إمرأة على موعد مع عرقوب
08-11-2012, 08:15 PM
في لحظة من لحظات العمر اللاهث لا نجد سوى الفرار مركبا نمتطيه هربا من متاعب الدهر.
في لحظة من لحظات العمر لا نجد سوى الظلام لنتوارى خلف جدرانه هربا من واقع يرفض كل حلم نراه جميلا.
ما زلت اذكر ذلك المساء الحزين حين بدت لي كعصفور بلله قطر المطر، جاءت تلتمس بعضا من الدفء في ثنايا روحي العليلة كانت مهزومة، مكسورة الجناح والوجدان، شاكية من لوعة الجراح، تبحث عن مأمن يأويها، بريئة جرها الألم لأن تصبح في مخالب الشرود، سفرية أخذت بها حيث اللا استقرار واللاسكون .
تتدفق من ثغرها نسائم العبير الثملى، تبدو كالنجم الشريد الذي يبحث عن ثناياه وعن ليل جديد في كبد السماء وعن ومض ينير الظلام وعن أمل يهدم الحصار.
تبدوا كفراشة الربيع تنتظر من يزيح عنها رتابة الأيام ويطلق سراحها من يداوي أوجاع هذا القلب العليل.
هي امرأة ككل النساء تبحث دوما عن قلب صادق يمنحها الحب والحنان.
لقد اعتادت أن تزور هذا المكان، تأخذ نفس الركن ونفس الطاولة، اعتاد الكل أن يراها في زاويتها الخاصة، أصبح لوجودها رباط بين رواد هذا المنتجع السياحي، كان الكل ينظر إليها باستغراب يسأل عن هويتها وعن طبعها.
جلست أنا هناك ارقب حزنها المتواري خلف أحلام متناثرة وفي جوفي ألف سؤال وسؤال.
لماذا هي على الدوام هنا؟ لماذا تأتي في نفس الموعد؟ لماذا تغادر في نفس الموعد؟ .
كنت أكثر المتواجدين فضولا، اقتربت منها، كانت سابحة في السماء من أقصاها إلى أقصاها، ترفرف كطائر طليق شارد عن سربه.
ألقيت التحية .. نظرت إلى الأفق البعيد نظرة تائه وهامت بسحر عيونها تمخر عباب السماء ثم غادرت المكان.
تعدو الفصول تجر بعضها البعض في سفر طويل، مازال كل شيء يراوح مكانه.
حدث ذات أمسية أن هبت ريح عاتية فجأة وعم الغمام كل شيء وأطلقت السماء العنان لحبات البرد وزخات المطر .
انتفض الجميع جريا، يهرولون إلى أي مكان، بقيت هي في مكانها هائمة في دهاليز الحيرة والهيام، دنوت منها .. سيدتي إن النوة شديدة وأنت مبللة هيا لترحلي فلقد غادر الجميع.
ضحكت ضحكة ندية كأغصان الياسمين وقامت، ولأن المطر كان غزيرا، قبلت الذهاب معي بالسيارة.
على امتداد الطريق، تنهدت تنهيدة ثم قالت إيه .. يضيق الأفق حين يدبر ضوء القمر وقد يتيه منك الطريق.
ثم غابت شاردة وعادت قائلة: لقد كان يحب لمطر.. ورددت( حبيبتي والمطر) أخاف أن تمطر الدنيا ولست معي، فمنذ رحلت وعندي عقدة المطر.
نظرت إليها قائلا: أتحبين شعر نزار؟
قالت: لكل امرأة نزارها.
ثم كررت قولها، نعم كان يحب زخات المطر ويعشق الحشيش الأخضر.. كان صوته يشدو رقراقا كهمس الغسق، كان مثل الطبيعة نقيا طاهرا يعبق أريجا.
نظرت إليها باستغراب ثم سألتها:
عن من تتحدثين؟ ومن أنت؟
قالت: أما تدري؟ أنا قلب يحترق ويشقى حتى يسعد من حوله.
ثم واصلت: أنا لست أنا نفسي ليست نفسي، تحيا لغيري فلا تعجب سيدي من فلسفتي.
غابت شاردة قليلا: نظرت إليها، تملأ مقلتيها الدموع،ربما هي ترجمان لأحاسيس الشوق والحنين أو البعد والجفاء .
بصوت رخيم ينبع من صدر عشعش فيه ركام الحزن قالت: عاد الثائرون، حل الغائبون ولم يعد هو؟.
كان ومضي في سحر المرايا، كان سحرا في عمق الحكايا، حلت مواسم الغزل ولم يعد. عادت مراكب الأمل أما مركبه فخرقتها مسامير الألم ولم تعد.
فهمت منها بعد وقت بأنها رفضت دورها في مسرحية الرياء وانسحبت بكل كبرياء وفضلت أن تُقتل على أن تَقتل نفسا واحدة. وهي التي أحبت كل الأنفس و احتضنت كل الصدور.
حدثتني: سيدي أرفض أن أزرع الشوك في لب الرحيق.
قلت: أهو حب أزلي وعشقا جاريا بداخلك؟
في لحظة غبن حاصرتها الدموع.. قالت: إنه لا يعرف السكون، ولأن الوعد جميل في القلب يكبر مثل البراعم، مثل النداء يرفع كالأذان في السماء..
بعدها انهارت لتصبح عيونها نهرا من الدموع المتدفقة كالسيل الجارف.
عدت ليلتها أحمل في ذهني عنوانا لامرأة تبحث عن بداية وعن موعد، امرأة بداخلها قصص مملوءة بالحديث، محاطة بكثير من الغموض .. بنت حولها حصون من الوحدة الصماء وعزفت بداخلها سيمفونية من الآهات والأحزان.
تنظر فيالق من الحنين قد تأتي ذات يوم، امرأة انعزلت في دير جلالها متعبدة في محراب فؤادها. تتمنى أن يرسمها حلما، وشما على رمال الفيافي ويجعل منها عنوانا للقوافي، لم تكن امرأة تعيش نزوة حب ولد ليموت في المهد بعد أن يرتوي من نبعها أياً كان.
بل أدركت بأنها امتدادا لروح ظمئة تنتظر حبا غائبا يعود ليصلي لها صلاة الناسك الباحث عن سر الليالي.
تنتظر رجلا أحبته يعود ليفجر كامل ثوراتها الساكنة ويلهبها ويطفئ شوق التلاقي الذي يسكنها بين الفينة و الأخرى، تنتظر من يطوقها بخصر، من يعانقها بقوامه.
لكن عرقوبا تأخر وربما لن يأتي أبدا!