الاكتئاب.. الزائر المخادع!!؟
22-09-2018, 10:28 AM
الاكتئاب.. الزائر المخادع!!؟
د. محمد عبد القادر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
رشَّحه عددٌ من علماءالنفس؛ ليكون مرض القرن الحادي والعشرين؛ إذ يصاب به كل عام أكثر من مليون شخص في العالم[1]؛ بسبب ظروف مُتنوعة، كثير منها استجد بعد تشابك العلاقات، وتداخلات النظام الاقتصادي، والانفجار المتعاكس في التواصل والمعلومات مع بداية النظام العالمي الجديد؛ حيث تحوَّل العالم إلى قرية كبيرة وصغيرة في آن واحد.
وهذا مما أسهم في ازدياد الحياة الاجتماعية تعقيدًا، وازداد معها عددُ المصابين بالاكتئاب، ومع ذلك، فإن السيطرة على أكثر أنواعه ممكنة بإذن الله، خاصَّة لو تم الاكتشاف المبكر للحالة، وتفهمالمريض أبعاد المشكلة، ووقف الأهل إلى جانبه؛ فتعاوُن الأهل له الدَّور الأكبر في إعطاءالمريضجرعاتالأمان والحب والحنان والعاطفة الصادقة؛ مما يساعده على أن يعودَ لطبيعته، ويمارس حياته العملية والأسرية والاجتماعية على أكمل وجه، وتعود له الابتسامة المشرقة، والاكتئابمرضكيمياوي يَحدث بسبب انخفاض الأحماض الأمينية في بعض مراكز المخ[2]، وإذا لم نعمل على تطويقه بالكشف المبكر وسُرعة العلاج، فقد يتطور ويشكل خُطُورة على حياة الإنسان دون أن يشعر؛ لأن:" الاكتئابَمُخادع ومخاتل".
كيف يداهم حياتنا هذا الزائر المتلون؟وكيف نتغلب عليه ونتجاوز محنته؟:
تابع معنا - أخي القارئ - لتتعرف على المزيد حول هذا الموضوع، الذي ينغِّص حياة الكثيرين:
عندما نشعر بأعراض مرضية، نسارع لزيارة الطبيب، ونأخذ العلاج اللاَّزم، وتمر الأمور على أحسن حال، وأكثر الناس يعتنون بصحتهم الجسمية، ويهتمون بالرعاية الصحية لأفراد أسرهم، لكن للأسف: القليل منهم يهتمون بالصحة النفسيَّة؛ مع أن النفسَتتألم كما يتألم الجسد، والنَّفس:(عواطف الإنسان وتفكيره وإدراكه وسلوكه وإرادته)[3]، وهذه تحتاج إلى رعاية ومتابعة؛ فعندما يشعر المرء بأيِّ خلل في التلاؤم مع من حوله، أو تُراوده أفكار غريبة، أو شعور خاص، عليه أنْ يسارعَ إلى التعرف على السبب، وأن يراجع الطبيب الذي يقدم له المشورة اللازمة.
الحزن والاكتئاب:
كل إنسان يمر بمواقف تجعله يحزن، كفقد عزيز أو التعرض لكارثة اقتصادية، أو مشكلة طارئة، ثم ما يلبث أن يتجاوزها ويتلاشى حزنه، ويعود لممارسة حياته الطبيعيَّة؛ لأن الحزن المتواصل لن يحل المشكلة، ولن يغير من واقع الحال، أمَّا إذا استمر الحزن مدة طويلة، فإنه يتحول إلى حالة مرضية تُسمَّى:(الاكتئاب)[4].
أسباب الاكتئاب:
يُرجع بعضُ علماءالنفس سببَ الاكتئاب الأساسي إلى:( فُقدانالحب)، ويرون أنَّ انقطاع علاقة وثيقة متبادلة من الحب هي: أساس حالات الاكتئاب[5]، إلاَّ أنه لا يُمكن اعتبار هذا الكلام دقيقًا؛ لأن هناك جملة من الأسباب رُبَّما تتضافر جميعها أو بعضها لتساعد على ظهوره، وأهمها:
1-وراثية: يمكن أن يرث المريضُ الاستعداد للمرض، ولا يرث المرض نفسه؛ فيظهر المرض إذا تعرض الإنسان لصدمة أو ظروف موجبة لظهور الاكتئاب.
