خيوط العـــــــــنكبوت
03-08-2019, 11:14 AM
في شموخ أزلي ترسل الشمس خيوطها الذهبية إلى هذا الشارع الطويل و المسرف في الطول..
سخية و معطاءة و دافئة .ذلك دأبها و تلك سيرتها على مدار السنين...
دفئها و أشعتها يكتنفان الأمكنة و الأشجار و الزوايا و الأحجار التي أنهكتها برودة الليل السرمدي .
ليل انتهت بالكاد سويعاته المملة ليتيح للنهار أن يرخي سدوله المضيئة و يحمل الأمل الجديد إلى هذه الدنيا..
هنا فوق هذا الرصيف - أو بقايا رصيف - كانت أمال تحث الخطو في ثقة و عزم ، مستمدة النشاط و المدد من تلك الشمس الحانية كما الأم..
مالت إلى كشك متواري في خجل تحت دوحة باسقة تكاد أن تعانق وجه الغيوم...
تشكل أغصانها المتعانقة مع البلابل و العنادل و حركة النسائم عزفا جميلا. و كأن المرء يسير في قصر باذخ من قصور كليوباترة..
وحده هذا العزف كفيل بأن يبدد ذلك الضجر الصباحي الذي يتوشح قلوب البشر.
هتفت أمال و هي ترنو في حنو إلى البائع العجوز :
- صباحك سعيد عم محمود -
- صباحك أسعد بنيتي أمال . هاهي جريدتك المفضلة -
ودعت أمال الرجل الكهل . و واصلت المسير فوق ذلك الرصيف الممل و التهمها الزحام مجددا...
لا يزال على موعد الجامعة ساعة أو بعض ساعة.
يممت الفتاة شطر النادي الثقافي . موقع كأنه ولد من رحم الجنان... خضرة و ماء و ورود و ربيع متواصل كل شهور السنة..
ترتاد أمال هذا النادي كل صباح . هنا في حضن هذه الطبيعة الآسرة يروق للفتاة أن تلتهم صحيفتها و ترتشف قهوتها في دعة و اطمئنان ،و قد تلتقي بعض الصحب و الخلان...
بسطت الجريدة على الطاولة ،راحت تقرأ ذلك العمود الأثير إلى قلبها ( حكاية مكان). .اليوم تحدث كاتب المقال بإطناب عن حي القصبة العتيق في أعالي العاصمة.
إنها تعشق حتى النخاع أسلوب هذا الصحفي اللامع و إجادته لطرح آراءه في جرأة. و لهذا السبب وحده آثرت أن تلتحق بمعهد الصحافة و الإعلام...
جلس هناك في أقصى النادي قبالتها مباشرة ..
سيجار كوبي طويل يتهادى بين أنامله. سحب كتلة من الدخان ثم أشاعها نحو الفضاء في غبطة ظاهرة...
اختلست أمال النظرات إلى ذلك الشاب..حاولت ألا تثير انتباهه و اجتهدت ألا يفارق بصرها الجريدة.. فكرت قليلا: لقد كان أنيقا حقا..ربطة عنق ايطالية حمراء أضفت إلى وسامته بهاءا إلى بهاء..
طوت أمال الصحيفة و راحت ترتشف القهوة و هي تجتهد أن تظهر بعدم الاهتمام . ابتسم صاحبنا هناك من بعيد ..ابتسامة جذابة بددت غيوم الشتاء الذي استقر في مشاعر الفتاة لسنين طويلة .
لم تحفل أمال بتلك الابتسامة..إنها تخشى أن تكون ابتسامة عابرة مثل سحابة صيف..
إنها تصادف هذا الشخص لأول مرة في هذا النادي. بعد تردد طويل سألت النادلة و هي تهمس في خجل بالغ :
- من هذا الشاب القابع هناك ؟-
-إنها المرة الأولى التي أشاهده فيها..أصدقك القول انه أنيق و آسر –
هتفت النادلة و هي تغمز بإحدى عينيها الكبيرتين ..و تورمت وجنتا أمال خجلا و اضحت أكثر جمالا و أنوثة.
و زاد دفء الشمس و صدحت بعض الأطيار فوق النخلة المقابلة. و تواصل سيل الابتسامات من هناك..
الأشجار تبدوا يانعة كأنها تحضن الربيع بين أفنانها و أزهارها و لا تطيق فراقه..
اصطنعت الفتاة عدم الاكتراث ثانية. وأجالت بصرها في أرجاء تلك الطبيعة الأخاذة .
لكن شيئا ما يصرخ في أعماقها و يلح في الصراخ .. يحثها على أن ترنو إلى ذلك الفتى الوسيم..
لقد ساورها إعجاب مفاجئ به .شعور لم تتذوق حلاوته قط.
ثم ماذا؟ ها هو الشاب يغادر طاولته إلى أين ؟؟
بخطوات واثقة اقترب الشاب من طاولتها. و همس إليها متوددا :
- صباح الخير آنستي. هل لي أن أجلس إليك بعض الوقت؟-
فاجأتها جسارته. لقد كان الفتى جريئا مثل حصان جامح ..قالت و هي تحاول ألا تفضحها مشاعرها :
- كيف تجرؤ يا هذا. أنا لا أعرفك -
- أتمنى أن نتعارف أيتها الغادة . و على كل حال أنا الدكتور أمين معروف أخصائي الأنف و الحنجرة...أعزب -
- متشرفة. لكنك لم تفصح عما تريد بعد – ردت أمال و هي تتحلى بملامح صارمة .
- رجاءا عرفيني بنفسك أولا -
- أمال طالبة جامعية. سنة ثانية صحافة –
أجاب الفتى في ثقة بالغة :
- الحق أنني لم أكن أصدق مقولة الحب من أول نظرة..لكن منذ دقائق فقط أصبحت من أنصار تلك المقولة -
تورد وجه أمال بحمرة استهوت الشاب كثيرا.. وردت و هي تصطنع عدم المبالاة اصطناعا :
- إن حديثك هذا لا يعنيني يا سيدي و ليس من حقك أن تقتحم على الفتيات حياتهن الخاصة –
- كيف لا يعنيك و أنوثتك المتدفقة هي سبب هذا التغير الذي طرأ على حياتي-
ابتسم الفتى ابتسامة أسرت ما تبقى من مقاومة لدى أمال..
أطرقت إلى الطاولة في خجل و قلبها الخفاق يكاد أن ينطلق من بين أضالعها إلى أجواء السماء و يحطم كتل الصمت هناك قائلا :
- لقد ملكتني للأبد أيها الفتى الفارس -
و تكلمت أمال بعد مدة :
– أشكرك على كلامك الرقيق. أنا لا أستحق كل هذا الثناء و التقريظ –
قاطعها الشاب في حنان بالغ :
- بل أنا من يشكرك على هذا اللقاء السعيد. أستسمحك في دقيقتين لأحضر لك هدية أتمنى أن تروقك. انتظريني قليلا -
انطلق الشاب كالرمح و ترك أمال في بحر من الهيام و السعادة و الوجد . بحر عميق حفت شطآنه بالورد و الزبرجد و القصائد الباذخة...
أفرجت أمال أخيرا عن ابتسامة نبتت من رحم الانتظار الطويل..انتظار ذلك الحبيب الذي أبطأ كثيرا و هاهو اليوم يغزو منتصرا كل الصروح و الحصون المرتفعة بين أضلاعها القاحلة...
في هذه اللحظات المشربة بالفرح و السعادة ،بسطت الفتاة جريدتها ثانية في انتظار عودة ذلك الفارس الجموح..
قلبت جفنيها بين الصفحات.. لحظة صمت طويلة جدا .و سرعان ما هتفت أمال ذاهلة ..ياااااااااااه. ثم اعتلت سحنتها صفرة منكرة.
لم تصدق ما قرأت.. راحت تقرأ مرة و مرة و بصوت متهدج :
( بلاغ.. لمن يشاهد هذه الصورة رجاءا إبلاغ الشرطة فورا . إنها صورة الدكتور أمين معروف أخصائي الأنف و الحنجرة سابقا..مختل عقليا و لقد فر من مستشفى الأمراض العقلية يوم أمس انه عنيف جدا و خطر على سلامة المواطنين ).