الناصر يوسف يتاجر بالجهاد
19-09-2016, 05:37 AM




حاصر جيش التتار ميافارقين حصارًا شديدًا، وجاءت جيوش مملكتي أرمينيا والكُرْج لتُحِكم الحاصر من الناحية الشرقية، وقام الأمير الكامل محمد في شجاعة نادرة يجاهد في الله، وصمدت المدينة الباسلة، وظهرت فيها مقاومة ضارية، ولم يأتيها المدد بالأسلحة والأطعمة والأدوية من الإمارات الإسلامية الملاصقة لها.. فحكامها منعدمو الأخلاق، حتى شعوبهم لم تكن تختلف كثيرًا عن حكامها.. إنما كانت تريد الحياة.. والحياة بأي صورة.

في ظل هذه الملابسات المخزية، والأوضاع المقلوبة، نستطيع أن نفهم لماذا يتم حصار إمارة ميافارقين، ويتعرض شعبها المسلم للموت أحياء، ولا يتحرك لها حاكم ولا شعب من الإمارات الإسلامية المجاورة.

وإذا كنا نفهم الخزي والعار الذي كان عليه أمير الموصل بدر الدين لؤلؤ، وأمراء السلاجقة (غرب تركيا) كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع، فإن الخزي والعار الذي وصل إليه «الناصر يوسف الأيوبي» حاكم حلب ودمشق قد وصل إلى درجة يصعب فهمها!

فالرجل تربطه بالكامل محمد الأيوبي علاقات مهمَّة جدًّا.. ففوق علاقات الدين والعقيدة، وعلاقات الجوار، وعلاقات البعد الإستراتيجي المهم لإمارة حلب؛ إذ إن ميافارقين تقع شمال شرق حلب، ولو سقطت فسوف يكون الدور القادم على حلب مباشرة... فوق كل هذه الأمور فهناك علاقات الدم والرحم.. فكلا الأميرين من الأيوبيين، والعهد قريب بجدهما البطل الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي، الذي لم يمر على وفاته سبعون سنة (توفي سنة 589 هجرية)، ووقفاته ضد أعداء الأمة لا تُنسى، فكيف يكون الحفيد الناصر يوسف على هذه الصورة المخزية؟

هذا سؤال صعب.. فليس هناك للناصر يوسف أي مبررات.. لا من ناحية الشرع، ولا من ناحية العقل.

لقد طلب الأمير الكامل محمد النجدة من الناصر يوسف الأيوبي، فرفض رفضًا قاطعًا.. لم يتردد.. ولم يفكر.. إنه قد باع كل شيء، واشترى ود التتار.. وما علم عندما فعل ذلك أن التتار لا عهد لهم ولا أمان.. وحتى لو صدق التتار في عهودهم أيبيع المسلمين للتتار ولو بكنوز الدنيا؟!

ثم إن الناصر يوسف لم يكتفِ بمنع المساعدة عن الكامل محمد، ولم يكتف بالمشاركة في حصار ميافارقين، بل أرسل رسالة إلى هولاكو مع ابنه العزيز، يطلب منه أن يساعده على الهجوم على «مصر»، والاستيلاء عليها من المماليك[1]!

في هذه الظروف يطلب الناصر يوسف من التتار الهجوم على مصر!

ولم ينس الناصر يوسف طبعًا أن يحمل ابنه العزيز بالهدايا الثمينة، والتحف النفيسة، إلى «صديقه» الجديد هولاكو.

ولكن سبحان الله! على نفسها جنت براقش!

استكبر هولاكو أن يرسل له الناصر يوسف ابنه العزيز ولا يأتي بنفسه، فقد أتى الأمراء الآخرون بأنفسهم، واستكبر هولاكو -أيضًا- أن يطلب منه الناصر يوسف أن يعينه في الاستيلاء على مصر لضمها لحكم الناصر يوسف؛ وذلك لأن هولاكو بطبيعة الحال يريد للشام ومصر معًا أن يدخلا في حكمه هو لا في حكم الناصر يوسف.. ومن هنا غضب هولاكو، وأرسل رسالة شديدة اللهجة إلى الناصر يوسف.. كل هذا مع أن العزيز بن الناصر يوسف آثر أن يبقى في عسكر هولاكو ليهاجم معه المسلمين!

وطبعًا ليس هذا مستغربًا.. فهذا الشبل من ذاك الأسد!

ولنقرأ معًا رسالة هولاكو إلى الناصر يوسف حاكم حلب ودمشق.. وواضح -بالطبع- أن هناك بعض الأدباء المسلمين المحترفين كانوا في جيش هولاكو يصوغون له ما أراد من أمور في لغة عربية سليمة، وأسلوب يناسب العصر الذي كتبت فيه.

قال هولاكو:
«الذي يعلم به الملك الناصر صاحب حلب، أنا قد فتحنا بغداد بسيف الله تعالى، وقتلنا فرسانها، وهدمنا بنيانها، وأسرنا سكانها، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: {قَالَتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}[النمل: 34]، واستحضرنا خليفتها، وسألناه عن كلمات فكذب، فواقعه الندم، واستوجب منا العدم، وكان قد جمع ذخائر نفيسة، وكانت نفسه خسيسة، فجمع المال، ولم يعبأ بالرجال، وكان قد نمى ذكره، وعظم قدره، ونحن نعوذ بالله من التمام والكمال.

إذا تم أمـر دنا نقصــــــــــــه *** توقـــع زوالاً إذا قيـل تـــــــــــم
إذا كنت في نعمة فارعهـــــا *** فإن المعـــــــاصي تزيل النعـــم
وكم من فتى بات في نعمــة *** فلم يدر بالمــــــــوت حتى هجم

إذا وقفت على كتابي هذا، فسارع برجالك وأموالك وفرسانك إلى طاعة سلطان الأرض شاهنشاه روي زمين (أي ملك الملوك على وجه الأرض) تأمن شره، وتنل خيره، كما قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجَزَاءَ الأَوْفَى}[النجم: 39 - 41]، ولا تعوق رسلنا عندك كما عوقت رسلنا من قبل، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وقد بلغنا أن تجار الشام وغيرهم انهزموا بحريمهم إلى مصر (وقد حدث هذا بالفعل؛ إذ فر كثير من التجار من الشام عندما علموا بقرب قدوم التتار)، فإن كانوا في الجبال نسفناها، وإن كانوا في الأرض خسفناها.

أين النجاة ولا مناص لهارب***ولي البسيطان الندى والمــاء
ذلت لهيبتنا الأسود وأصبحــت***في قبضتي الأمراء والوزراء[2]

وانتهت الرسالة التترية المرعبة!

وسقط قلب الناصر يوسف في قدمه!

ماذا يفعل؟!

لقد وضحت نيات هولاكو، فهو يطلب منه صراحة التسليم الكامل، ويخبره أنه سيتتبع من فر من تجاره وشعبه.. وذكره هولاكو بمصير الخليفة العباسي البائس.. فهل يُسلم كل شيء لهولاكو؟ ماذا يبقى له بعد ذلك؟

إن حب الملك والسلطان يجري في دمه، ولو رفعه هولاكو من على كرسي الحكم فماذا يبقى له؟! لذلك قرر الناصر يوسف أن يتخذ قرارًا ما فكر فيه طيلة حياته.. لقد اضطر اضطرارًا إلى أن يتخذ قرار «الجهاد» ضد التتار!

ومع أن الجميع يعلم أن الناصر يوسف ليس من أهل الجهاد.. وليس عنده أي حمية للدين ولا للعقيدة ولا للمروءة، فإنه أعلن أنه سيجاهد التتار في سبيل الله!

كانت دعوة مضحكة جدًّا من رجل اعتاد أن يبيع كل شيء، وأي شيء، ليشتري ساعة أو ساعتين على كرسي الحكم!