2-بيئية وأسرية: تؤثر البيئة والأسرة التي يعيش فيها المرء على نفسيتهسلبًا أو إيجابًا؛ فالخلافات الزوجيَّة، ومظاهر العنف في الأسرة، أو الانحرافات السلوكيَّة، تؤثر في نفس الزوجين أو الأبناء، وربَّما أدت إلى ظهور الاكتئاب.
3-الأمراض العضوية والأدوية: تُخلِّف بعضُ الأمراض العضوية التي يصاب بها الإنسان آثارًا جانبية، قد تُؤدي للاكتئاب، مثل:( نقص هرمونات الغدة الدرقية)، وأحيانًا يتعرض المريضللاكتئاب؛ بسبب إصابته بمرضيتوهم أنه خطير، ورُبَّما يكون له تأثير كبير في حياته، كما أن بعض الأدوية قد تؤدي للاكتئاب، مثل:( أدوية الشلل الرعاشي وبعض أدوية الضَّغط والكورتيزون وغيرها، وكذلك الحبوب المنشطة).
4-الصدمات: على الإنسان أن يعوِّد نفسه على الرضا بقضاءالله - تعالى - ويتعود تقبل الأمر الواقع؛ ليكونَ أكثر حصانة ضد الصدمات الاقتصادية أو العاطفية أو الاجتماعية، ورُبَّما كانت الصدماتالعاطفية هي: السبب في زيادة نسبة إصابة النساء بالاكتئاب؛ قياسًا على الرجال، وعلى أيَّة حال، فإنَّ فريقًا من علماءالنفس يَرَوْنَ أن السبب الحقيقي للاكتئاب غير معروف على وجه الدِّقة، كما أن الاكتئاب بحد ذاته، قد يُؤدي إلى أمراض عضوية؛ فقد أثبت الطبُّ الحديث: أن للاكتئاب تأثيرًا عضويًّا على الإنسان، ويجعله أكثر عرضة للإصابة بالأمراض الجسدية، وقد قام الباحثون بإجراء تجاربَ على بعض المرضى؛ حيث أظهرت النتائج تأثُّر الجهاز المناعي عند الإنسان المكتئب.
أعراض الاكتئاب:
قد لا يدرك المريض من الوهلة الأولى: أنَّه مُصاب بالاكتئاب؛ لأنَّ أعراضَ المرض متداخلة، وقد تَختلط بأعراض الأمراض العضوية أحيانًا، ورُبَّما جاء الاكتئاب في صورة أعراض جسدية، فيتوهم المريض أن مرضه عضوي[6]، وأحيانًا يشعر الإنسان بضعف الشهية ونحول الجسم، فيقوم بمراجعة الطبيب لأخذ بعض الفيتامينات، ورُبَّما يكتشف الطبيب أنه يعاني الاكتئاب، علمًا بأن نقص الغذاء والفيتامينات قد يؤدي إلى الاكتئاب أيضًا.
ويمكن أن نجمل أعراضالاكتئاب بما يلي:
(شعور بالحزن والملل والتشاؤم، والتفكير بالموت بشكل مبالغ فيه، مع ضعف التركيز والذَّاكرة، والعزلة والكسل، وربَّما الغضب السريع[7]، واضطراب النوم)، وإذا لم يراجع المريضُالطبيبَالنفسي، فقد يتطور الأمر، ويبدأ المريض بالتفكير بالانتحار.
وعلى كل حال، فالطبيبالنفسي هو الذي يحسم الأمر، ويكون خير معين للمريض على تجاوز محنته، وهنا تأتي مشكلةنظرة أكثر شرائح المجتمع إلى مُراجعة الطبيبالنفسي، فهي بكل أسف: سلبية في أكثر مُجتمعاتنا، ويرى بعضُ الناس أن مراجعة الطبيبالنفسي: كارثة تهدد سمعة العائلة!!؟، مع أن الأمر سهل ويسير، وفي المجتمعات المتقدمة نرى أحدَ الزوجين لو اختلف مع شريك حياته يُراجع الطبيبالنفسي؛ ليتأكد من عدم وجود اضطراباتنفسية لديه أدَّت إلى ذلك الخلاف، فعلينا أن نكون أكثر واقعية، ونسأل أنفسنا السؤال التالي:
ما الفرق بين مرض الجسم ومرضالنفس؟، وهل رعاية النفس تقل أهمية عن رعاية الجسم؟:
كم من آلامنفسية، واضطرابات في حياة الإنسان تحولت إلى ابتسامات وسعادة، وتلاؤم مع المجتمع بعد مُراجعة الطبيبالنفسي الذي يتعامَلُ مع المريض بسرِّية تامة، ويكون له نعم الناصح والمستشار والمعين على تجاوز تلك المحنة، كما أنه يُمكن لمن يراجع الطبيبالنفسي أن يفتح ملفًّا لديه دون إعطاء الاسم الصريح.
أطفالنا والاكتئاب:
تربية الأطفال مسؤولية وأمانة يشترك في أدائها الزَّوجان، ولا ينبغي أن نترك الاكتئاب يقتحم عالم البراءة، ويصل إلى أطفالنا، ولا شَكَّ أن الوالدين يتحمَّلان المسؤولية في ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر؛ لأنَّ أكثر إصاباتالأطفال لن تخرج عن الأسباب التالية:
1-المشاكل العائلية والعنف بين الزوجين، أو الانحراف السلوكي لأحدهما.
2- قدوم مولود جديد يُؤدي إلى إيقاظ الغَيْرة عند الطفل إذا لم يتفهم الأبوان المشكلة، ويُحاولان تَجنيب الأطفال دواعيَ الغَيْرة قدر الإمكان.
3-فقد أحد الأبوين بالطلاق أو الموت - لا قدَّر الله - وهنا يحتاج الطفل إلى مزيد من الرعاية والحنان؛ لتعويضه عما فاته قدر المستطاع.
4-مشاكل المدرسة، وأصدقاء السوء، وهذه المشاكل تتطور وتتراكم؛ بسبب إهمال الأهل لمتابعة الابن، وعدم زيارة المدرسة على فترات للاطمئنان على سلوكه ودراسته.
5-تعرضالطفلللعنف، أو الانحراف السلوكي القسري "الاغتصاب"، وهنا يحتاج الطفل إلى مزيد من العناية، والرِّعاية؛ لمساعدته على تجاوز هذه المشكلة، وبراعة الطبيب أهم ركن في عملية علاجالطفل، فهو يساعد الأهلَ على تفهم المشكلة، والوصول بالمريض إلى بر الأمان بإذن الله، ولا ينبغي إهمالإصاباتالأطفال بالاكتئاب؛ "لأن الحالة إذا تطورت، فربما تُؤدي بالطفل إلى الانتحار"[8]، كما أنَّ بعض الأطفال يُحاولون إخفاء حالة الاكتئاب لديهم؛ بسبب خوفهم من الطبيب المعالج[9]، أو الحذر من التعامُل معه؛ ولذلك لا بد من التلطف مع الطفل، واستعمال التدرُّج لإقناعه بمراجعة الطبيب، وربَّما يفيدُ في هذه الحالة، أن يُقَدَّم الطبيب على أنه صديق للأسرة؛ حيثُ يقوم بالزيارة الأولى للبيت لتجاوز حاجز الخوف عند الطفل.
