خطورة بثّ الهلع في المجتمعات
06-01-2018, 01:56 PM
خطورة بثّ الهلع في المجتمعات

الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:

إن النَّسيمَ في هذه الحياة لا يهُبُّ علِيلًا على الدوام، والماءَ الجارِي لا يدُومُ صفوُه، فكَم مِن نسيمٍ اعتَرَتْه العواصِف، وكَم مِن صفوٍ عكَّرَه الكَدَر؛ فإن صُروفَ الحياة وتداوُل الأيام يعتَرِيها خلِيطٌ مِن المدِّ والجَزر، والزَّين والشَّين، والعُسر واليُسر، والفرَح والتَّرَح.
فإن مَن عاشَ لم يَخْلُ مِن مُصيبة، وقلَّما ينفَكُّ عن عجِيبة، وما النَّفسُ إلا كدَرٌ وصفوٌ، طعمٌ له مُرٌّ، وطعمٌ حُلوٌ.
لا سرمديَّة في هذه الحياة لشيءٍ دُون ضدِّه، فتِلك هي سُنَّةُ الله التي لن نجِدَ لها تبديلًا ولا تحويلًا، ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾.
إنه إذا ما اشتدَّت الخُطُوبُ على المُجتمع ، وادلهَمَّت عليه سِهامُ الأعداء والخُصُوم الحاقِدِين والحاسِدين، فإن مِن أوجَبِ الواجِبات عليه: توحيدَ صفِّه، ونبذَ فُرقتِه، والتنازُل عن اختِلافات فُرقائِه التنوعيَّة، وتأجيلَ اختِلافاتِهم التضاديَّة: ما دامَت الخُطُوبُ أعظم، والتربُّص بمُجتمعهم مِن خارِجِه أدهَى وأمَرُّ.
وإنه لا يثلِمُ مثلَ ذلكم المفهُوم، ويقطَعُ سِياجَه أحدٌ مِن أفرادِ ذلكم المُجتمع المعنِيِّ كشخصٍ التَاثَ بصِفةِ الإرجافِ، أو التَّخذيل المُولِّدَين الهلَعَ والإرباكَ في أوساطِ المُجتمع، فإن هذَين الصِّنفَين مِن الناسِ أخطَرُ على لُحمةِ مُجتمعهم مِن عدوِّه الخارِجيِّ؛ لأن التهويلَ – وهو: الإرجافُ – كفِيلٌ ببثِّ الهلَعَ واليأسَ والإرهابَ مما هو قادِمٌ أو مجهُول.
وقُولُوا مثلَ ذلكم عن التهوينِ الذين هو: التَّخذيل؛ فإنه كفِيلٌ كذلكم ببثِّ الكسل واللامُبالاة، وعدم الاكتِراث بالخطَر وسُبُل دفعِه، أو سُبُل رفعِه.
ومِن هذا المُنطلَق – عباد الله – يجدُرُ بِنَا أن نمُرَّ مُرورَ الكِرام على طبعٍ مذمُومٍ ينتَابُ الفردَ والمُجتمعَ كلَّما صرخَ صارِخٌ، وأنَّ مُتوجِّعٌ، وأرجَفَ مُرجِفٌ، ذلكمُ الطَّبعُ المُربِك الذي يُصيبُ الناسَ بالتوجُّس والإحباط، وعدمِ الاستِقرار، إنه:“طبعُ الهلَعالمُؤسِف.
الهلَعُ بكلِّ ما تحمِلُه هذه الكلِمة مِن معنًى، الهلَعُ القاتِلُ الصامِتُ الذي يُنشِئُ حالةً مِن التوتُّر والقلقِ والاضطِراب تُجاهَ مُشكلةٍ يظنُّ الهلُوعُون بأنها تُمثِّلُ تهديدًا داهِمًا للفرد أو المجمُوع في الأخلاق والأُسرة والأمن والاقتِصاد والسياسة!!؟.
وهو – أي: الهلَع – طبعٌ جِبِلِّيٌّ مِن حيث قابليَّةُ المرء له في الأصلِ إذا لم يُحصِّن نفسَه بما يُضادُّه مِن السُّبُل التي تدفَعُه قبل وقوعِه، أو ترفَعُه بعد الوقوع، ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا﴾.
والهلَعُ له: مصدرٌ وناقِلٌ ومُتلقٍّ، يُمثِّلُون بمجمُوعهم الأثافِيَّ الثلاثَ لقِدرِ الهزيمة النفسيَّة، والإحباط العمليِّ، وغيابِ الوعيِ للفَردِ والمُجتمع. فمُصدِّرُوا الهلَع: فِئامٌ لا يرجُون الخيرَ للمُجتمعات، ولا تحمِلُ قلُوبُهم أيًّا مِن معانِي السَّكِينة والجِدِّ والفأْلِ وحبِّ الاستِقرار؛ فإن لبثِّهم الهلَع في نفوسِ العامَّة مَورًا أكثَر مِن مَور خُصُومِهم وأعدائِهم.