ورفع الناصر يوسف راية بلاده، وكتب عليها «الله أكبر»، وبدأ يحمس شعبه على الجهاد في سبيل الكرسي! أقصد: في سبيل الله!

الناصر يوسف يعلن الجهاد!
الناصر يوسف الذي راسل لويس التاسع ملك فرنسا قبل ذلك ليساعده على حرب مصر على أن يعطيه بيت المقدس يعلن الجهاد!

الناصر يوسف الذي أيد دخول التتار إلى بغداد، وهنأ هولاكو على نصره العظيم يعلن الجهاد!

الناصر يوسف الذي تخلى عن الكامل محمد الأيوبي أمير ميافارقين ولم يمده حتى بالطعام يعلن الجهاد!

الناصر يوسف الذي كان يطلب منذ أيام قلائل من هولاكو أن يساعده على غزو مصر يعلن الجهاد!

الناصر يوسف بكل هذا التاريخ الفاضح يعلن الجهاد!

يا للمهزلة! {إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ}[يونس: 81].

كان الناصر يوسف يتاجر بعواطف شعبه.. لقد ظهر سوء خلقه، وفساد عقيدته، وانعدام رؤيته للناس أجمعين، فكان من الحماقة أن يعتقد بعض المسلمين أن الله عز وجل سينصر الإسلام على يده.

لقد استجاب بعض المتحمسين للناصر يوسف وجاءوا يقاتلون تحت رايته الجديدة، ولكن استقراء التاريخ والواقع يشير إلى أنه حتمًا سيفر إذا جاء اللقاء.. لن يمكث الناصر يوسف في أرض المعركة إلا قليلاً.. بل قد يهرب قبل بدء القتال أصلاً.. وساعتها قد يصدم بعض المتحمسين للدين، ويشعرون بالإحباط الشديد، ولكن على هؤلاء أن يراجعوا أنفسهم، فخطؤهم الأكبر لم يكن الإحباط بعد فرار الزعيم، إنما الخطأ الأكبر فعلًا هو اعتقاد أن الناصر يوسف أو أمثاله يستطيعون حمل راية الجهاد الثقيلة جدًّا!

إذا سمعتم دعوة الجهاد فانظروا من ينادي بها.. فهذه العبادة هي ذروة سنام الإسلام.. ولا ينادي بها حقًّا إلا أعاظم الرجال.

المهم أن الناصر يوسف أعلن دعوة الجهاد، وضرب معسكرًا لجيشه في شمال دمشق عند قرية برزة[3]، مع أنه كان من المفترض أن يتقدم بجيشه إلى حلب لحمايتها، فهي من أهم المدن في مملكته، ولاستقبال جيش هولاكو عند أولى محطات الشام، أو كان عليه أن يذهب بجيشه إلى ميافارقين ليضم قوته إلى قوَّة الكامل محمد فتزيد فرص النصر، لكن هذا كله لم يكن في حساب الناصر يوسف، إنما ضرب معسكره في دمشق في عمق بلاد الشام حتى إذا جاءه هولاكو وجد لنفسه فرصة للهرب، فهو لا يريد تعريض حياته الغالية لأدنى خطر!

ثم بدأ الناصر يوسف يراسل الأمراء من حوله لينضموا إليه لقتال التتار، فراسل أمير إمارة الكرك شرق البحر الميت (في الأردن حاليًّا) وكان اسمه «المغيث فتح الدين عمر[4]»، ولم يكن مغيثًا إلا لنفسه، ولم يكن فتحًا للدين، ولم يكن شبيهًا بعمر.. إنما كان رجلاً على شاكلة الناصر يوسف، يحارب التتار تارة، ويطلب عونهم تارة أخرى بحسب الظروف والأحوال!

كما راسل الناصر يوسف أميرًا آخر ما توقع أحد أن يراسله أبدًا.. فلقد راسل أمير مصر يطلب معونته في حرب التتار[5]!

سبحان الله! لقد كان منذ أيام عدوًا لأمير مصر، وكان يطلب من التتار أن يعاونوه في حربه، وهو الآن عدو التتار، ويطلب من أمير مصر أن يساعده على حرب التتار!

