رد: السياسة النووية الدولية وأثرها على منطقة الشرق الأوسط
12-05-2009, 08:18 PM
وعلى الرغم من مشاهد القوة العسكرية لحلف النيتو وقوات الاتحاد السوفيتي اللتان لعبتا دوراً كبيراً في التريث لاتخاذ المواقف السياسية إلا أن هناك ما هو أخطر على الاستمرار سواء كان بالنسبة إِلى الجوانب المتعلقة بالبرامج النووية أو التسليح الهجومي والدفاعي أو السيطرة على زمام الأمور في المستعمرات الغربية أو الأمن الوطني. كلها كانت مهددة بلا هوادة بالمعركة الجاسوسية التي شهدها العالم مُنْذُ الحرب العالمية الأولى. فَقَدْ أخذ هذا السلاح مكانة لائقة في الدوائر الأمنية الغربية والشرقية وبصورة مركزة وقوية مباشرة بعد نهاية عام 1946م.
وبالنظر إِلى سوء الحالة الاقتصادية والعلمية التي تعاني منها دول الاتحاد السوفيتي فَقَدْ استنفر الاتحاد السوفيتي كُلّ قواه في الجانب المخابراتي للحصول على المعلومات الخاصة بالتصنيع النووي، وتمكن من امتصاص القوة النووية الأمريكية من خلال حصوله على الوثائق الخاصة بالتصنيع النووي. هذه الوثائق التي تمكنت المخابرات السوفيتية من الحصول عليها في داخل المنظومة الأمريكية أعطت بياناً واضحاً لكيفية تصنيع القنبلة الذرية وكيفية وتكوينها.
لَقَدْ كان ما توصل إليه الاتحاد السوفيتي في الجانب النووي بفضل مخابراته النشطة، مفاجئة كبرى لأعداء اليوم المتمثلة بالولايات المتحدة الأمريكية في حينها، وحلفاء الماضي عند الحرب العالمية الثانية وقبل إن تضع أوزارها، وذلك من خلال نجاحه في إنتاج السلاح النووي، الذي بدا طريق تصنيعه صعباً لبريطانيا في ذلك الوقت (عام 1949م). فبعد هذا الإنجاز الجاسوسي الذي حققه الاتحاد السوفيتي عام 1949م انتبهت الدول الغربية إِلى ضرورة تفعيل هذا السلاح وإصلاح أجهزتها الأمنية والمخابراتية من الأخطاء التي تجعل منفذ الجاسوسية بسيطاً إليها. فلذا دعا رئيس الوزراء البريطاني في أيلول عام 1949م رئيس العلماء في وزارة الدفاع البريطانية السير فردرك براندرت Sir Frederi ck Brundrett إِلى اجتماع ضَمَّ المقدم مالكوم كيمنك Colonel Malcolm Cumming ممثلاً عن الـ: MI5 وبيتر دكسن Peter Dixon ممثلاً عن الـ: MI6 والسير برسي سيليوت Sir Percy Sillitoe رئيس مكتب الأمن الوطني البريطاني، إضافة إِلى بعض العلماء البريطانيين. وفي الاجتماع المذكور أعلاه انتفض براندرت وبدون مقدمات تذكر معبراً بما يلي:
"سادتي: أنَّه حقّاً بات واضح لنا جداً، حسبما اعتقد، نحن الآن في منتصف الحرب مُنْذُ أحداث برلين في العام الماضي. الروس حاصروا برلين، والنقل الجوي الغربي مستمر حَتَّى يصل مستوى تعزيزاتنا العسكرية، لذا ينبغي إن تكون لنا حالة من البناء تعطينا القدرة والثقة في الدفاع عن أوربا الغربية من التهديد الروسي". ثُمّ استطرد قائلاً (70):
"سيكون القتال في هذه الحرب بواسطة الجواسيس وليس العسكر المسلح، على الأقل في السنوات القليلة القادمة. لَقَدْ أصبح عملياً من الصعب تجنيد العملاء بنجاح خلف الستارة الحديدية وذلك للخبرة الكبيرة والأداء الملفت للنظر للمخابرات السوفيتية وحلفائها من المعسكر الشرقي، فلذا يجب علينا أن نستعين بالخبراء والفنيين لمواجهة العمليات المخابراتية السوفيتية".
في خطاب براندرت، تَمَّ أحياء عملية بارتي بيس Party Piece التي شكلت عام 1938م لمراقبة الحزب الشيوعي البريطاني. إيماناً من المخابرات البريطانية بان أعضاء الحزب الشيوعي البريطاني لهم دور كبير في العمليات التجسسية لصالح الاتحاد السوفيتي. كما قام قسم آخر في وكالة المخابرات البريطانية بتصميم الأجهزة الخاصة التي تمكنهم من مراقبة تحركات الدبلوماسيين السوفيت وحلفائهم. وكانت هناك عمليات تنصت ومراقبة فنية لا نود التطرق إليها بل سوف نتطرق إليها في بحثنا القادم أن شاء الله حول "الحرب الجاسوسية ما بين الغرب والشرق"، ولكن لكي يستكمل بحثنا هذا جوانبه الأكاديمية الكاملة سوف نتطرق إِلى دور المخابرات البريطانية في كشف فصائل الجواسيس ولو باختصار.
فكما ذكرنا استناداً إِلى خطاب براندرت تَمَّ انتخاب العسكري المتمرس هيو ونتربورن Hugh Winterborn لمراقبة تحركات الحزب الشيوعي الذي كما كانت تعتقد المخابرات البريطانية لأعضائه دور كبير في نجاح المخابرات السوفيتية بتجنيد الجواسيس لصالحهم. لَقَدْ كانت كُلّ من الـ: MI5 والـ: MI6 على قناعة تامة من أن الحزب الشيوعي البريطاني قَدْ نقل معلومات هامة إِلى وكالة المخابرات السوفيتية لها علاقة بالتسليح والإنتاج النووي. ولم يكن هذا الإصرار غريباً إذ ما علمنا وكما ذكرنا مسبقاً أن بريطانيا بأجهزتها السياسية والمخابراتية قَدْ سهلت وصول مثل هذه المعلومات إِلى الاتحاد السوفيتي في فترة ما قبل إعلان الاتحاد السوفيتي امتلاكه للسلاح النووي وتهديد برلين وأوربا الغربية. وهو ما أوجد أرضية خصبة للمخابرات السوفيتية للعمل داخل بريطانيا منطلقة من تلك الأراضي لمراقبة الدول الأوربية الأخرى والولايات المتحدة الأمريكية.
خصوصاً بعد دخول تلك الدول في حلف النيتو العسكري والذي أجبرهم على الدخول في اتفاقيات أمنية ومخابراتية وصلت حدّ تبادل الملفات والآراء والتوجهات والنشاطات في بقاع العالم المتناثرة. فكانت إحدى توجهات ونتربورن هو زرع بعض عناصر طاقم العملية المخابراتية البريطانية السرية في عناصر الحزب الشيوعي البريطاني دون الاعتماد على فترة زمنية مسبقة. وبالفعل فلم تطول السنين حَتَّى تمكن أعوانه من معرفة مكان تخزين ملفات الحزب الشيوعي البريطاني السرية الخاصة بالأعضاء ونشاط الحزب، والتي كانت مخبأة في مسكن أحد أعضاء الحزب الشيوعي البريطاني الأغنياء في المي فير Mayfair. هذه المعلومات المؤكدة جعلت من ونتربورن أن يستنجد بالقسم A2 التابع للـ: MI6 للقيام بعملية اقتحام الشقة المذكورة وبدون معرفة أصحابها بحثاً عن الملفات. كما طلب مراقبة الشقة المذكورة وهواتفها ورسائلها. وبالفعل فَقَدْ داهم عناصر A2 المبنى بسرية تامة وتمكنوا من تصوير جميع الملفات التي قدرت بحوالي 55000 ملف سري. وَتَمَّ نقلها إِلى ونتربورن في مركزه بليكون فيلد Leconfield للإبقاء على سرية الملفات ريثما يتمكنوا من فحص المعلومات التي احتوتها وتحديد مدى خطورتها على بريطانيا.
كانت تلك الملفات غنية جداً بما حوتها من معلومات قيمة عن أعضاء الحزب الشيوعي البريطاني بدءاً من المعلومات الشخصية وانتهاء بالأمنيات والأسباب التي دعتهم للانتماء. كما حوت على معلومات لها علاقة بأنشطة الأعضاء وتشكيلهم الحزبي وعلاقتهم مَعَ الاتحاد السوفيتي ودور كُلّ منهم في خدمة الشيوعية العالمية. وعلاوة على هذه المعلومات فَقَدْ تمكن ونتربورن وزملائه من حصر أسماء من هُمْ يميلون للانتماء للحزب الشيوعي البريطاني وذلك من خلال الدراسة المستفيضة لِكُلِّ ما جاء في بيانات تلك الملفات. مما سهل على المخابرات البريطانية من الاتصال بهؤلاء وتجنيد بعضهم للعمل لحساب المخابرات البريطانية بعد انتمائهم للحزب الشيوعي. وتمكن وتربورن ليس من مراقبة نشاط الحزب الشيوعي البريطاني وتحركه فحسب، بل أعطته تلك الملفات معلومات عن عناصر الحزب المتوغلين في حزب العمال البريطاني واتحاد الصناعات البريطاني وشرائح الدولة البريطانية الوظيفية والمخابراتية والعسكرية. مما سهل عليهم رصد تحركات الكثير منهم وإقصائهم من وظائفهم بعد أن تبين لبعضهم علاقة مَعَ المخابرات السوفيتية بصورة غير مباشرة من خلال انتمائهم للحزب الشيوعي. وَمَعَ هذا العمل المتنامي تمكن ونتربورن من كشف بعض الجواسيس المؤثرين والذين هُمْ أعضاء بالحزب الشيوعي البريطاني كأمثال كأيّ بيركس Guy Francis Demoncy Burgess الموظف التنفيذي لوزارة الخارجية البريطانية ودونلد ماكلين Donald Maclean الدبلوماسي البريطاني وعضو الارتباط المخابراتي مَعَ الـ: MI6 وكم فليبي Kim Philby الدبلوماسي البريطاني والمخابراتي الأقدم في الـ: MI5 وروجر هولز Roger Hollis الذي شغل منصب رئيس الـ: MI5 أعوام (80,70). كما يبدو إن هناك الكثير من المسؤولين البريطانيين الذين تمكن الاتحاد السوفيتي من تجنيدهم داخل المؤسسة السياسية إلا إنّهم لم يكونوا فاعلين بالدرجة التي كان بها من ذكرناهم أعلاه.
ما أن طل عام 1955م حَتَّى تمكن ونتربورن من تحديد وتحجيم ومعرفة كُلّ بسيطة حول أيّ نشاط لأيّ عضو في تنظيم الحزب الشيوعي البريطاني. كما ساعد احتلال الاتحاد السوفيتي لهنغاريا عام 1956م على فِقْدان الحزب الشيوعي شعبيته في الشارع البريطاني. وَمَعَ النجاح الذي حققته المخابرات البريطانية إلا أن الصراع الجاسوسي استمرّ بين البلدين في العقود الأخرى ولكن ما حققه ونتربورن مكن المخابرات البريطانية من دخول نادي الجواسيس الدولي والذي من خلاله تَمَّ الوصول إِلى داخل المؤسسات الأمنية السوفيتية للاستفادة من المعلومات المستقاة منهم. وهو بلا شكّ ما خدم الغرب ونتج عنه هدم المنظومة الاشتراكية والسوفيتية على أيدي قادتهم. ولرب سائل يسأل أو معترض يعترض على ما نقول فلذا فأننا نرى وجوب تخيل ماذا سيكون لو لم تكتشف المخابرات البريطانية كيم فليبي عام 1963م والسير أنتوني بلاينت عام 1979م والسير روجر هولز وَكُلّ منهم كان له كلمة في توجيه القرار سواء كان عسكرياً أم أمنياً أو سياسياً.
فعملية الاكتشاف لهؤلاء سهل عدم الوصول إِلى مبدأ التشنج السياسي الذي يودي بالحالة إِلى إعلان الحرب وتدمير ما تَمَّ تشيده بعد الحرب العالمية الثانية. ولعل الصراع الجاسوسي الغربي السوفيتي لعب دوراً كبيراً في الحرب الباردة التي جعلت المواجهة مواجهة معلوماتية لبسط النفوذ بدلاً من إن تكون عسكرية للسيطرة على المناطق الدولية الاستراتيجية.
لم تنتهِ الصراعات ما بين الغرب والاتحاد السوفيتي بل لم يصاحبها البرود قَطّ، وإنَّما بدأت تزداد يوماً بعد يوم بدءاً من انتهاء الحرب العالمية الثانية وحَتَّى بلوغ أوجها في منتصف ونهاية الخمسينات. وبدأ الشموخ السوفيتي يعلو ويزدهر في منطقة الشرق الأوسط وتمكنت المخابرات الروسية من أيجاد أرضية لا بأس بها في إيران مَعَ بداية الخمسينات. والتي توجت أعمالها بانقلاب مصدق الذي أطاح بحكم بهلوي. ولولا تدخّل المخابرات الأمريكية مباشرة لإعادة بهلوي لبقي المَدّ السوفيتي في إيران. وكانت حالة عدم الاكتفاء المزمن عند المخابرات السوفيتية هي أساس النجاح، ففشلها بإيران وإبقاء الأخيرة ساحة غربية جعلها تبحث عن خيوط أخرى لتمد خطوطها، مستفيدة من أيّ موقف متأزم أو أية فجوة داخلية في بلد حليف للغرب. فما أن تأزم الأمر أكثر بين الأتراك والأكراد في تركيا حَتَّى راح السوفيت يأخذ دوره معهم، فجندت العديد من قادة الأكراد ودربت ميليشياتهم في الاتحاد السوفيتي للوقوف بوجه الحكم التركي. الذي يعتبر ركيزة أساسية للحلف الغربي الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط.
ومما زاد الأمور أكثر ريبة عند الأمريكان والغرب هو اكتشاف عدد من الإسرائيليين السوفيتي الأصل يعملون كجواسيس للاتحاد السوفيتي. وكان من بينهم مدير مكتب وزير الدفاع الإسرائيلي بن كوريون الذي زود الاتحاد السوفيتي بكافة المعلومات الخاصة بالمشروع النووي الأمريكي البريطاني المشترك المزمع أقامته في إسرائيل (70,72,73). كُلّ هذه الأمور جعلت الارتباك يدب في نفوس منتسبي وكالات المخابرات الغربية التي باتت مصالحها في الشرق الأوسط مهددة نتيجة لنشاط الاتحاد السوفيتي في مرحلة الخمسينات. والذي تمخض بدخولهم علناً من بوابة مصر التي عانت من التزمّت الغربي القابض للأنفاس. والذي لم يحله الهجوم الثلاثي عام 1956م، بل زاد الأمور تأزماً وجعل من الاتحاد السوفيتي الأمل الحقيقي والمنقذ الملهم للمستعبدين من الاستعباد الغربي. ونتيجة لتلك الهواجس التي لا تتوقف، استنفرت المخابرات الغربية كُلّ قواها خلال مرحلة أزمة القناة لإبعاد الدول العربية والإسلامية المتعاطفة مَعَ مصر للخروج من اللعبة.