المراهقة والاكتئاب:
قد لا يظهر الاكتئابُ عند المراهق أو المراهقة بأعراضه الحقيقيَّة، وقد يكون مقنَّعًا؛ فيظهر على شكل شعور بالملل الدائم الذي لا يُطاق، تتخلله فترات من العصبية (النرفزة) أو اضطراب الشهية أو النوم، مع صعوبة التركيز[10]، دور الأبوين مهم جدًّا في هذه المرحلة العمريَّة الحسَّاسة؛ فبث الشعور بالثقة وإعطاء الاحترام اللازم للمراهق، ومنحه الدفء العاطفي والحنان، والتعامل معه كصديق مخلص، كل هذا سيؤدي إلى تجاوُز هذه المشكلة؛ بتوفيق الله - تعالى - وربَّما قبل الوصول إلى الطبيب.
الاكتئاب الموسمي:
بعض الناس يرتبط اضطراب المزاج لديهم بأحد فُصُول السنة، وتغيرات البيئة، واختلاف المناخ، وبعضهم يتعرضون للاكتئاب في الشتاء، ثم ما يلبثون أن يعودوا إلى حالتهم الطبيعية مع قدوم فصل الربيع.
كبار السن والاكتئاب:
ربَّما يُمثل المسنون أكثرَ الفئات العمرية تعرضًا لحالات الاكتئاب؛ بسبب التقاعد وانفصال الأولاد، وتراجُع الحالة الصحية، وعدم القُدرة على المشاركة في الأنشطة الاجتماعيَّة، والعزلة[11]، كما أنَّ هناك سببًا مهمًّا، وهو: فُقدان الشعور بالاهتمام؛ إذ تنطفئ الأضواء عن الشخص عند إحالته للتقاعُد في بعض المجتمعات، ويكف الهاتفُ عن الرَّنين، وربَّما ينشغل كثير من الأصدقاء عنه، وهذا يشكل صدمة غير متوقعة، وخاصَّة من الذين أحسن إليهم وخدمهم؛ فقد يتعرض المسن للإصابة بالاكتئاب لهذا السبب.
ولا بد أن يكون دور الأبناء في هذه الحالة إيجابيًّا، فيجب أن يولوه العناية، ويمنحوه كثيرًا من الاحترام والتقدير؛ حتى لا يتفاقم الأمر، ويبدأ التفكير بالانتحار.
يقابل هذه الحالة بالنسبة للمرأة:( اكتئاب سن اليأس)، وهو أمر معروف لدى بعض النساء، ويفضل مراجعة الطبيبةالنفسية؛ للتأكد من الحالة وإعطاء العلاج اللازم.
اكتئابما بعد الولادة:
يحدث هذا النوع من الاكتئاب عند بعض النساء بعد الولادة، وأحيانًا خلال فترة الحمل، ولا بد من مراجعة الطبيبة، وعدم تناول العقاقير الطبية إلا من خلال الإشراف المباشر لها؛ إذ لا ينصح بتناول الأدوية إلا في حالات خاصة جدًّا تقدرها الطبيبةالمختصة.
كما يَجب الانتباه هنا لحالات الاكتئابالطارئة التي تسبق الدَّورة الشهرية عند المرأة؛ لأن عدم تفهم هذا الظرف الطارئ قد يؤدي إلى خلافات بين الزوجين ليس للمرأة ذنب مباشر فيها، ومع تفهُّم الزوج للأمر، ومُراعاة الحالة النفسية لزوجته، في تلك الأيام التي تسبق الدورة الشهرية، سيؤدي ذلك إلى تلاؤم نفسي أكبر، وتجاوز لكثير من المشكلات الزوجية.
علاقة الاكتئاب بالصداع النصفي:
توصَّل بعض الباحثين إلى وجود علاقة بين الصُّداع النصفي والاكتئاب؛ حيث لاحظوا إمكانية تعرض مريضالاكتئاب للصداع النصفي؛ لكنَّهم لم يستطيعوا الجزم بذلك على سبيل اليقين، كما أنهم لم يستطيعوا أن يعرفوا أيَّهما يتسبب في الآخر، أو بمعنى آخر: هل الاكتئاب يؤدي للصداع النصفي، أو الصداع النصفي يؤدي للاكتئاب؟.
وعلى أي حال: يحسن التنبه لهذا الأمر خلال فترة العلاج.
يتبع إن شاء الله.
علاجالاكتئاب: