عبد الفتاح أبو غدة.. شيخ سوريا الأول
14-01-2021, 10:28 AM


مولد الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ونشأته:
ولد الشيخ عبد الفتاح بن محمد بن بشير أبو غدة -رحمه الله تعالى- في مدينة حلب الشهباء في السابع عشر من رجب من عام 1336 للهجرة، وهذا يطابق منتصف عام 1918 للميلاد، وإن كانت الترجمات التي تكتب عن الشيخ تقول إن ميلاده كان عام 1917م، والله أعلم.

وقد كانت أسرته التي نشأ فيها أسرة سِتْر ودين. فأبوه محمد كان رجلاً مشهورًا بين معارفه بالصلاح والتقوى والمواظبة على الذكر وتلاوة القرآن، وكان يعمل في تجارة المنسوجات التي ورثها عن أبيه، وينتهي نسب الشيخ -رحمه الله- إلى الصحابي الجليل خالد بن الوليد -رضي الله عنه-، وكان لدى أسرة الشيخ شجرةٌ تحفظ هذا النسب وتثبتهُ.

مراحل تعليم الشيخ عبد الفتاح أبو غدة:
التحق الشيخ بالمدرسة العربية الإسلامية في حلب، ثم بالمدرسة الخسروية العثمانية التي بناها خسرو باشا، الوالي العثماني، والتي تعرف الآن باسم الثانوية الشرعية، وتخرّج فيها سنة 1942م، وانتقل إلى الدراسة في الأزهر الشريف، فالتحق بكلية الشريعة، وتخرّج فيها في الفترة ما بين 1944 و1948 للميلاد، وانتقل منها إلى التخصص في أصول التدريس في كلية اللغة العربية في الأزهر أيضًا، وتخرّج فيها سنة 1950 ميلادية، وكان في مراحل دراسته جميعًا من المتفوقين اللامعين.

شيوخ الشيخ عبد الفتاح أبو غدة:
تلقى الشيخ عبد الفتاح -رحمه الله- على مئات الشيوخ، فكان من شيوخه في حلب: الشيخ عيسى البيانوني والشيخ إبراهيم السلقيني (وهو جد الدكتور إبراهيم الأستاذ في عدد من كليات الشريعة، والعميد لبعضها، ومفتي حلب اليوم) والشيخ محمد بن إبراهيم السلقيني، والشيخ محمد راغب الطباخ، والشيخ أحمد الزرقا، والشيخ مصطفى بن أحمد الزرقا، والشيخ محمد الرشيد، والشيخ محمد سعيد الإدلبي، والشيخ نجيب سراج الدين، والشيخ أحمد الكردي، والشيخ محمد الناشد.

وكان من شيوخه في مصر: الشيخ عبد المجيد دراز، والشيخ عبد الحليم محمود، والشيخ المحدث أحمد بن محمد شاكر، والشيخ حسنين محمد مخلوف، والشيخ المحدث الأصولي عبد الله العماري، والشيخ عيسى منّون، والشيخ أحمد الخضر حسين، والشيخ يوسف الدجوي.

والتقى في مصر كذلك: الشيخ مصطفى صبري، شيخ الخلافة العثمانية سابقًا، والشيخ محمد زاهد الكوثري، والإمام الشهيد حسن البنا، رحمهم الله جميعًا.

وكثير من الشيوخ الآخرين في الحجاز والهند والباكستان وغيرها.

تلاميذ الشيخ عبد الفتاح أبو غدة:
ويُعَدُّ تلامذته بالمئات، بل بالألوف، ويكفي أن نذكر من تلامذته المقربين الشيخ العلامة المحدّث محمد عوامة، والشيخ الأديب الأريب مجد مكي، والشيخ الداعية العالم حسن قاطرجي اللبناني، والشيخ محمد الرشيد النجدي. وقد ألف هذا الشيخ الأخير كتابًا بعنوان: "إمداد الفتاح بأسانيد ومرويات الشيخ عبد الفتاح" وهو ثَبَتٌ عظيم يعرض فيه إلى النشاط العلمي للشيخ عبد الفتاح، ويذكر فيه أسماء مئات الشيوخ الذين أخد عنهم، والمئات الذين تتلمذوا عليه.

الكتب التي كان ينصح بقراءتها الشيخ عبد الفتاح أبو غدة:
لقد كان رحمه الله شغوفًا بالعلم والكتب والقراءة، وكان لديه مكتبة ضخمة حافلة بالكتب المعروفة الشائعة، والكتب النادرة، والمخطوطات. وكان يحض تلامذته على القراءة والبحث. ومن جملة الكتب التي كان يوصينا بقراءتها: كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي، وكتاب إعلام الموقعين للإمام ابن قيم الجوزية، وكتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم للإمام ابن تيمية.

رحلات الشيخ عبد الفتاح أبو غدة العلمية
قام الشيخ عبد الفتاح بالعديد من الرحلات العلمية والدعوية، يلقي الدروس والمحاضرات، ويعطي الإجازات، أو يأخذ الإجازات. وقد رحل لهذه الأغراض إلى الهند والباكستان والسودان والمغرب والعراق... وحمل في رحلاته كثيرًا من علم القارة الهندية، وحقق كثيرًا من رسائل علمائهم وكتبهم، وشَهَرَها بين أهل العلم. ونتيجةً لجهوده العلمية وصل إلى القارئ العربي كتب عبد الحي اللكنوي ومحمد أنور شاه الكشميري وظَفَر أحمد التَّهانَوي.

جهود الشيخ عبد الفتاح العلمية
بعد أن أكمل الشيخ دراسته في مصر عاد إلى سورية ودرّس في مدارسها الثانوية العامة والثانوية الشرعية الخسروية والمدرسة الشعبانية الشرعية، ثم في كلية الشريعة بجامعة دمشق، ثم عُيّن مديرًا لموسوعة "معجم فقه المحلى لابن حزم"، ثم درّس في جامعة محمد بن سعود في الرياض، وفي المعهد العالي للقضاء، وعُيّن أستاذًا لطلبة الدراسات العليا، وانتُدب أستاذًا زائرًا في جامعة أم درمان الإسلامية في السودان ولمعاهد الهند وجامعاتها، وشارك في عدد كبير من الندوات والمؤتمرات الإسلامية في عدد من الدول، هذا فضلاً عن الدروس المسجدية.

وقد أحاط بالعلوم الشرعية، وصار من أشهر علماء العالم الإسلامي، وتبحَّر في علوم الفقه وأصوله والحديث وعلومه، وأكبّ على تحقيق الكتب النفيسة وتأليف الكتب النافعة، فضلاً عن باعه الطويل في علوم اللغة.

وقد أحصى له تلميذه البارع محمد آل رشيد ثلاثة وسبعين كتابًا، بين تحقيق وتأليف، وإذا كان عمل المحققين، في كثير من الأحيان، لا يعدو أن يكون بيانًا للفروق بين النسخ المخطوطة، وشرحًا لبعض المفردات، فإن تحقيقات شيخنا تجعل مع الكتاب كتابًا، هو في الغالب لا يقلُّ فائدة عن الكتاب الأصلي، فضلاً عن جلاء الغموض، وضبط الألفاظ، لا سيما الأعلام، والإتيان بفوائد نادرة، وهذا ما يجعل طلاب العلم يحرصون كل الحرص على اقتناء الكتب التي حققها الشيخ رحمه الله.

وقد قام مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية في لندن بتكريم الشيخ، فاختاره لجائزة العلم التي قدّمها سلطان بروناي تقديرًا لجهوده في التعريف بالإسلام وإسهاماته في خدمة الحديث النبوي الشريف.

وكان من آثار تعلقه بالعلم، وشغفه به، أن خصص عددًا من مؤلفاته لشئون العلم والعلماء، مثل: "صفحات من صبر العلماء" و"قيمة الزمن عند العلماء" و"الرسول المعلم".

شخصية الشيخ عبد الفتاح أبو غدة
كان الشيخ رحمه الله يمثّل الشخصية القوية المتميزة للعالم المسلم المجاهد، فهو واسع العلم، رحْب الاطلاع، يعيش قضايا أمته وعصره، ويضع هموم المسلمين نصب عينيه، مدركًا كل الأبعاد التي تحيط بهم. وهو مع اتصافه بكل ما تقتضيه شخصيته العلمية، من رزانة وهيبة ووقار، حُلْوُ الحديث، رشيق العبارة، قريب إلى قلوب جلسائه، يأسِرُهم بحسن محاضرته، وطيب حديثه، وبُعْدِ غَوره، مع حضور بديهة، وحسن جوابه، حتى إن المُعاشر له لينهل من أدبه تمامًا كما ينهل من علمه. وكان من اهتمامه بآداب المجالسة والتعامل والمعاشرة أن انتشر في ثنايا كتبه وتعليقاته تأكيد فنون هذه الآداب وأخبار المتأدبين (انظر مثلاً الكتيب الصغير الذي ألفه بعنوان: "من أدب الإسلام"، وتعليقاتِهِ على رسالة المسترشدين، وعلى قصيدة عنوان الحِكَم لأبي الفتح البُستي).

وأما أدبه هو مع شيوخه فكان مثالاً للخلق والتواضع. فقد قبّل يد الشيخ مصطفى الزرقا مرارًا، لأنه تتلمذ على والده وعليه، وعندما صدرت الطبعة الأولى لكتاب رسالة المسترشدين، الذي شرحه وعلّق عليه، قدّم نسخة منه إلى الشيخ محمد نجيب خيّاطة هديّة وقبّل يده، وذلك أن الشيخ نجيب أكبر منه سنًّا، وقد تتلمذ عليه بعض الشيء، وكان يزور الشيخ عبد الكريم المدرّس في بغداد ويقبّل يده ويقدّم له الهدايا...

فلا غرو بعد ذلك أن تلتقي عليه القلوب، وتتعلق به النفوس وأن يكون موضع الحب والتقدير والثقة لدى جميع من خالطه من إخوانه وأحبابه، وهو إلى جانب ذلك كان بعيدًا عن الغلو والانفعال، يزن الأمور بميزانها الشرعي الدقيق، وقد أخذ بذلك نفسه وتلامذته، ولا أدل على ذلك، من أن يستشهد الإنسان بموقف الشيخ رحمه الله تعالى، من العالم الجليل الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فقد كان الشيخ يدرّس ويعلم في بيئة فيها كثير من التحفظ تجاه الإمام ابن تيمية، وإذا أضفنا إلى ذلك تتلمذ الشيخ على الشيخ محمد زاهد الكوثري رحمه الله تعالى، وكان هو الآخر، شديد الازورار عن الإمام ابن تيمية، فإن كل هذا لم يمنع الشيخ عبد الفتاح من أن ينصف شيخ الإسلام، وأن يذكره في مجالس علمه في مدينة حلب في الخمسينيات والستينيات، بما هو أهل له، وأن يغرس في نفوس أجيال الشباب من الدعاة والعاملين حبه واحترامه، على أنه العالم المجاهد، وأن يفعل الشيء نفسه لتلميذه الإمام ابن القيم رحمه الله، غير عابئ بما يجره ذلك من مخالفة من الوسط العلمي، أو مخالفة شيخ له، يحبه ويجلّه ويرى في الإمام ابن تيمية ما لا يراه.

النشاط الدعوي العام للشيخ عبد الفتاح أبو غدة:
ذكرنا أن الشيخ قد التقى في مصر الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله تعالى في الأربعينيات، وأصبح بذلك اللقاء من جماعة الإخوان المسلمين، تلك الجماعة التي أخذت على نفسها حمل راية الإسلام، والعمل على إعادة دولته وبناء حضارته، في العصر الحديث، وبعد أن عاد الشيخ إلى بلده سورية، حمل على عاتقه عبء حمل الدعوة إلى الله تعالى، فكان له نشاطه الدعوي العام في المساجد والمدارس والمجالس العامة، ونشاطه الدعوي الخاص، من خلال جماعة الإخوان المسلمين، وتعلَّقَ الإخوان بدورهم بالشيخ رحمه الله، ووثقوا به، لورعه وتقواه وعلمه ورجاحة عقله وحكمته، فكان لهم مرشدًا وسندًا وموئلاً.

وكان الشيخ رحمه الله تعالى خلال إقامته في سورية مدرسة دعوية حية متحركة، تتلمذ عليه فيها ثلاثة أجيال أو أكثر من الدعاة العاملين، كلهم يفخر بأنه نال شرف الاغتراف من بحر فضيلته.

وعندما اشتدت وطأة الطغيان على سورية في أواسط الستينيات، سعى الشيخ إلى تشكيل ما يُشبه الجبهة الإسلامية، فتحرك حركة إيجابية تجاه علماء مدينة حلب، فاجتمعوا معه في لقاءات موسعة كانت تضم خلفها جماهير المسلمين في المدينة، وتُظهر قوتهم، وتُبرز وحدتهم، إلا أن هذا السعي لم يؤتِ ثماره المرجوّة، لأسباب تتعلق بطبيعة الوعي الإسلامي، لحجم المأساة التي كان الشيخ يحاول أن يتصدى لها.

وفي مسجد (الخسروية)؛ حيث كان يجتمع أسبوعيًا آلاف المصلين، كان الشيخ يطرح على منبره، قضايا الإسلام والمسلمين المعاصرة، متصديًا للدكتاتورية والاستبداد، ولنزعات العلمانية والتغريب، ويضيق المستبدّون ذرعًا بالشيخ، وتصل إليه تهديداتهم من هنا وهناك... فيقف يومًا ليقول لهم بجرأة العالم المسلم المجاهد:

ولستُ أبالي حين أُقتل مسـلمًا *** على أيّ جنب كان في الله مصرعي

اعتُقل الشيخ رحمه الله مدة أحد عشر شهرًا في سجن تدمر الصحراوي، وأُفرج عنه على أثر حرب حزيران 1967م، وبعدها غادر إلى السعودية، أستاذًا في جامعاتها كما ذكرنا.

وفاة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة
في أواخر شهر رمضان 1417هـ ألمّ بالشيخ مرض التهابي، وهو مقيم بمدينة الرياض، وتفاقم المرض حتى حان الأجل فالتحق بالرفيق الأعلى فجر يوم الأحد التاسع من شوال سنة سبع عشرة وأربعمئة وألف للهجرة، الموافق للسادس عشر من شباط سنة سبع وتسعين وتسعمئة وألف للميلاد، عن عمر ثمانين عامًا قضاها في طاعة الله والدعوة إلى دينه وتعليم شرعه، فرحمه الله رحمة واسعة، وتقبل الله منه صالح ما قدّم، وتجاوز عن خطاياه، وجزاه خيرًا على ما نفع به المسلمين، والحمد لله رب العالمين.

المصدر: موقع رابطة أدباء الشام (بتصرف).