فتارة بواسطة الضغط على الحكومات كما حدث مَعَ العربية السعودية والعراق والأردن، وَمَرَة بتجنيد عملائها المندسين في قيادات الأحزاب المسماة بالوطنية والقومية كما حدث في سوريا. حَيْثُ لعب أكرم الحوراني ونديم البيطار وميشيل عفلق دوراً كبيراً بتوجيه الشعب العربي السوري، وإقناعه بضرورة الوقوف بوجه الأعداء القادمون من إسرائيل لغزو سوريا بعد الانتهاء من الانقضاض على مصر، والواجب علينا الدفاع عن سوريا وترك مصر للمصريين الدفاع عن أرضهم. مما دفع الشعب العربي السوري وبلا غرابة يشدّ الأزر لحماية أراضيه السورية ومسانداً مصر بعواطفه وشموخه. في الوقت الذي كانت الجموع الثائرة مصممة على التطوع للاستشهاد على أرض مصر، تمكن الحوراني ورفاقه من إدارة الكفة وامتصاص النقمة الشعبية على الغرب بالإيحاء من خلال الخطب الرنانة الخبيثة المبطنة بان الضربة ستكون مما لا شكّ فيه موجهة لسوريا وليس مصر. متذرعاً بتهديد ما يسمى بحلف بغداد وبالتالي ضمن الغرب انفراد مصر بشرياً وعسكرياً للوقوف بوجه العدوان الثلاثي عام 1956م (70).
لَقَدْ حقق الحوراني وميشيل عفلق أول مخططات العزل العربي القطري الذي أراده الغرب من خلال تشطير القضية العربية وتحديد بعدها الاستراتيجي، نحو قيام كيان شرق أوسطي وليس عربي. وهو ما كانت تراهن عليه الولايات المتحدة الأمريكية لعدة أسباب. أولاهما عدم تمكن العرب من إن يكونوا كتلة سياسية وبشرية واقتصادية مناهضة في المستقبل. وثانيهما الحَدّ من التوغل السوفيتي إِلى المنطقة من خلال دعم القضية العربية شمولياً. وثالثهما تنفيذ المخطط الذي يمكن من خلاله دمج إسرائيل في المنطقة وإلغاء المفهوم العربي وإبداله بالمفهوم الشرق أوسطي.
فحسابات المخابرات البريطانية وأعوانها كانت توحي بأن الحسم سيكون بالعدوان على مصر، وإن إسرائيل سوف تدخل المنطقة كقوة استراتيجية قوية يمكن الاعتماد عليها في المستقبل. لكن تلك التكهنات ما فتئت أن فشلت مرحلياً وتبين إن شعوب العالم مصرة على استنكار الهجوم على مصر. مما عزز مكانة الشعب العربي في كُلّ مكان وباتت الانتفاضات ذات الشعور الوطني تنطلق هنا وهناك غير قادر حلف بغداد ولا غيره على ردعها. مرغمة قادة الأحزاب في بلادهم لاتخاذ موقف وطني موحد ضدّ الاستعمار والمستعمر فكانت الوحدة العربية ما بين سوريا ومصر الذي هتفت لها الجموع وأصبحت حقيقة رغم كُلّ الميول والاتجاهات التي يكنها البعض. وتوالت الانقلابات العسكرية ضدّ الاستعمار البريطاني وتنشطت الثورة الجزائرية وأخذ البعد الفلسطيني مفهوماً استراتيجياً آخر في التفكير العربي السياسي مرغماً.
وخوفاً من السقوط الجماهيري الذي لا رجعة فيه راح الكثير ممن لا يؤمن بمفهوم الوحدة العربية يؤيدونها، حَتَّى لا تنحسر أحزابهم جماهيرياً. غير مبالين من النتائج لاطمئنانهم من مساندة المخابرات الأمريكية والبريطانية لهم للانقضاض على تجربة الوحدة الجماهيرية سواء كان ذلك عاجلاً أم أجلاً (70,72,73). واستمرّت الانتكاسات الغربية في المنطقة العربية الواحدة تلو الأخرى من خلال تبني الاتحاد السوفيتي مبدأ تحرير الشعوب وريادة عبد الناصر ليس للمنطقة العربية وحدها بل دول العالم الأخرى التي ترضخ تحت الاستعمار. وبينما كان الشعب العربي في مصر وسوريا يهتز له كُلّ طرف للوحدة العربية والخيبة والانكسار يدب في وجه الغرب وأعوانهم، راح العراق معلناً ثورته التي أطاحت بكل طامع وكسرت كُلّ هياكل الاستعباد المتمثلة بحلف بغداد. مما جعل الغرب يتأكد من زوال مصالحه إذ لم يتخذ أية سياسة تجاه المنطقة التي أوعز اندلاعها لقوة الجبروت السوفيتي فيها.
كان لابُدَ للغرب من أن يبدأ التخطيط لسياسة جديدة في المنطقة العربية خاصة والشرق الأوسط عامة، تكون مبنية على أسس تضمن النفوذ الغربي في المنطقة وتحارب الامتداد السوفيتي من التحرك أبعد مما ينبغي أن تكون حدود نفوذه، خصوصاً بعد أن تبين إن الاتحاد السوفيتي، على الرغم من دعمه لمصر عسكرياً وثقافياً وتكنولوجياً لا يرغب بالوحدة العربية. إذ أن الاتحاد السوفيتي وضمن المنظور الشيوعي يؤمن بالأممية وقيام الوحدة ما بين وسورية ومصر لا يعزز الأهداف المرسومة. لكن الاتحاد السوفيتي على الرغم من آرائه تلك وانحسار ضوء الحزب الشيوعي في كلا البلدين لم يعرف أنَّه ناهض وأراد قمع الوحدة العربية، بل استمرّ في دعمه لمصر وسورية وبدأ يخطط لمنع دخول أية دولة عربية أخرى للجمهورية العربية المتحدة.
كانت الخطوة الأولى لبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وبعض من حلفائها لإيجاد إستراتيجية جديدة للمنطقة العربية بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة والثورة العراقية، هو التخطيط لدراسة واقع الشرق الأوسط. فبعد فشل حلف بغداد كان لابُدَ من تحديد مكامن ضعف السياسة الغربية في المنطقة العربية، ومن أجل دراسة جدوى التخطيط السياسي الجديد فَقَدْ انتخب في الثاني من آب عام 1958م البروفيسور دي دبليو بروكن Professor D. W. Brogan لهذه المهمة (81)، والتي سوف نرى من خلالها كيف رسم الغرب ملامح وصفات الحكم والعاملين عليه في الشرق الأوسط وخاصة المنطقة العربية، لما يضمن مساراً سلساً للمخططات المستقبلية للغرب. وعليه، فمهمة البروفيسور بروكن لم تكن مجرد توصيات أَو حَلّ لمشكلة بسيطة يراد الخلاص منها تكتيكياً بقدر ما هي رسم لواقع المستقبل في المنطقة وكيفية تنفيذ التوصيات، بعد إن يتم دراسة واقع المنطقة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإيجاد الثغرات المهمة التي من خلالها يمكن الدخول إِلى المنطقة بصورة سرية تضمن مصالح الغرب لنصف القرن القادم.
وهنا لابُدَ إن ننوه إِلى مسألة مهمة جداً اتسمت لنا من خلال مراجعة دراسة البروفيسور بروكن والتي تتضمن حقيقة مرة وهي إن الغرب للحفاظ على مصالحه يحاول دائماً مراقبة مناطقنا عن كثب ويوجد الدراسات الإستراتيجية نحوها ويطبقها ضمن ما يضمن بقاءه فيها، حَتَّى ولو كانت النتيجة إبادة شعب بالكامل. وهو ما حدث فعلاً للعراق من خلال الحروب التي زجّ بها بغباء دكتاتوريته التي حكمته بأوامر الأسياد في الغرب والولايات المتحدة الأمريكية.
