الطاهر وطار: رواية عشاق بية للحبيب السالمي
12-04-2009, 09:16 PM
قراءة مهنية

رواية عشاق بية للحبيب السالمي

2009.04.12
بقلم: الطاهر وطار

الطاهر وطار
عمار مرياش الشاعر الجزائري مهووس باكتشاف العادي، حتى أن له قصيدا جميلا بهذا العنوان، وكأنما يريد أن يقول، دهم قطار لبقرة في غير الهند أمر عاد جدا، لا تهتم به وسائل الإعلام، حتى وإن كانت البقرة الوحيدة لصاحبها، أما بقرة الهند فكارثة تثير الانتباه، حتى وإن لم تكن ملكا لأحد.


ويبدو لي أن الروائي التونسي المقتدر، اختار عن وعي وعن تحد هذه الإستراتيجية الخطيرة، ذات الحدين.. فخلال روايته ذات التسعة والعشرين لوحة يتراوح عدد صفحاتها بين التسعة والسبعة، بمعدل ألف وخمسمائة وألف وستمائة كلمة تقريبا، لكل لوحة. (وقد همتني هذه المعلومة، لأنها ربما تشير إلى أن صاحبنا ينجز عمله خلال نفس واحد، مما يضفي الصفاء ووحدة الجو، سواء على المفردات والجمل أو على الفقرات وحركات الصور، كما لو أننا أمام إنجاز كاميرا تعطينا تفاصيل ودقائق كل ما هو موجود. وقد لعب الفعل المضارع )كما عند صنع الله إبراهيم) المسيطر كلية على النص دور الدليل الذي يلح عليك بأن تنظر، ولا تفوت اللقطة. فتشعر أحيانا بضيق من هذا الإلحاح الذي يفسد لذة الاستغراق والمعايشة.. مهما كان الأمر، فللفعل الماضي سحر إشراك المتلقي في التأليف... لم أجد سوى بضع فقرات تبدأ بالفعل الماضي وهذا عندما يتعلق الأمر بذكر أحدهم لواقعة جرت في ما مضي)!
لغة الرواية، ولا أقول لغة السالمي، أقرب ما تكون إلى لغة همنغواي، المفردة كالرصاصة، تؤدي الدور المقدر لها، بدون بهارات، وتزويق وما إلى ذلك، مما يشوش على القارئ، ويوزع ذهنه بين الحركة وبين المفردة التي تقدمها، عكس ما يذهب إليه البعض من الروائيين بزعم لذة النص، أو شعرية اللغة، وما إلى ذلك من الترهات.

الإنشاء إنشاء، والرواية رواية.
قلت خلال روايته هذه، كل الناس كل الكائنات بما فيها العقارب عادية، وتافهة، حتى، تكاد تدون مسطحة، أبعادها محدودة، إن لم تكن منعدمة، (وقد عمد الكاتب إلى ذلك ما من شك.)
الأصدقاء الأربعة، عشاق بية، وعشاق زيتونة الكلب (سميت كذلك لأنها تضم رفاة كلاب البرني، ولو كان الأمر لي لأسميتها زيتونة الكلاب لأدمج الأصدقاء الأربعة في شخصية واحدة، ما دامت لا تتميز عن بعضها بالشيء الكثير، وما دامت رائحة بية الهجالة اللقسة تغويهم) حيث لا يصبرون عنها (الزيتونة) يوما واحدا.
يشتركون في البعد الفيزيولوجي، فهم تجاوزوا السبعين، ويعاني كل واحد منهم مرضه المعروف كما هو الشأن بالنسبة لمحمود، وغير المعروف كما هو بالنسبة للآخرين، غير المبالين به، جميعا. فالأعمار بيد الله، وكل من عليها فان، ويشتركون في البعد النفسي، حيث أنهم جميعا فقدوا القدرة على ممارسة حقهم الطبيعي، كذكور، أما وضعياتهم الاجتماعية، فليست بدورها مختلفة كثيرا.
إنهم متصوفة من نوع خاص، يعشقون الله علانية، حيث يحافظون بدقة وصرامة على الصلاة في أوقاتها وينتظرون برحابة صدر الموت ويعشقون في سرهم بية الهجالة، عشقا عذريا، مهدما لكينونتهم، هم مجبرون عليه.
بية امرأة ككل النساء، ولو أن ردفها كما لمحه البرني وهي تقضي حاجتها في الخلاء يثير الشهوة والرغبة حتى في النفوس الميتة.
كل ما يميز بية ويجعلها محط أنظار العشاق هو كونها أرمل هجالة كما يكرر المؤلف، بمناسبة وبدونها، ليقنعنا بأن بية، إن هي إلا جثة جيفة، تحوم حولها نسور مهيضة الجناح، وكلاب جرباء هرمة.. حتى جاءها ابن المكي من ألمانية، فاختطفها في عرس بهيج، وعاد بها، لتأتينا أخبارها فيما بعد بأن اللعنة، وهي التي لا ذنب لها قطعت البرور والبحور ولحقتها، وها هي فريسة للضرب بالحذاء الألماني الخشن. (إن لم تكن تكذب في رسالتها، كما قال محمود الذي اتهمته بأنه بطحها أرضا حين استنجدت به ليساعدها في البئر على حمارها، وأدخل يده في هاك البقعة كما تقول ويقولون.. فعل ذلك بكل يسر نظرا إلى أنها لا تلبس الكالسون) محمود إذن لا يثق، في كلام بية، وهو أدراهم.
والغريب أن المؤلف همش كل نساء وصبايا الدوار، ولم يقدم لنا سوى زوجة العيدي الراوية على لسان بية.
حصر المؤلف، عدسة كاميرته في الهجالة، وفي عشاقها المساكين، ويذكرني بالمخرج السينمائي الإيطالي فيليني وبقصص علي الدوعاجي ومقامات محمود بيرم التونسي، إنه يتعامل مع شخوصه كما هم، دون شفقة أو رحمة، بل يبالغ أحيانا في إهانتهم. ولا يخفي وهو يصور أحدهم حقده عليه، بعضهم بسبب ذنوب أتاها في الماضي بعضهم بسبب التهاون في العلاج خوفا من لسع الإبرة.. وجميعهم بسبب عشق بية المكنون. هذا العشق الذي يتحول إلى جرم يعاقبهم عليه المؤلف شر عقاب، وبمختلف الأشكال حتى بالسخرية المرة.
لقد اتبع الكاتب هيكليا، الطريقة اللولبية، (يلف ويدور في مكان واحد، ولكن يوهمنا بأنه يتقدم إلى الأمام)، أحيانا وأحيانا، يتبع طريقة النسج بإبرة الصوف، يروح ويجيء كمن يطوف على زيتونة الكلب، التي تكاد تتحول إلى معبد كما هو الأمر في رواية الفزاعة للكوني.. ليتفقد الأحوال، ويزيدنا معلومات وأخبارا.
حاولت أن أعثر على موضوع الرواية من خلال مقدمة منطقية تهيكل العمل، كما هو الشأن عند إبراهيم الكوني حيث تنبني جل أعماله على مقولة إن التارقي يفقد تارقيته إذا ما توقف عن الرحيل واستقر، أو كما فعل أمين معلوف، في إحدى رواياته، حين يولجنا في العمل معه، عندما يعلن أن عام الثور قادم وإذا لم نعثر على الكتاب الذي يحتوي على الاسم الأعظم المائة هلكنا.
أريد أن أقول أن الطرافة هي العنصر الأقوى الذي يشد القارئ، إلى المتابعة، والاستمتاع... حتى أن الرواية تنتهي بموت محمود المسلول، وتظل مفتوحة على نهايات يستطيع كل واحد منا أن يضعها.. كأن تعود بية ذراعها في ذراع زوجها، سعيدة هنيئة، فيموت الباقون الأحياء غيظا وحسرة، ينهارون، ولربما تهجم عليهم عقارب زيتونة الكلب.
هناك مسألة لم أقتنع بها، وهي الدور الذي يلعبه العيدي أخو بية، دون حياء أو خجل أو حتى استغراب من العجائز، فهو يخبرهم بتفاصيل دقيقة عن حادثة بية ومحمود، كما يحمل إليهم رسالة بية من ألمانية، حيث تعاني من زوجها. إن العيدي يقتحم الرواية وعوالمها بدون مقدمات، أو تبريرات، وكما لو أننا نتابع رسوما متحركة حيث كل شيء ممكن ومتوفر.
أخيرا.. إن قراءتي هذه، هي قراءتي أنا، لا تلزم أحدا، ولا أزعم أنني استوفيت حق هذا العمل الجميل للحبيب السالمي.