ليس هناك مبدأ.. ولا قاعدة.. ولا أصل.. إنما المصلحة الشخصية.. فقط.

ولنترك الناصر يوسف ومعسكره الجهادي، ولنذهب إلى هولاكو وقد عاد من قلعة «شها» إلى مدينة هَمَذَان حيث القيادة المركزية لإدارة شئون الحروب في منطقة الشرق الأوسط.

وبدأ هولاكو يعيد ترتيب أوراقه نتيجة التطورات الجديدة.. التي تتسارع في هذه المنطقة الملتهبة (منطقة الشرق الأوسط!):
أولاً: علاقة التتار بالنصارى تزداد قوَّة، وخاصةً بعد ظهور بعض النماذج الإسلامية المعارضة لوجود التتار، فهنا سيظهر احتياج التتار لقوة النصارى للمساعدة على إخماد الثورات من ناحية، ولنقل الخبرة من ناحية أخرى، ولإدارة الأمور في الشام بعد إسقاطها من ناحية ثالثة.. ومن هنا أغدق هولاكو الهدايا والمكافئات على هيثوم ملك أرمينيا، وكذلك على ملك الكُرْج، وعلى «بوهيموند السادس» أمير أنطاكية[6].

ثانيًا: الحصار ما زال مضروبًا حول ميافارقين، ويقود الحصار ابن هولاكو «أشموط»، ومع بسالة المقاومة وشجاعة الكامل محمد فإن الحصار شديد الإحكام، خاصة أن قوات الأرمن والكُرْج تشتركان فيه، ولا يحاول أي أمير مسلم أن يساعده على فكه.

ثالثًا: ظهر الموقف العدائي من الناصر يوسف الأيوبي أمير حلب ودمشق، وضرب معسكره شمال دمشق، وبدأ في إعداد الجيش لمقابلة التتار، لكن هذا الإعداد لم يقابَل بأي اهتمام من هولاكو، فهو يعرف إمكانيات الناصر ونفسيته، ولذلك كانت هذه مسألة تافهة نسبيًا في نظر هولاكو.

رابعًا: منطقة العراق الأوسط -وأهم مدنها بغداد- قد أعلنت استسلامها بالكامل للتتار وأصبحت آمنة تمامًا، كذلك ظهر ولاء أمير الموصل التام للتتار، وبالتالي أصبح الشمال الشرقي من العراق -أيضًا- آمنًا تمامًا.

خامسًا: أقوى المدن في الشام هما مدينتا حلب ودمشق.. ولو سقطت هاتان المدينتان فإن ذلك يعني سقوط الشام كلية، ومدينة حلب تقع في شمال دمشق على بعد ما يقرب من ثلاثمائة كيلومتر.

بعد استعراض هذه النقاط فإن هولاكو قرر أنه من المناسب أن يتوجه مباشرة لإسقاط إحدى هاتين المدينتين: حلب أو دمشق.. فبأي المدينتين بدأ هولاكو؟

هذا ما نتعرف عليه في المقال التالي بإذن الله.

[1] أبو الفداء الملك المؤيد: المختصر في أخبار البشر 3/197.
[2] المقريزي السلوك لمعرفة دول الملوك 1/506.
[3] أبو الفداء الملك المؤيد: مختصر تاريخ الدول 3/200.
[4] المغيث الأيوبي [ت661 هـ]: عبد العزيز [المغيث شهاب الدين] بن عيسى بن العادل بن الكامل، من أمراء الدولة الأيوبية، كان صاحب الكرك والشوبك، وتحيل عليه الملك الظاهر حين دخل الشام [661هـ] حتى نزل إليه فكان آخر العهد به، قال الذهبي: وقبض الظاهر على ثلاثة من نظراء المغيث في الجلالة والرتبة أنكروا عليه إعدامه له.
[5] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 1/508.
[6] بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص112، 113.

د.راغب السرجاني