الزراعة في الحضارة الإسلامية
22-10-2019, 01:13 PM


عناية المسلمين بالزراعة

كان للزراعة شأن كبير في الحضارة الإسلامية، وهو الأمر الذي حافظ على الدولة الإسلامية وتماسكها قرونًا طويلة نظرًا إلى اكتفائها الذاتي من الغذاء في مختلف البقاع التي كانت تبسط عليها سلطانها.

وقد كان لعناية المسلمين بالزراعة أصلٌ قرآنيٌّ كريم؛ حيث وجَّه الله تعالى عباده للسعي في الأرض والأكل من رزقه سبحانه فيها؛ فقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15].

وبين الله تعالى بديع صنعه في الزرع وفوائده في كثير من المواضع؛ منها قوله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ • وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ • لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾ [يس: 33-35].

وقد كان التوجيهُ النبويُّ واضحًا في ضرورة تعمير الأرض وعدم تركها حتى تبور، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ، فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ» [1].

وقال صلى الله عليه وآله وسلم -أيضًا-: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ» [2].

وقد كان من آثار هذه العناية الدينية بأمر الزراعة أن اجتهد المسلمون في الاهتمام بها وتوفير وسائل وسبل ريِّها وبناء السدود وحفر الآبار وشق القنوات والأنهار وتطوير طرق التلقيح والتسميد لزيادة إنتاجها، وقد برعوا في ذلك براعة شديدة أخذها عنهم الأوروبيون في نهضتهم الحديثة.

أشهر مؤلفات العلماء المسلمين في الزراعة

وكان من مظاهر هذا الاعتناء -أيضًا- تأليف الكتب المتخصصة في الزراعة، مثل:

- كتاب "الشجر" لابن خالويه.
- "الفلاحة والعمارة" لعلي بن محمد بن سعد.
- "الفلاحة" لابن وحشية.
- "النبات" لأبي حنيفة الدينوري.
- "الزرع" لأبي عبيدة البصري.
- "النبات والشجر" لأبي سعيد الأصمعي الذي تناول فيه أسماء الأرض في حالاتها المختلفة من حيث قبولها للزرع، والنبات وأسماء النبات في حالات نموه وتكاثره وقوامه وإزهاره، وقسَّم النبات إلى أحرار وغير أحرار أو ذكور، ثم قسمه إلى حمض مالح وإلى خلة غير مالحة، وذكر ما ينبت في السهل وما ينبت في الرمل، وبلغ عدد أسماء النباتات التي ذكرها نحو 280 اسمًا وغيرها.

الزراعة والصيدلة وجهان لعملة واحدة

وقد ازدادت عناية العرب والمسلمين بعلم النبات باعتباره أصلًا للعقاقير والأدوية، وقد كان هذا مدخلًا لكثير من المصنفات التي تُسمَّى "المفردات الطبية" والتي تدرس خصائص النباتات وطرق اتخاذ العلاجات والأدوية منها.

لقد ساعد المد الحضاري العربي، والتأليف الموسوعي أيام بني العباس على رسوخ معرفتهم بالمجتمعات النباتية، وقاموا بتصنيف النباتات إلى مجموعات مختلفة، وفي مجال علم البيئة النباتية، خلَّف العلماء العرب مصطلحات كثيرة تدل على فهمهم العميق لخواص التربة، وتضاريسها وملوحتها وتركيبها الفيزيائي.

وتعرَّف العرب -أيضًا- على ما يُسمَّى اليوم "الدالَّات البيئية"، أو "كواشف البيئة"؛ فأدركوا أن وجود أو غياب نباتات معينة يتبعه وجود أو غياب أنواع أخرى، وأنه يمكن الاستدلال على خصائص تربة ما بما يستوطنها من أنواع؛ فالتربة الدهناء لا تنبت الحمض، والحمض ينبت في الأراضي الملحية، فالدهناء إذن خالية من مثل هذه الأراضي.

التقنيات الزراعية وإسهامات المسلمين فيها

وفي مجال التقنيات الزراعية المتوارثة استخدم المسلمون المحراث والساقية والشادوف والنورج، وكان الأندلسيون يُسخِّرون الرياح في إدارة الطواحين ورفع المياه بالسواقي، وأخذت أوروبا عنهم هذه التقنية وغيرها.

لقد أفاد المسلمون العالم أجمع بإسهامٍ كبيرٍ في شتى المجالات، ولم تكن الزراعة متخلِّفةً عن هذا الإسهام؛ بل كانت أحد أهم مجالات إسهام العرب والمسلمين.

الزراعة وقوة الحضارة الإسلامية

وباهتمامهم بهذا المجال حافظ العرب والمسلمون على أمنهم الغذائي وتماسُكهم الاجتماعي قرونًا طويلة، حتى تدهورت أحوال هذه الحضارة وباتت تعتمد على غيرها في غذائها ودوائها فازداد ضعفها وتشرذمها..

وعودتها إلى سابق عهدها في التقدُّم والازدهار رهنٌ بعودتها بالاهتمام بالعلوم والمجالات المختلفة التي توفر لها اكتفاءً ذاتيًّا لا يجعلها عالةً على الأمم..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] صحيح البخاري: كتاب المزارعة، باب: ما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يواسي بعضهم بعضًا في الزراعة والثمرة، (2215).
[2] صحيح البخاري: كتاب المزارعة، باب: فضل الزرع والغرس إذا أكل منه، (2195). وصحيح مسلم: كتاب المساقاة، باب: فضل الغرس والزرع، (1553).
المصادر:
- "علم النبات عند العرب" (ضمن موسوعة الحضارة العربية الإسلامية) لعبد السلام النويهي.
- "التراتيب الإدارية" لعبد الحي الكتاني.
- "عبقرية الحضارة الإسلامية" لأحمد محمد عوف.
موقع دار الإفتاء.