجيحه، أو توقفه عن الترجيح.

مؤلَّفات السيوطي
ذكر السيوطي في مؤلَّفَيْه "حُسْنُ المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة"، و"التحدُّث بنعمة الله" –وهو ترجمة ذاتيه للسيوطي؛ ذكر قائمة تضم عناوين مؤلفاته، كما ورد في فهرس مؤلفات السيوطي، وبهجة العابدين بترجمة حافظ العصر جلال الدين، وغيرها.. ما يصل بعدد كتبه إلى (1194) عنوانًا، طبع منها (331) عنوانًا، وما يزال (431) عنوانًا مخطوطًا، والمفقود هو (432) عنوانًا [13].

ولتنوع معارف السيوطي؛ نجده يُصَنِّفُ في كل الفنون، فقد صَنَّف في التاريخ، وعلوم القرآن، والتفسير، والحديث وعلومه، والفقه، واللغة، والطبقات.

فمن أمثلة ما صنَّف في التاريخ
"حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة"، و"تحفة المذاكر في المنتقى في تاريخ ابن عساكر"، و"التحفة الظريفة في السيرة الشريفة"، و"تاريخ الخلفاء".

وفي الطبقات
ألَّف أكثر من (55) كتابًا ورسالة يأتي في مقدمتها: "عين الإصابة في معرفة الصحابة"، و"بُغية الوعاة في طبقات النحاة".

ومما صَنَّف في علوم القرآن
"الإتقان في علوم القرآن" وقد جمع فيه ثمانين نوعًا من علوم القرآن، وما زال هذا الكتاب عمدة الدراسات القرآنية، و"التحبير في علوم التفسير"، و"متشابه القرآن"، و"الإكليل في استنباط التنزيل"، و"طبقات المفسرين"، و"الألفية في القراءات العشر"، "الناسخ والمنسوخ في القرآن"، وغير ذلك كثير.

وفي تفسير القرآن
"الدُّرُّ المنثور في التفسير بالمأثور"، والتفسير المسند المسمي "ترجمان القرآن"، و"تفسير الجلالين"؛ الذي ابتدأ جلال الدين المحلي من أول سورة الكهف إلى آخر سورة الناس، ثم ابتدأ بتفسير الفاتحة وبعد إتمامها مات المحلي، فأتم السيوطي ما ابتدأه شيخه منتهجًا نفس منهجه.

وفي الحديث وعلومه
كان يحفظ مائتي ألف حديث كما روى عن نفسه، وكان مغرمًا بجمع الحديث واستقصائه؛ لذلك ألَّف عشراتِ الكتب في هذا المجال؛ ومن كتبه: "إسعاف المبطأ في رجال الموطأ"، و"تنوير الحوالك في شرح موطأ الإمام مالك"، و"جمع الجوامع"، و"الدُّرَر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة"، و"المنتقى من شعب الإيمان للبيهقي"، و"أسماء المدلسين"، و"آداب الفتيا"، و"طبقات الحفاظ".

وفي الفقه
"الحاوي في الفتاوى"، و"الجامع في الفرائض".

ومن كتبه في اللغة وعلومها
"المزهر في اللغة"، و"الأشباه والنظائر في اللغة"، و"الاقتراح في النحو"، و"التوشيح على التوضيح"، و"المهذب فيما ورد في القرآن من المعَرَّب"، و"البهجة المرضية في شرح ألفية ابن مالك"، وفي ميدان البديع كان له: "عقود الجمّان في علم المعاني والبيان"، وغيره.

خصائص مؤلَّفات السيوطي

1- ضمُّ مؤلفاته لعدد من عناوين كتبه مثل كتابه "الحاوي للفتاوى" الذي يضم نحو سبعين رسالة له.
2- تنوُّع موضوعات كتبه في الفنون المختلفة.
3- اختلاف حجم كتبه ما بين الورقة الواحدة والمجلدات الكبيرة.

مناصب السيوطي
الإفتاء

تصدى السيوطي للإفتاء من سنة (871هـ) وعمره اثنان وعشرون عامًا، على مذهب الإمام الشافعي، واستمر في الفُتيا إلى أن اعتزل التدريس، وعمره قد قارب الأربعين، وبيَّن عذره في ذلك في "المقامة اللؤلؤية" [14].

التدريس
بدأ التدريس من شوال سنة (870هـ)، وما مرَّ عام حتى لزمه الفضلاء والكبراء، ومنهم الشيخ بدر الدين حسن القيمري أحد علماء الفرائض، وأحد المشاركين في الفقه والعربية، فلزمه عشر سنين، ومنهم الشيخ سراج الدين الأنصاري؛ شيخ القرَّاء، الذي لزمه نحو عشرين سنة [15].

وبدأ إملاء الحديث الشريف، مستهل سنة (872هـ)، بعد موت الحافظ ابن حجر العسقلاني [16].

القضاء
تقلَّد القضاء في عهد المتوكل العباسي سنة (902هـ) [17].

مشيخة الخانقاه
تولاها سنة (891هـ) بعد وفاة الشيخ جلال الدين البكري، واستمر في هذا المنصب حتى سنة (906هـ)؛ حين عزله طومان باي [18].

دراسات عن السيوطي
- إسهام السيوطي بالإفتاء: د. محمد الزحيلي.
- الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي وجهوده في الحديث وعلومه: د. بديع السيد اللحام.
- الإمام السيوطي وجهوده في علوم القرآن: محمد يوسف الشربجي (رسالة دكتوراه).
- الإمام السيوطي وفن السيرة الذاتية: د. عبد الإله نبهان.
- جلال الدين السيوطي: منهجه وآراؤه الكلامية، د. محمد جلال أبو الفتوح.
- جلال الدين عبد الرحمن السيوطي ومنهجه في الكتابة التاريخية: د. محمد عبد الوهاب فضل.
- دور الإمام السيوطي في إحياء حركة الاجتهاد الفقهي: د. محمد الدسوقي.
- جلال الدين السيوطي: مصطفى الشكعة.

وفاة السيوطي
تُوُفِّي السيوطي رحمه الله في (19 من جمادى الأولى 911هـ= 20 من أكتوبر 1505م) [19] بعد حياةٍ حافلة بالعلم والتعليم؛ فرحمه الله رحمةً واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

[1] الكمال بن الهمام الحنفي (790- 861هـ): هو محمد بن عبد الواحد الكمال بن همام الدين، اشتهر بالكمال ابن الهمام، ولد بالإسكندرية، أحد أقطاب المذهب الحنفي، وإذا أطلق الحنفية كلمة "المحقق" عنوه بها.
[2] مصطفى عاشور: السيوطي صاحب الـ7علوم، حدث في العام الهجري،
[3] إياد الطباع: الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي ص47.
[4] إياد الطباع: الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي ص 32.
[5] مصطفى عاشور: السيوطي صاحب الـ7علوم، حدث في العام الهجري،
[6] إياد الطباع: الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي ص 33.
[7] محمد سعيد مرسي: عظماء الإسلام عبر أربعة عشر قرنًا من الزمان ص 344.
[8] إياد الطباع: الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي ص41.
[9] مصطفى عاشور: السيوطي صاحب الـ7علوم، حدث في العام الهجري،
[10] مصطفى عاشور: السيوطي صاحب الـ7علوم، حدث في العام الهجري،
[11] مصطفى عاشور: السيوطي صاحب الـ7علوم، حدث في العام الهجري،
[12] سعدي أبو جيب: حياة جلال الدين السيوطي مع العلم من المهد إلى اللحد ص47.
[13] إياد الطباع: الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي ص312،313.
[14] طبعت ضمن شرح المقامات 2/ 996.
[15] إياد الطباع: الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي ص 427.
[16] السيوطي: التحدث بنعمة الله (مخطوط).
[17] عبد القادر الشاذلي: بهجة العابدين (مخطوط).
[18] الشعراني: الطبقات الصغرى ص 34، 35.
[19] نجم الدين الغزي: الكواكب السائرة بأعيان المائة العاشرة.

د. راغب السرجاني