6.1 إعادة تقييم السياسة الأوربية للمنطقة العربية
لم تكن مهمة البروفيسور بروكن سهلة، بل صعبة وحساسة للغاية وذلك لأن اجتماع الحلفاء الأوربيين المزمع عقده في السابع من أيلول عام 1958م في برسل سوف يعتمد على دراسته وعلى ما سوف تحتويه من معلومات وإيضاحات لأسباب التخبط الغربي في المنطقة العربية. فلذا قَدْ حرص بروكن على دراسة كُلّ الجوانب المتعلقة بالمنطقة العربية دون إسقاط أيا منها، بانيا دراسته على الأسس المعنوية والثقافية والاقتصادية والسياسية والعسكرية وذلك لكي يصل إِلى تقييم حقيقي للواقع الغربي وأثره في المنطقة، وليتمكن من خلاله وضع الحلول المناسبة لِحَلّ تلك المسألة التي باتت شائكة ومعقدة، وتنذر بخروج السيطرة الغربية تدريجياً من المنطقة العربية وربما الاتحاد السوفيتي إذ ما قُدر للوحدة العربية أن تكبر فتصبح معسكراً بذاته ينافس المعسكرين الرئيسيين في العالم (70,81)، خاصة وإن كُلّ مستلزمات ومقومات الدولة الكبرى يمكن أن تكون في اتحاد الجانب الشرقي من المنطقة العربية.
فبروكن بدأ دراسته وتقييمه للموقف ضمن عناوين مهمة يمكن إجمالها في السطور التالية من هذا البحث. والتي نعتبرها من الدراسات المهمة العاملة على تقييم الموقف ليس في تلك المرحلة بالذات بل لربما مازالت تلك الدراسة ونتائجها تعتبر أساساً لإدامة السيطرة على المنطقة العربية، إذ ما تمكنا من حَلّ ألغاز ما يحدث في أيامنا هذه.
أولاً: الجانب المعنوي
معنوياً يرى بروكن، أن الشعب العربي وبصورة عامة بدأ تَماماً يَفْقِدُ ثقته بالغرب، وذلك من خلال تمثيله بالإمبريالية المتسلطة المستعبدة لشعوب العالم تحت ذريعة الحماية من الانتقام السوفيتي. ومن خلال دراسته الميدانية للمنطقة العربية بالذات، لاحظ بروكن عند العرب نضج وضوح صورة التطرف الغربي الداعي إِلى الانتقام المثير للحروب بين الدول، غير مكترث من الحرب النووية التي قَدْ باتت تهدد السلام العالمي. ثُمّ يبين أنَّه لم يكن البغض للغرب قَدْ جاء من فراغ، بل نابع من الأحداث المتتالية التي بدا فيها الغرب صاحب اليد العليا للضرب والانقضاض على الشعوب مثل ما حدث في فلسطين والجزائر وقناة السويس وكينيا وقبرص وكوريا وغيرها من دول العالم. كُلّ هذه الأمور يرى بروكن قَدْ جعلت من الشعب العربي يتعاطف مَعَ الاتحاد السوفيتي ضدّ الغرب والولايات المتحدة الأمريكية. وهو ما جعل الوضع بالنسبة لهم في المنطقة العربية في موقع ضعيف وهزيل فاقد الثقة ويُتهم بالجبروت والخداع، وهي حالة لم يعهد عليها مُنْذُ قرن ونصف (81).
ثانياً: الجانب الثقافي
ويبدو حسب تعبير بروكن أن للغرب في هذا المضمار معاناة حقيقية، فَفِي الوقت الذي كان فيه العرب يتلقون دراساتهم وتمريناتهم في دول التحالف الغربي المحتكر للتقدم العلمي بدون منازع يذكر، باتت أنظار العرب والآسيويين تتوجه إِلى الاتحاد السوفيتي الذي بهرهم بتقدمه العلمي والتكنولوجي. وأخذت الآداب والعلوم الإنسانية والتطبيقية الروسية تأخذ قيمتها الحقيقية بين العلوم الأوربية الأخرى. وهذا ما يعني أن العرب باتوا متأكدين أكثر من أيّ وقت مضى من عزل الغرب لهم في تلك الجوانب سوف لم يمنع انقطاع وصول مصادر الثقافة والعلوم عنهما حَتَّى ولو كانت بكفاءة أقل من الثقافة والعلوم الغربية. وعلى الرغم من أن الثقافة هي المصدر الوحيد الذي تمتلكه الدول الغربية دون منازع ويجب أن يستعمل كسلاح أمام أيّ منافس، فهناك صراع ثقافي ما بين الاتحاد السوفيتي والغرب لتغذية المنطقة العربية للاستحواذ عليها من خلال البرتوكولات الثقافية المعقودة مَعَ مصر. فمع مطلع عام 1957م منح الاتحاد السوفيتي لمصر ستة بروتوكولات ثقافية قدرت قيمة كُلّ منها بـ: 200 مليون دولار.
ولم يتوقف التعاون الثقافي العلمي ما بين العرب والاتحاد السوفيتي عند هذا الحَدّ فحسب، بل مَعَ نهاية تموز عام 1958م منح الاتحاد السوفيتي الجمهورية العربية المتحدة 610 بعثة دراسية علمية وتدريبية كان 300 منها في الاتحاد السوفيتي والبقية موزعة على دول المنظومة الاشتراكية الأخرى (81). وهو بالتالي يعتبر تغيراً محسوساً تجاه العرب من جانب الغرب ككتلة معادية والاتحاد السوفيتي ككتلة صديقة حليفة لمستقبل مشرق في الثقافة والعلوم والتكنولوجية والتقدم الحضاري.
ثالثاً: الجانب الاقتصادي
يعتبر العامل الاقتصادي من العوامل المهمة التي افتقدها الغرب في المنطقة العربية، فَفِي الوقت الذي ليس للعرب سوقاً غير السوق الغربية، على الأقل في العصر الحديث، نرى فجأة يبرز سوق بديل قادر على تزويدهم بالمكائن المنتجة والسلع الاستهلاكية والمواد الأولية التي يحتاجونها في بناء صناعتهم الفتية. فعلى سبيل المثال كان التبادل التجاري بين مصر والمملكة المتحدة يصل حدّ 60% سنوياً من إجمالي التعامل التجاري وانخفض في منتصف عام 1955م حَتَّى وصل عام 1956م إِلى 25%. وهذا ما يعني أن الغرب لا يمكنه محاصرة العرب اقتصادياً وهي حقيقة مرة قَدْ تؤدي إِلى تغيير كُلّ السياسات الغربية المقترحة في المنطقة حَتَّى عام 1970م (81.82,83). إن خسران الغرب لمصالحه في المنطقة له مردود اقتصادي سيئ كبير. خصوصاً بعد أن أممت القناة وألحقت المنشئات الفرنسية والبريطانية بالشركة الوطنية المصرية.
إذ يعني لا استثمار للشركات الغربية في المنطقة العربية وتكون العلاقة الاقتصادية العربية الغربية متقوقعة في مجال استخراج وتصنيع البترول والذي يُعَدّ نقطة الضعف عند الغرب، مما يجعل كفة اللعبة بيد العرب بعد أن كانت بيد الغرب. علاوة على خسران الغرب عقود تطوير وبناء المدن والتي يدخل من ضمنها تأسيس خطوط السكك الحديدية والبنايات الكبيرة والسدود ومشاريع الري والكهرباء والمعامل الإنتاجية الصغيرة والكبيرة والتي تقدر بمئات الملايين من الدولارات. فدول المعسكر الاشتراكي بدأت تقوم بتنفيذها بدلاً عن الشركات الغربية التي بعضها قَدْ انقضت العقود معها. إضافة إِلى استبدال الفنيين والخبراء الغربيين بسوفيت أو بمواطني الدول الاشتراكية الأخرى. كما بدا العرب يرفضون أية فكرة اقتصادية للتحديث في المنطقة العربية نابعة من الولايات المتحدة الأمريكية والغرب وهو ما سبب فشل مشروع ليزيز فير Laissez-Faire الاقتصادي الحرّ في الشرق الأوسط عام 1958م إذ لم يلقى تجاوبا إلا من لبنان فقط وبدفع فرنسي.
وبالنظر إِلى سوء الحالة الاقتصادية والعلمية التي تعاني منها دول الاتحاد السوفيتي فَقَدْ استنفر الاتحاد السوفيتي كُلّ قواه في الجانب المخابراتي للحصول على المعلومات الخاصة بالتصنيع النووي، وتمكن من امتصاص القوة النووية الأمريكية من خلال حصوله على الوثائق الخاصة بالتصنيع النووي. هذه الوثائق التي تمكنت المخابرات السوفيتية من الحصول عليها في داخل المنظومة الأمريكية أعطت بياناً واضحاً لكيفية تصنيع القنبلة الذرية وكيفية وتكوينها.
لَقَدْ كان ما توصل إليه الاتحاد السوفيتي في الجانب النووي بفضل مخابراته النشطة، مفاجئة كبرى لأعداء اليوم المتمثلة بالولايات المتحدة الأمريكية في حينها، وحلفاء الماضي عند الحرب العالمية الثانية وقبل إن تضع أوزارها، وذلك من خلال نجاحه في إنتاج السلاح النووي، الذي بدا طريق تصنيعه صعباً لبريطانيا في ذلك الوقت (عام 1949م). فبعد هذا الإنجاز الجاسوسي الذي حققه الاتحاد السوفيتي عام 1949م انتبهت الدول الغربية إِلى ضرورة تفعيل هذا السلاح وإصلاح أجهزتها الأمنية والمخابراتية من الأخطاء التي تجعل منفذ الجاسوسية بسيطاً إليها. فلذا دعا رئيس الوزراء البريطاني في أيلول عام 1949م رئيس العلماء في وزارة الدفاع البريطانية السير فردرك براندرت Sir Frederi ck Brundrett إِلى اجتماع ضَمَّ المقدم مالكوم كيمنك Colonel Malcolm Cumming ممثلاً عن الـ: MI5 وبيتر دكسن Peter Dixon ممثلاً عن الـ: MI6 والسير برسي سيليوت Sir Percy Sillitoe رئيس مكتب الأمن الوطني البريطاني، إضافة إِلى بعض العلماء البريطانيين. وفي الاجتماع المذكور أعلاه انتفض براندرت وبدون مقدمات تذكر معبراً بما يلي:
"سادتي: أنَّه حقّاً بات واضح لنا جداً، حسبما اعتقد، نحن الآن في منتصف الحرب مُنْذُ أحداث برلين في العام الماضي. الروس حاصروا برلين، والنقل الجوي الغربي مستمر حَتَّى يصل مستوى تعزيزاتنا العسكرية، لذا ينبغي إن تكون لنا حالة من البناء تعطينا القدرة والثقة في الدفاع عن أوربا الغربية من التهديد الروسي". ثُمّ استطرد قائلاً (70):
"سيكون القتال في هذه الحرب بواسطة الجواسيس وليس العسكر المسلح، على الأقل في السنوات القليلة القادمة. لَقَدْ أصبح عملياً من الصعب تجنيد العملاء بنجاح خلف الستارة الحديدية وذلك للخبرة الكبيرة والأداء الملفت للنظر للمخابرات السوفيتية وحلفائها من المعسكر الشرقي، فلذا يجب علينا أن نستعين بالخبراء والفنيين لمواجهة العمليات المخابراتية السوفيتية".
في خطاب براندرت، تَمَّ أحياء عملية بارتي بيس Party Piece التي شكلت عام 1938م لمراقبة الحزب الشيوعي البريطاني. إيماناً من المخابرات البريطانية بان أعضاء الحزب الشيوعي البريطاني لهم دور كبير في العمليات التجسسية لصالح الاتحاد السوفيتي. كما قام قسم آخر في وكالة المخابرات البريطانية بتصميم الأجهزة الخاصة التي تمكنهم من مراقبة تحركات الدبلوماسيين السوفيت وحلفائهم. وكانت هناك عمليات تنصت ومراقبة فنية لا نود التطرق إليها بل سوف نتطرق إليها في بحثنا القادم أن شاء الله حول "الحرب الجاسوسية ما بين الغرب والشرق"، ولكن لكي يستكمل بحثنا هذا جوانبه الأكاديمية الكاملة سوف نتطرق إِلى دور المخابرات البريطانية في كشف فصائل الجواسيس ولو باختصار.
فكما ذكرنا استناداً إِلى خطاب براندرت تَمَّ انتخاب العسكري المتمرس هيو ونتربورن Hugh Winterborn لمراقبة تحركات الحزب الشيوعي الذي كما كانت تعتقد المخابرات البريطانية لأعضائه دور كبير في نجاح المخابرات السوفيتية بتجنيد الجواسيس لصالحهم. لَقَدْ كانت كُلّ من الـ: MI5 والـ: MI6 على قناعة تامة من أن الحزب الشيوعي البريطاني قَدْ نقل معلومات هامة إِلى وكالة المخابرات السوفيتية لها علاقة بالتسليح والإنتاج النووي. ولم يكن هذا الإصرار غريباً إذ ما علمنا وكما ذكرنا مسبقاً أن بريطانيا بأجهزتها السياسية والمخابراتية قَدْ سهلت وصول مثل هذه المعلومات إِلى الاتحاد السوفيتي في فترة ما قبل إعلان الاتحاد السوفيتي امتلاكه للسلاح النووي وتهديد برلين وأوربا الغربية. وهو ما أوجد أرضية خصبة للمخابرات السوفيتية للعمل داخل بريطانيا منطلقة من تلك الأراضي لمراقبة الدول الأوربية الأخرى والولايات المتحدة الأمريكية.
خصوصاً بعد دخول تلك الدول في حلف النيتو العسكري والذي أجبرهم على الدخول في اتفاقيات أمنية ومخابراتية وصلت حدّ تبادل الملفات والآراء والتوجهات والنشاطات في بقاع العالم المتناثرة. فكانت إحدى توجهات ونتربورن هو زرع بعض عناصر طاقم العملية المخابراتية البريطانية السرية في عناصر الحزب الشيوعي البريطاني دون الاعتماد على فترة زمنية مسبقة. وبالفعل فلم تطول السنين حَتَّى تمكن أعوانه من معرفة مكان تخزين ملفات الحزب الشيوعي البريطاني السرية الخاصة بالأعضاء ونشاط الحزب، والتي كانت مخبأة في مسكن أحد أعضاء الحزب الشيوعي البريطاني الأغنياء في المي فير Mayfair. هذه المعلومات المؤكدة جعلت من ونتربورن أن يستنجد بالقسم A2 التابع للـ: MI6 للقيام بعملية اقتحام الشقة المذكورة وبدون معرفة أصحابها بحثاً عن الملفات. كما طلب مراقبة الشقة المذكورة وهواتفها ورسائلها. وبالفعل فَقَدْ داهم عناصر A2 المبنى بسرية تامة وتمكنوا من تصوير جميع الملفات التي قدرت بحوالي 55000 ملف سري. وَتَمَّ نقلها إِلى ونتربورن في مركزه بليكون فيلد Leconfield للإبقاء على سرية الملفات ريثما يتمكنوا من فحص المعلومات التي احتوتها وتحديد مدى خطورتها على بريطانيا.
كانت تلك الملفات غنية جداً بما حوتها من معلومات قيمة عن أعضاء الحزب الشيوعي البريطاني بدءاً من المعلومات الشخصية وانتهاء بالأمنيات والأسباب التي دعتهم للانتماء. كما حوت على معلومات لها علاقة بأنشطة الأعضاء وتشكيلهم الحزبي وعلاقتهم مَعَ الاتحاد السوفيتي ودور كُلّ منهم في خدمة الشيوعية العالمية. وعلاوة على هذه المعلومات فَقَدْ تمكن ونتربورن وزملائه من حصر أسماء من هُمْ يميلون للانتماء للحزب الشيوعي البريطاني وذلك من خلال الدراسة المستفيضة لِكُلِّ ما جاء في بيانات تلك الملفات. مما سهل على المخابرات البريطانية من الاتصال بهؤلاء وتجنيد بعضهم للعمل لحساب المخابرات البريطانية بعد انتمائهم للحزب الشيوعي. وتمكن وتربورن ليس من مراقبة نشاط الحزب الشيوعي البريطاني وتحركه فحسب، بل أعطته تلك الملفات معلومات عن عناصر الحزب المتوغلين في حزب العمال البريطاني واتحاد الصناعات البريطاني وشرائح الدولة البريطانية الوظيفية والمخابراتية والعسكرية. مما سهل عليهم رصد تحركات الكثير منهم وإقصائهم من وظائفهم بعد أن تبين لبعضهم علاقة مَعَ المخابرات السوفيتية بصورة غير مباشرة من خلال انتمائهم للحزب الشيوعي. وَمَعَ هذا العمل المتنامي تمكن ونتربورن من كشف بعض الجواسيس المؤثرين والذين هُمْ أعضاء بالحزب الشيوعي البريطاني كأمثال كأيّ بيركس Guy Francis Demoncy Burgess الموظف التنفيذي لوزارة الخارجية البريطانية ودونلد ماكلين Donald Maclean الدبلوماسي البريطاني وعضو الارتباط المخابراتي مَعَ الـ: MI6 وكم فليبي Kim Philby الدبلوماسي البريطاني والمخابراتي الأقدم في الـ: MI5 وروجر هولز Roger Hollis الذي شغل منصب رئيس الـ: MI5 أعوام (80,70). كما يبدو إن هناك الكثير من المسؤولين البريطانيين الذين تمكن الاتحاد السوفيتي من تجنيدهم داخل المؤسسة السياسية إلا إنّهم لم يكونوا فاعلين بالدرجة التي كان بها من ذكرناهم أعلاه.
ما أن طل عام 1955م حَتَّى تمكن ونتربورن من تحديد وتحجيم ومعرفة كُلّ بسيطة حول أيّ نشاط لأيّ عضو في تنظيم الحزب الشيوعي البريطاني. كما ساعد احتلال الاتحاد السوفيتي لهنغاريا عام 1956م على فِقْدان الحزب الشيوعي شعبيته في الشارع البريطاني. وَمَعَ النجاح الذي حققته المخابرات البريطانية إلا أن الصراع الجاسوسي استمرّ بين البلدين في العقود الأخرى ولكن ما حققه ونتربورن مكن المخابرات البريطانية من دخول نادي الجواسيس الدولي والذي من خلاله تَمَّ الوصول إِلى داخل المؤسسات الأمنية السوفيتية للاستفادة من المعلومات المستقاة منهم. وهو بلا شكّ ما خدم الغرب ونتج عنه هدم المنظومة الاشتراكية والسوفيتية على أيدي قادتهم. ولرب سائل يسأل أو معترض يعترض على ما نقول فلذا فأننا نرى وجوب تخيل ماذا سيكون لو لم تكتشف المخابرات البريطانية كيم فليبي عام 1963م والسير أنتوني بلاينت عام 1979م والسير روجر هولز وَكُلّ منهم كان له كلمة في توجيه القرار سواء كان عسكرياً أم أمنياً أو سياسياً.
فعملية الاكتشاف لهؤلاء سهل عدم الوصول إِلى مبدأ التشنج السياسي الذي يودي بالحالة إِلى إعلان الحرب وتدمير ما تَمَّ تشيده بعد الحرب العالمية الثانية. ولعل الصراع الجاسوسي الغربي السوفيتي لعب دوراً كبيراً في الحرب الباردة التي جعلت المواجهة مواجهة معلوماتية لبسط النفوذ بدلاً من إن تكون عسكرية للسيطرة على المناطق الدولية الاستراتيجية.
الفصل السادس
النشاط السوفيتي والمخطط الغربي الجديد للشرق الأوسط
النشاط السوفيتي والمخطط الغربي الجديد للشرق الأوسط
لم تنتهِ الصراعات ما بين الغرب والاتحاد السوفيتي بل لم يصاحبها البرود قَطّ، وإنَّما بدأت تزداد يوماً بعد يوم بدءاً من انتهاء الحرب العالمية الثانية وحَتَّى بلوغ أوجها في منتصف ونهاية الخمسينات. وبدأ الشموخ السوفيتي يعلو ويزدهر في منطقة الشرق الأوسط وتمكنت المخابرات الروسية من أيجاد أرضية لا بأس بها في إيران مَعَ بداية الخمسينات. والتي توجت أعمالها بانقلاب مصدق الذي أطاح بحكم بهلوي. ولولا تدخّل المخابرات الأمريكية مباشرة لإعادة بهلوي لبقي المَدّ السوفيتي في إيران. وكانت حالة عدم الاكتفاء المزمن عند المخابرات السوفيتية هي أساس النجاح، ففشلها بإيران وإبقاء الأخيرة ساحة غربية جعلها تبحث عن خيوط أخرى لتمد خطوطها، مستفيدة من أيّ موقف متأزم أو أية فجوة داخلية في بلد حليف للغرب. فما أن تأزم الأمر أكثر بين الأتراك والأكراد في تركيا حَتَّى راح السوفيت يأخذ دوره معهم، فجندت العديد من قادة الأكراد ودربت ميليشياتهم في الاتحاد السوفيتي للوقوف بوجه الحكم التركي. الذي يعتبر ركيزة أساسية للحلف الغربي الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط.
ومما زاد الأمور أكثر ريبة عند الأمريكان والغرب هو اكتشاف عدد من الإسرائيليين السوفيتي الأصل يعملون كجواسيس للاتحاد السوفيتي. وكان من بينهم مدير مكتب وزير الدفاع الإسرائيلي بن كوريون الذي زود الاتحاد السوفيتي بكافة المعلومات الخاصة بالمشروع النووي الأمريكي البريطاني المشترك المزمع أقامته في إسرائيل (70,72,73). كُلّ هذه الأمور جعلت الارتباك يدب في نفوس منتسبي وكالات المخابرات الغربية التي باتت مصالحها في الشرق الأوسط مهددة نتيجة لنشاط الاتحاد السوفيتي في مرحلة الخمسينات. والذي تمخض بدخولهم علناً من بوابة مصر التي عانت من التزمّت الغربي القابض للأنفاس. والذي لم يحله الهجوم الثلاثي عام 1956م، بل زاد الأمور تأزماً وجعل من الاتحاد السوفيتي الأمل الحقيقي والمنقذ الملهم للمستعبدين من الاستعباد الغربي. ونتيجة لتلك الهواجس التي لا تتوقف، استنفرت المخابرات الغربية كُلّ قواها خلال مرحلة أزمة القناة لإبعاد الدول العربية والإسلامية المتعاطفة مَعَ مصر للخروج من اللعبة.
فتارة بواسطة الضغط على الحكومات كما حدث مَعَ العربية السعودية والعراق والأردن، وَمَرَة بتجنيد عملائها المندسين في قيادات الأحزاب المسماة بالوطنية والقومية كما حدث في سوريا. حَيْثُ لعب أكرم الحوراني ونديم البيطار وميشيل عفلق دوراً كبيراً بتوجيه الشعب العربي السوري، وإقناعه بضرورة الوقوف بوجه الأعداء القادمون من إسرائيل لغزو سوريا بعد الانتهاء من الانقضاض على مصر، والواجب علينا الدفاع عن سوريا وترك مصر للمصريين الدفاع عن أرضهم. مما دفع الشعب العربي السوري وبلا غرابة يشدّ الأزر لحماية أراضيه السورية ومسانداً مصر بعواطفه وشموخه. في الوقت الذي كانت الجموع الثائرة مصممة على التطوع للاستشهاد على أرض مصر، تمكن الحوراني ورفاقه من إدارة الكفة وامتصاص النقمة الشعبية على الغرب بالإيحاء من خلال الخطب الرنانة الخبيثة المبطنة بان الضربة ستكون مما لا شكّ فيه موجهة لسوريا وليس مصر. متذرعاً بتهديد ما يسمى بحلف بغداد وبالتالي ضمن الغرب انفراد مصر بشرياً وعسكرياً للوقوف بوجه العدوان الثلاثي عام 1956م (70).
لَقَدْ حقق الحوراني وميشيل عفلق أول مخططات العزل العربي القطري الذي أراده الغرب من خلال تشطير القضية العربية وتحديد بعدها الاستراتيجي، نحو قيام كيان شرق أوسطي وليس عربي. وهو ما كانت تراهن عليه الولايات المتحدة الأمريكية لعدة أسباب. أولاهما عدم تمكن العرب من إن يكونوا كتلة سياسية وبشرية واقتصادية مناهضة في المستقبل. وثانيهما الحَدّ من التوغل السوفيتي إِلى المنطقة من خلال دعم القضية العربية شمولياً. وثالثهما تنفيذ المخطط الذي يمكن من خلاله دمج إسرائيل في المنطقة وإلغاء المفهوم العربي وإبداله بالمفهوم الشرق أوسطي.
فحسابات المخابرات البريطانية وأعوانها كانت توحي بأن الحسم سيكون بالعدوان على مصر، وإن إسرائيل سوف تدخل المنطقة كقوة استراتيجية قوية يمكن الاعتماد عليها في المستقبل. لكن تلك التكهنات ما فتئت أن فشلت مرحلياً وتبين إن شعوب العالم مصرة على استنكار الهجوم على مصر. مما عزز مكانة الشعب العربي في كُلّ مكان وباتت الانتفاضات ذات الشعور الوطني تنطلق هنا وهناك غير قادر حلف بغداد ولا غيره على ردعها. مرغمة قادة الأحزاب في بلادهم لاتخاذ موقف وطني موحد ضدّ الاستعمار والمستعمر فكانت الوحدة العربية ما بين سوريا ومصر الذي هتفت لها الجموع وأصبحت حقيقة رغم كُلّ الميول والاتجاهات التي يكنها البعض. وتوالت الانقلابات العسكرية ضدّ الاستعمار البريطاني وتنشطت الثورة الجزائرية وأخذ البعد الفلسطيني مفهوماً استراتيجياً آخر في التفكير العربي السياسي مرغماً.
وخوفاً من السقوط الجماهيري الذي لا رجعة فيه راح الكثير ممن لا يؤمن بمفهوم الوحدة العربية يؤيدونها، حَتَّى لا تنحسر أحزابهم جماهيرياً. غير مبالين من النتائج لاطمئنانهم من مساندة المخابرات الأمريكية والبريطانية لهم للانقضاض على تجربة الوحدة الجماهيرية سواء كان ذلك عاجلاً أم أجلاً (70,72,73). واستمرّت الانتكاسات الغربية في المنطقة العربية الواحدة تلو الأخرى من خلال تبني الاتحاد السوفيتي مبدأ تحرير الشعوب وريادة عبد الناصر ليس للمنطقة العربية وحدها بل دول العالم الأخرى التي ترضخ تحت الاستعمار. وبينما كان الشعب العربي في مصر وسوريا يهتز له كُلّ طرف للوحدة العربية والخيبة والانكسار يدب في وجه الغرب وأعوانهم، راح العراق معلناً ثورته التي أطاحت بكل طامع وكسرت كُلّ هياكل الاستعباد المتمثلة بحلف بغداد. مما جعل الغرب يتأكد من زوال مصالحه إذ لم يتخذ أية سياسة تجاه المنطقة التي أوعز اندلاعها لقوة الجبروت السوفيتي فيها.
كان لابُدَ للغرب من أن يبدأ التخطيط لسياسة جديدة في المنطقة العربية خاصة والشرق الأوسط عامة، تكون مبنية على أسس تضمن النفوذ الغربي في المنطقة وتحارب الامتداد السوفيتي من التحرك أبعد مما ينبغي أن تكون حدود نفوذه، خصوصاً بعد أن تبين إن الاتحاد السوفيتي، على الرغم من دعمه لمصر عسكرياً وثقافياً وتكنولوجياً لا يرغب بالوحدة العربية. إذ أن الاتحاد السوفيتي وضمن المنظور الشيوعي يؤمن بالأممية وقيام الوحدة ما بين وسورية ومصر لا يعزز الأهداف المرسومة. لكن الاتحاد السوفيتي على الرغم من آرائه تلك وانحسار ضوء الحزب الشيوعي في كلا البلدين لم يعرف أنَّه ناهض وأراد قمع الوحدة العربية، بل استمرّ في دعمه لمصر وسورية وبدأ يخطط لمنع دخول أية دولة عربية أخرى للجمهورية العربية المتحدة.
كانت الخطوة الأولى لبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وبعض من حلفائها لإيجاد إستراتيجية جديدة للمنطقة العربية بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة والثورة العراقية، هو التخطيط لدراسة واقع الشرق الأوسط. فبعد فشل حلف بغداد كان لابُدَ من تحديد مكامن ضعف السياسة الغربية في المنطقة العربية، ومن أجل دراسة جدوى التخطيط السياسي الجديد فَقَدْ انتخب في الثاني من آب عام 1958م البروفيسور دي دبليو بروكن Professor D. W. Brogan لهذه المهمة (81)، والتي سوف نرى من خلالها كيف رسم الغرب ملامح وصفات الحكم والعاملين عليه في الشرق الأوسط وخاصة المنطقة العربية، لما يضمن مساراً سلساً للمخططات المستقبلية للغرب. وعليه، فمهمة البروفيسور بروكن لم تكن مجرد توصيات أَو حَلّ لمشكلة بسيطة يراد الخلاص منها تكتيكياً بقدر ما هي رسم لواقع المستقبل في المنطقة وكيفية تنفيذ التوصيات، بعد إن يتم دراسة واقع المنطقة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وإيجاد الثغرات المهمة التي من خلالها يمكن الدخول إِلى المنطقة بصورة سرية تضمن مصالح الغرب لنصف القرن القادم.
وهنا لابُدَ إن ننوه إِلى مسألة مهمة جداً اتسمت لنا من خلال مراجعة دراسة البروفيسور بروكن والتي تتضمن حقيقة مرة وهي إن الغرب للحفاظ على مصالحه يحاول دائماً مراقبة مناطقنا عن كثب ويوجد الدراسات الإستراتيجية نحوها ويطبقها ضمن ما يضمن بقاءه فيها، حَتَّى ولو كانت النتيجة إبادة شعب بالكامل. وهو ما حدث فعلاً للعراق من خلال الحروب التي زجّ بها بغباء دكتاتوريته التي حكمته بأوامر الأسياد في الغرب والولايات المتحدة الأمريكية.
6.1 إعادة تقييم السياسة الأوربية للمنطقة العربية
لم تكن مهمة البروفيسور بروكن سهلة، بل صعبة وحساسة للغاية وذلك لأن اجتماع الحلفاء الأوربيين المزمع عقده في السابع من أيلول عام 1958م في برسل سوف يعتمد على دراسته وعلى ما سوف تحتويه من معلومات وإيضاحات لأسباب التخبط الغربي في المنطقة العربية. فلذا قَدْ حرص بروكن على دراسة كُلّ الجوانب المتعلقة بالمنطقة العربية دون إسقاط أيا منها، بانيا دراسته على الأسس المعنوية والثقافية والاقتصادية والسياسية والعسكرية وذلك لكي يصل إِلى تقييم حقيقي للواقع الغربي وأثره في المنطقة، وليتمكن من خلاله وضع الحلول المناسبة لِحَلّ تلك المسألة التي باتت شائكة ومعقدة، وتنذر بخروج السيطرة الغربية تدريجياً من المنطقة العربية وربما الاتحاد السوفيتي إذ ما قُدر للوحدة العربية أن تكبر فتصبح معسكراً بذاته ينافس المعسكرين الرئيسيين في العالم (70,81)، خاصة وإن كُلّ مستلزمات ومقومات الدولة الكبرى يمكن أن تكون في اتحاد الجانب الشرقي من المنطقة العربية.
فبروكن بدأ دراسته وتقييمه للموقف ضمن عناوين مهمة يمكن إجمالها في السطور التالية من هذا البحث. والتي نعتبرها من الدراسات المهمة العاملة على تقييم الموقف ليس في تلك المرحلة بالذات بل لربما مازالت تلك الدراسة ونتائجها تعتبر أساساً لإدامة السيطرة على المنطقة العربية، إذ ما تمكنا من حَلّ ألغاز ما يحدث في أيامنا هذه.
أولاً: الجانب المعنوي
معنوياً يرى بروكن، أن الشعب العربي وبصورة عامة بدأ تَماماً يَفْقِدُ ثقته بالغرب، وذلك من خلال تمثيله بالإمبريالية المتسلطة المستعبدة لشعوب العالم تحت ذريعة الحماية من الانتقام السوفيتي. ومن خلال دراسته الميدانية للمنطقة العربية بالذات، لاحظ بروكن عند العرب نضج وضوح صورة التطرف الغربي الداعي إِلى الانتقام المثير للحروب بين الدول، غير مكترث من الحرب النووية التي قَدْ باتت تهدد السلام العالمي. ثُمّ يبين أنَّه لم يكن البغض للغرب قَدْ جاء من فراغ، بل نابع من الأحداث المتتالية التي بدا فيها الغرب صاحب اليد العليا للضرب والانقضاض على الشعوب مثل ما حدث في فلسطين والجزائر وقناة السويس وكينيا وقبرص وكوريا وغيرها من دول العالم. كُلّ هذه الأمور يرى بروكن قَدْ جعلت من الشعب العربي يتعاطف مَعَ الاتحاد السوفيتي ضدّ الغرب والولايات المتحدة الأمريكية. وهو ما جعل الوضع بالنسبة لهم في المنطقة العربية في موقع ضعيف وهزيل فاقد الثقة ويُتهم بالجبروت والخداع، وهي حالة لم يعهد عليها مُنْذُ قرن ونصف (81).
ثانياً: الجانب الثقافي
ويبدو حسب تعبير بروكن أن للغرب في هذا المضمار معاناة حقيقية، فَفِي الوقت الذي كان فيه العرب يتلقون دراساتهم وتمريناتهم في دول التحالف الغربي المحتكر للتقدم العلمي بدون منازع يذكر، باتت أنظار العرب والآسيويين تتوجه إِلى الاتحاد السوفيتي الذي بهرهم بتقدمه العلمي والتكنولوجي. وأخذت الآداب والعلوم الإنسانية والتطبيقية الروسية تأخذ قيمتها الحقيقية بين العلوم الأوربية الأخرى. وهذا ما يعني أن العرب باتوا متأكدين أكثر من أيّ وقت مضى من عزل الغرب لهم في تلك الجوانب سوف لم يمنع انقطاع وصول مصادر الثقافة والعلوم عنهما حَتَّى ولو كانت بكفاءة أقل من الثقافة والعلوم الغربية. وعلى الرغم من أن الثقافة هي المصدر الوحيد الذي تمتلكه الدول الغربية دون منازع ويجب أن يستعمل كسلاح أمام أيّ منافس، فهناك صراع ثقافي ما بين الاتحاد السوفيتي والغرب لتغذية المنطقة العربية للاستحواذ عليها من خلال البرتوكولات الثقافية المعقودة مَعَ مصر. فمع مطلع عام 1957م منح الاتحاد السوفيتي لمصر ستة بروتوكولات ثقافية قدرت قيمة كُلّ منها بـ: 200 مليون دولار.
ولم يتوقف التعاون الثقافي العلمي ما بين العرب والاتحاد السوفيتي عند هذا الحَدّ فحسب، بل مَعَ نهاية تموز عام 1958م منح الاتحاد السوفيتي الجمهورية العربية المتحدة 610 بعثة دراسية علمية وتدريبية كان 300 منها في الاتحاد السوفيتي والبقية موزعة على دول المنظومة الاشتراكية الأخرى (81). وهو بالتالي يعتبر تغيراً محسوساً تجاه العرب من جانب الغرب ككتلة معادية والاتحاد السوفيتي ككتلة صديقة حليفة لمستقبل مشرق في الثقافة والعلوم والتكنولوجية والتقدم الحضاري.
ثالثاً: الجانب الاقتصادي
يعتبر العامل الاقتصادي من العوامل المهمة التي افتقدها الغرب في المنطقة العربية، فَفِي الوقت الذي ليس للعرب سوقاً غير السوق الغربية، على الأقل في العصر الحديث، نرى فجأة يبرز سوق بديل قادر على تزويدهم بالمكائن المنتجة والسلع الاستهلاكية والمواد الأولية التي يحتاجونها في بناء صناعتهم الفتية. فعلى سبيل المثال كان التبادل التجاري بين مصر والمملكة المتحدة يصل حدّ 60% سنوياً من إجمالي التعامل التجاري وانخفض في منتصف عام 1955م حَتَّى وصل عام 1956م إِلى 25%. وهذا ما يعني أن الغرب لا يمكنه محاصرة العرب اقتصادياً وهي حقيقة مرة قَدْ تؤدي إِلى تغيير كُلّ السياسات الغربية المقترحة في المنطقة حَتَّى عام 1970م (81.82,83). إن خسران الغرب لمصالحه في المنطقة له مردود اقتصادي سيئ كبير. خصوصاً بعد أن أممت القناة وألحقت المنشئات الفرنسية والبريطانية بالشركة الوطنية المصرية.
إذ يعني لا استثمار للشركات الغربية في المنطقة العربية وتكون العلاقة الاقتصادية العربية الغربية متقوقعة في مجال استخراج وتصنيع البترول والذي يُعَدّ نقطة الضعف عند الغرب، مما يجعل كفة اللعبة بيد العرب بعد أن كانت بيد الغرب. علاوة على خسران الغرب عقود تطوير وبناء المدن والتي يدخل من ضمنها تأسيس خطوط السكك الحديدية والبنايات الكبيرة والسدود ومشاريع الري والكهرباء والمعامل الإنتاجية الصغيرة والكبيرة والتي تقدر بمئات الملايين من الدولارات. فدول المعسكر الاشتراكي بدأت تقوم بتنفيذها بدلاً عن الشركات الغربية التي بعضها قَدْ انقضت العقود معها. إضافة إِلى استبدال الفنيين والخبراء الغربيين بسوفيت أو بمواطني الدول الاشتراكية الأخرى. كما بدا العرب يرفضون أية فكرة اقتصادية للتحديث في المنطقة العربية نابعة من الولايات المتحدة الأمريكية والغرب وهو ما سبب فشل مشروع ليزيز فير Laissez-Faire الاقتصادي الحرّ في الشرق الأوسط عام 1958م إذ لم يلقى تجاوبا إلا من لبنان فقط وبدفع فرنسي.