فكَم تسبَّبَ بثُّهم الهلَع في الهزائِم!، وكَم أحبَطَ مِن الهِمَم!، وكَم اغتالَ مِن الآمال!، وأمثالُ هؤلاء لا يَحمُون وطَنًا، ولا ينشُدُون مصلَحَتَه، ولا يرفعُون مضرَّتَه بعد وقوعِها، فضلًا عن أن يدفَعُوها قبل أن تقَع، بل إنهم يختصِرُون طريقَ العدوِّ، ويتطوَّعُون عنه بمعاوِلِ الهَدمِ النفسيِّ الذي لا طُمأنينةَ معَه البتَّة.
وأما ناقِلُوه، فهم دهماءُ النَّاسُ ولهازِمُهم، الذين هم كالأقماع لا تدرِي ما يُصبُّ فيها ألَبَنٌ هو أم خَمرٌ!!؟، أحُلوٌ هو أم مُرٌّ!!؟، فإنما هم سمَّاعُون حمَّالُون مُروِّجُون، ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾.
ومِن هذا المُنطلَق، فإن على ذوِي الإعلام والمُشارِكين بوسائل التواصُل مسؤوليَّةً بالِغةً في إذكاء الهلَع في المُجتمعات، أو في إخمادِه.
وأما المُتلقُّون – يا رعاكم الله – فهم ضحايَا ما مضَى؛ إذ هم أُسارَى لمُروِّجي الشائِعات، وحمَّالِي القِيلِ والقالِ، يحسَبُون كلَّ صَيحةٍ عليهم، فيَستسمِنُون ذا ورَم، ويظنُّون كلَّ سَوداء فَحمة، يفرَقُون مِن الهمس، ويجزَعُون مِن اللَّمس.
ليس لدَيهم مِن الوعيِ والتمحيصِ وقراءة ما بين السُّطور والعصفِ الذهنيِّ والتصفِية: ما يَمِيزُون به بين المصلَحة والمفسَدة، ولا بين الصِّدقِ والكذِب، ولا بين التَّهويلِ والتَّهوِين، ولا بين الواقعِ والوهمِ، وأن التثبُّتَ في الشائِعات ليس كالتسليمِ في تلقِّيها، وهذا شرُّ ما في الإنسان الذي قد عنَاهُ المُصطفى – صلى الله عليه وسلم – بقولِه: «شرُّ ما في رجُلٍ: شُحٌّ هالِع، وجُبنٌ خالِع»؛ رواه أحمد وأبو داود.
والنبيُّ – صلى الله عليه وسلم – إنما بُعِثَ في أسوأ أحوالِ العربِ في الدين والأُسرة والأخلاق والأمن والسياسة، فكانت رسالتُه في السَّماحة لا الغضاضة، والتيسير لا التعسير، والفأْل لا القُنُوط، والتبشير لا التنفير، والعمل لا القعُود، والوعي لا الغفلة.
ثم اعلَمُوا أن الهلَع هلَعَان: أحدُهما: هلَعٌ أمام وهمٍ، والآخر: هلَعٌ أمام حقيقةٍ.
فالهلَعُ الذي أمامَ الوهمِ مِن شأنِه أن يُؤصِّلَ في النُّفوس فصلَ الأمُور عن عِلَلها، وبِناءَ المواقِفِ سَلبًا وإيجابًا على ما لا حقيقةَ وراءَه؛ إذ حجَبَت فيه سُحُبُ الأوهام شمسَ الحقيقة، فيطغَى حينئذٍ العُزُوف عن بذلِ ما يُمكِنُ معه اكتِشافُ وهميَّة هذا الخَوف والهلَع، واستِفزازِ الشيطان وإجلابِه عليها بخَيلِه ورَجِلِه.
وتظهرُ بِناءً على ذلكُم: مواقِفُ لا علاقةَ لها بالهلَع الوهميِّ ولا هي مِن بابَتِه، فينشَأُ الغلَطُ في ردَّة الفعل مِن الغلَط في التقدير، ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾.
وأما الهلَعُ أمام الحقيقة، فإنه إذا لم يُلجَم بلِجامِ الحِكمة والأناة، فإن مِن شأنِه أن يُولِّدَ إحباطًا نفسيًّا، وشُعورًا مُبكِّرًا بالهزيمة، ومِن ثَمَّ يُضفِي القناعةَ باستِحالة جَدوَى المُدافعَة والمُزاحَمَة للتغلُّب على هذا الهلَع الطارِي. وكما أن للهلَع حقيقةً ووهمًا، فكذلك ثمَّةَ هلَعٌ منطقِيٌّ، وهلَعٌ مُبالَغٌ فيه.
وبما أننا نعيشُ زمنَ انتِشار الوسائل المعرفيَّة والتقنيَّة التي لم تكُن مِن قبل، فإن الهلَع قد أصبَحَ صِناعةً يمتهِنُ تروِيجَها المُرجِفُون الذين يُريدون تقويضَ الاستِقرار الفرديِّ والأُسريِّ والمُجتمعيِّ، وهذا الصَّنيعُ قرَنَه الله بصِنفَين مِن الناس، هم: المُنافِقُون، والذين في قُلُوبهم مرض، فقد قال الله في كِتابِه: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾.
إن الهلَع إذا دبَّ في قومٍ جعلَهم كالمُتلفِّتِ في سَيره كثيرًا، يضيعُ بصَرُه بين الالتِفاتِ وبين إبصارِه طريقَه ومواضِعَ خُطاه، فيُسبِّبُ التِفاتُه بُطئًا في السَّير وتعثُّرًا في الخُطَا، فيتأخَّرُ وصُولُه دُون رَيبٍ، ولا ثمرةَ للهلَع إلا مِثلُ ذلكم، بقَطع النَّظَر عما يُحدِثُه الهلَع مِن قلقٍ يُفقِدُ الثِّقةَ بالنفسِ والمُجتمع، وعُدوانًا يُفرِّقُ ولا يجمَع، وتقلُّبَ مزاجٍ لا يُمكنُ التعامُل معه بصُورةٍ مُضطرِدة، واتِّخاذ مواقِف لا تتناسَب مع سببِ الهلَع نفسِه؛ بحيث تكون ردَّة الفعلِ أكبرَ مِن الهلَع بمراحِل كثيرة.
ولا جرَم، فإن الهلَع هو: سرَطَانُ الفأْل، وجُذامُ السَّكينة، وحُمَّى الطُّمأنينة، كما أن توهُّمَه يُورِثُ الهمَّ والوَهْن والهوَان، والله – جلَّ وعلا – يقول لمَن لامَسَ الإيمانُ قلبَه: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.
فمِن الهلَع: ما يُوجِبُ الحِيطة والحذَر، وبذلَ أسبابِ الوِقايةِ مِنه؛ لئلا يجثِم التخذيلُ مكانَه، ولا الاستِسلام ولا القُعُود، أو يُصبِح عُنصرًا سلبيًّا في المُجتمع بأقصَى درجاتِ السلبيَّة المبنيَّة على احتِكار الفردِ ما يأتِيه مِن الخير، وعلى الاضطِراب والجَزَع إثرَ كل بلِيَّةٍ تحُلُّ به وإن صغُرَت، ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ ..﴾ الآيات.
فالله – جلَّ شأنُه – قد استَثنَى مِن آفةِ الهلَع في تلك الآية: المُصلِّين والمُتَّصِفين بلوازِمِها في الآياتِ التي تلِيها.
فإن مُجتمعًا يُداوِمُ على الصلاةِ، ويُنفِقُ مما آتاه الله، ويُصدِّقُ باليوم الآخِر، ويُشفِقُ مِن عذابِ ربِّه، ويحفَظُ أعراضَ ذَوِيه، ويُؤدِّي أماناتِه، ويقومُ بشهاداتِه، إن مُجتمعًا كهذا لن يحِلَّ الهلَعُ به بعامَّة، ولن يكون مِن بابَتِه في وِردٍ ولا صدَر، ولن يُبدِّلَ اللهُ أمنَه خوفًا، فكيف يشقَى قومٌ أكرَمَهم الله بهذا الكِتابِ، فتمسَّكُوا به؟، وكيف يقَعُ في التِّيهِ: مَن اهتَدَى بهَديِه واستَنَارَ بنُورِه؟:﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾.
ألا إن الحياةَ بلا أمَلٍ: قُنُوطٌ جاثِمٌ، والأملَ بلا عملٍ: تمَنٍّ كاذِب، ودينُنا الحنيفُ إنما يدعُو إلى الفأْل والأمَل اللَّذَين يستَصحِبان الجِدَّ والعمَل وبذلَ الأسباب.
والحذَرَ كلَّ الحذَر مِن مُرجِفٍ يُذكِي بإرجافِه الهلَع، ويُؤصِّلُ قناعةً وهميَّةً بأن الزمانَ قد فسَدَ برُمَّته، والمُجتمعات قد هلَكَت، وخرابَ دُنياهم قابَ قَوسَين أو أدنَى، وأنه لا خيرَ باتَ يُرجَى!!؟؛ ليصدُقَ فيه قولُ الرسولِ – صلى الله عليه وسلم -: «إذا قالَ الرَّجُلُ: هلَكَ الناس، فهو أهلَكُهم»؛ رواه مسلم.
ألا فاتَّقُوا الله – عباد الله -، واعمَلُوا وأمِّلُوا واستبشِرُوا بقولِ البارِي-جلَّ شأنُه-: ﴿طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾.

إذا المرءُ جارَ على نفسِه *** وأسرَفَ في خوفِهِ والهلَعْ
أتاحَ لأنفَاسِهِ حَسرَةً *** تُجَلجِلُ في قَلبِهِ فانخَلَع

منقول بتصرف يسير، جزى الله خيرا راقمه.