الى مرسيـــــــــــــــــــــــــليا
20-08-2019, 06:03 PM
ا
لعيش في زوايا العتمة شيء مقزز و يدعو الى الضجر.
و ان يتنفس المرء الغبار في الصحاري القاحلة عوض عبق الياسمين المتسلل من الخميلة حدث لا تحتفي به الرئتان.
لكن أن تحوم الذاكرة فوق أوراق الماضي فذلك وجع آخر و نزيف آخر و تشرد آخر...
يتيمة منذ تاريخ طويل. بعد ان فقدت أبويها في غرق باخرة كانت مسافرة الى مرسيليا.
وعاشت في - دار الأيتام - ردحا من الزمن الى أن أطلت على مرحلة الشباب.
فرت مذعورة من تلك الدار تحت جنح الليل عندما حاول أحد الطباخين أن يلوث شرفها . لقد ساومها النذل على طهارتها مقابل شيء من الرغيف ..
لم تنس عفاف تلك الاساءة. يومها قضمت أذن الطباخ الوقح و طلقت - دار الايتام - الى الأبد.
لقد فقد ذلك الخسيس كثيرا من الدماء من شحمة أذنه و سرعام ما ترنح مغشيا عليه.
لن تنس عفاف ملاحم الجوع و حكايات الخوف و المساومة على الشرف في تلك الدار البائسة.لقد كان المكان مزدحما بالثعالب الشرهة.
لكن حانات العاصمة تتلقفها و ذئاب الليل تنهش براءتها بلا هوادة الى أن أرسلت السماء اليها ملاك الانقاذ.
شيخ وقور يملك مركبا متواضعا من مراكب الصيد.
استنقذ الرجل عفاف من براثن الرذيلة و ابتنى لها سكنا لائقا و تزوجا ...
- آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه- أرسلتها عفاف طويلة جدا . و ارتسم الرضى على جبينها الوضيء أمام هذه الذكرى الجميلة.
لقد أمست زوجة و ربة بيت حاذقة بعد سنوات التيه و الظلام و الانكسار.
هاهي الآن ممدة على أريكة من الحرير الفارسي مثل سيدة مرموقة...تطالع المجلات و تتلذذ بالفول السوداني المملح و تشاهد التلفزيون و تضع طلاء ورديا على أظافرها و تلج الى المطبخ بين الفينة و الاخرى لتطمئن على مذاق الطعام الذي ينضج برفق فوق نار هادئة.
قفزت نحو زجاج النافذة و أرسلت بصرها نحو أفق البحر. كانت مراكب الصيد متناثرة فوق صفحة الماء كما اللآلئء فوق جيد الغادة الهيفاء..
لكن شيئا من الحزن يتسلل الى وجهها الفاتن فمركب زوجها الحبيب لم يكن بين تلك المراكب.
ما يميز ذلك المركب الصغير هو خيط دخان رفيع يتسلل من حجرة القيادة و عبارة بحروف كبيرة - أنت الرزاق يا الله - مكتوبة
بلون أخضر فوق خشب المركب.
تعود هاشم أن يتيه في عرض البحر يوما أو يومين لا أكثر. و سرعان ما يؤوب الى المسكن الدافيء محملا بصناديق السمك الطازج.
على يدي هاشم فقط تذوقت عفاف كل صنوف السمك التي تزخر بها البحار.
تونة و جمبري و سردين و سمك الرنجة و و و...
كان الزوج خبيرا بأسرار طهي السمك و اكتسبت عفاف مهارة الطبخ بعد لأي و صبر...
نهش القلق صدر الزوجة الشابة و حلقت الوساوس حول رأسها و ذهبت بها الظنون كل مذهب.
أرسلت بصرها عبر النافذة مرة و مرة نحو الساحل...كان البحر خاليا من مراكب الصيد و قرص الشمس الذهبي مال نحو الغروب .
لكن قرعا عنيفا ينزل على سمعها كما الصاعقة- دق دق دق دق دق - و استعادها من مستنقع الوساوس و الحيرة.
هبت المرأة نحو الباب و هي تهمس فرقا و رعبا :
- من على الباب ؟؟-
كان جبينها يتفصد عرقا رغم برودة المكان.
- ضابط الشرطة من فضلك افتحي الباب-
بأنامل مرتبكة فتحت الزوجة الشابة مصراع الباب و قالت بصوت متهدج :
- مرحبا سيدي الضابط ما الخطب؟ -
دخل الضابط الى البيت بخطى واثقة و هو يجيل بصره بين حيطان المكان و اثاثه ثم التفت صوب المرأة أخيرا و قال:
- زوجك هاشم فر في نفر من الشباب على المركب نحو مدينة مرسيليا-
صرخت عفاف أمام هول الخبر:
- غير معقول -
لكن الضابط يقطع صراخها قائلا:
- جئت لأصطحبك الى مخفر الشرطة لسماع أقوالك سيدتي -
:1 3: