محاولة أخيـــــرة
11-09-2020, 11:46 AM
محاولة أخيرة

خرجت مثل رصاصة طائشة تحت جنح الليل لتخرق جدران الصمت السرمدي..
ما أبغض الظلام عندما يقبع فوق مشاعر البشر و يحيلهم الى كتل ركام أو ضفاف جليد.
خرجت ليلى الى أزقة المدينة النائمة و هي تحمل أوجاعها بين كتفيها و تحضن دموعها بين مآقيها ..
بصرها ذاهل و يحملق وسط هذا الليل البغيض الذي بدأ للتو.
تركت هناك في البيت عقلها و فلذة كبدها –مجيد- و تبددت كغمامة صيف بين دروب التيه و ساحات البلدة و حاراتها..
ران صمت ثقيل على التضاريس و الأماكن و الأشياء و تلاشى ضجيج النهار الى اشعار آخر.
بعض الجراء هنا و هناك كانت تئن و تعوي تحت سياط الجوع و لسع البرد القارس..
وحيدة ليلى وسط أمواج الخوف و التردد و الوجع..تجوب الأرصفة المقفرة مثل بائعات الهوى.
عفوا...لم تكن ليلى فتاة هوى أو بائعة عشق و لذة. بل هي أم مفجوعة خرجت تلتمس الدواء لرضيعها – مجيد -.
لقد همس لها الطبيب في يأس و مرارة ذات مرة :
( رضيعك سيدتي يعيش برئة واحدة و سوف يتعرض لنوبة الربو بسبب البرد ).
منذ عام أو يزيد وصلتها رسالة من زوجها العربيد عن طريق المحامي :
( ليلى أنت طالق و قريبا سوف أمضي في اجراءات النفقة. سليم ).
لكن النفقة الزهيدة تتضاءل مع الأيام و خيم الفقر على يوميات الزوجة الجريحة بعد أن باعت ما لديها من مصاغ ( أو بقايا مصاغ)..
في تلك الشهور القاتلة جابهت المرأة الشابة وحوشا آدمية و كلابا جائعة راودتها عن نفسها مرات كثيرة.
(دق...دق...دق...) تسارع نبضها المرهف و أطلقت الخطى و هي تبحث عن صيدلية مفتوحة لكن لا حياة لمن تنادي.
اجترت ليلى آلامها و أشجانها في خضوع و يأس..رياح جليدية جثمت فوق شرايينها و شعرت أن الدورة الدموية تصلبت تحت بشرتها ناصعة البياض...
ما أسوأ الشتاء و الفاقة حين ينهشان فرحة البسطاء في هذا اليوم من شهر كانون الثاني.
كانت ليلى شابة حسناء يوم اقترنت بسليم..في سبيله أعلنت حربا شعواء ضد والدها و جيرانها و أقاربها.
و كانت تقول في صرامة:
( سأحارب الكرة الأرضية كلها من أجل سليم..أنا أحبه الى آخر نبض في حياتي).
و تم الزواج بسرعة البرق بعد جبال من المتاعب و المصاعب..و أنجبا وليدا بهي الطلعة.
انغمس العريس لاحقا في معاقرة الخمر و رفاق السوء و السكارى.
كان يواظب على لطم زوجته قائلا بصوت كريه:
(سوف ألقي بك الى الشارع أيتها العاهرة ).
كل الصيدليات و العيادات كانت مقفلة و لا سبيل الى الظفر بدواء للرضيع الموبوء..
حملتها قدماها المتجمدتان الى زقاق يغمره ضوء خافت و خجول. تتواثب هنا قطط متسولة تبحث عن الدفء.
انتصبت ليلى أخيرا قبالة فيلا فاخرة ملبسة بقطع الرخام من جميع الواجهات و بجانبها حديقة غناء يتوسطها مسبح فسيح..
على سياج الفيلا علقوا لافتة مكتوبة بخط أنيق:
(نبحث عن كلية رجل أو امرأة بالغين لقاء ثمن سخي. رجاء اتصلوا على رقم الموبايل ..........مع تشكراتنا الخالصة ).
التعديل الأخير تم بواسطة أبو المجد مصطفى ; 11-09-2020 الساعة 05:02 PM