تاريخ علم المثلثات عند المسلمين
23-10-2019, 03:35 PM


المسلمون وعلم المثلثات
لا جرم أن دراسة علم المثلثات بشكل علمي منظَّم مستقلٍّ عن الفَلك ترجع إلى العلماء المسلمين، تؤكد هذه الحقيقةَ شهادةُ مؤرخ العلوم الشهير جورج سارتون حيث يقول: "إن أعظم الابتكارات العربية في الرياضيات والفَلك كانت شيئين: علم الحساب الجديد، وعلم المثلثات الجديد... وقد وقع جمْعُ العلماء المسلمين بين المصدرين اليوناني والسنسكريتي، ثم ألقحوا الآراء اليونانية بالآراء الهندية".

فاليونانيون لم يتجاوزوا في علم المثلثات حدَّ اكتشاف بعض النِّسب في المثلثات المنتظمة. أما الهنود فقد تقدموا في علم المثلثات شوطًا أطول فيما يتعلق بقياس الجيب؛ (قياس الزاوية المفروضة بالضلع المقابل لها مقسومًا على الوتر في المثلث القائم للزاوية).

أما المسلمون، فكان أول ما فعلوه في المثلثات تنظيم المعلومات التي تناولوها من الهنود بخاصة، ثم جعلوا منها علمًا خاصًّا مستقلاًّ عن علم الفلك، وكان مما أخذه المسلمون عن الهنود الجيب، فحلَّ عندهم محل وتَر ضعف القوس، الذي كان يستعمله اليونان.

وكان لهذا الاستخدام فوائدُ عظيمة في تسهيل حلول المسائل الرياضية المتعلقة بذلك.

ابتكارات المسلمين في علم المثلثات
والمسلمون هم أول من أدخل الظل (المماس)؛ أي قياس الزاوية المفروضة بالضلع المقابل لها، مقسومًا على الضلع المجاور في المثلث القائم الزاوية، واستنبطوا ظل التمام، وهو قياس الزاوية المفروضة بالضلع المجاور، مقسومًا على الضلع المقابل.

من أجل ذلك؛ عُرف علمُ المثلثات عند العرب بعلم الأنساب أيضًا؛ لأنه يقوم على الأوجه المختلفة الناشئة من النسبة بين أضلاع المثلث.

لم تقتصر جهود المسلمين على دراسة المثلثات المستوية، بل تناولوا المثلثات الكروية القائمة الزاوية، وعرفوا القواعد المختصة بها مع نهاية القرن الثالث الهجري.

ومن ثم؛ تمكنوا من حل المسائل المختصة بعلم المثلثات الكروية القائمة الزاوية.

ويشهد لوكي lucky للعلماء الرياضيين المسلمين بالعمل المستقل الذي أحدث انقلابًا في علم المثلثات؛ إذ يقول: "لقد وُضِعت في عام ألف للميلاد (٣٩٠هـ) معادلات تربط بين دوالي أضلاع وزوايا المثلث الكروي، وبخاصة وضع الجيب الفَلكي، فقد حل المثلث في هذا الصدد محل ذي الأضلاع الأربعة المتكامل الصعب، كما حلت أربعة حدود فقط محل ستة حدود في مساواة منلاووس، فهنا نجد مولد علم المثلثات الفلكية الحقيقية أو حساب المثلثات الكروية".

وقد أشار لوكي إلى أن المسلمين توصلوا -نتيجةَ بحوثهم تلك- إلى معرفة المثلث القطبي الذي أدخله (سنليوس/snellius) أوربا من قبل في القرن الحادي عشر للهجرة/ السابع عشر للميلاد.

جهود أبي الوفا البوزجاني
وفي كتاب المجسطي الذي وضعه أبو الوفا البوزجاني أول دراسة منهجية مستقلة لأصول علم المثلثات، أورد أبو الوفاء -في كتابه هذا- طريقةً استقرائية جديدة في حساب جداول الجيب والظل وظل التمام.

جهود ابن يونس المصري
كذلك عمل ابن يونس المصري جداول مثلثية رفيعة المستوى، فضلاً عن أنه (ابن يونس) وضع المساواة المثلثية الآتية:

وكان لهذه المساواة -كما يذكر سوتر- "منزلة كبرى -قبل اكتشاف اللوغريتمات- عند علماء الفَلَك في تحويل العمليات المعقدة لضرب العوامل المقدرة بالكسور الستينية في حساب المثلثات إلى عمليات (جمع).....".

ويذكر يوشكفيتش juschkewitsch وتروبفكه tropfke أن هذه المساواةَ نفسها التي استخدمها تيخوابراه Tycho Brahe نحو عام ٩٨٨هـ/١٥٨٠م.

وقد برع أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس المصري (ت ٣٩٨هـ/١٠٠٧م) في علم المثلثات وأجاد فيه، وبحوثه فيه فاقت بحوثَ كثير من العلماء، وكان لها منزلة رفيعة عند الرياضيين، وأثرٌ كبير في تقدم علم المثلثات، وفي زمنه استعملت الخطوط المماسة في مساحة المثلثات.

جهود جابر بن الأفلح
وممن نبغ في علم المثلثات بعامة، والمثلثات الكروية بخاصة: العالم الفلكي جابر بن الأفلح (أبو محمد، توفي نحو منتصف القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي)، كان له أثرٌ كبير في تقدم علم المثلثات خلال عصر النهضة في أوربا؛ حيث كان له بحوث مبتكرة، لم يُسبَق إليها، تستعمل في حل المثلثات الكروية القائمة، وزاد معادلة على المعادلات الأربع المنسوبة إلى بطليموس، وجعل قاعدة "الأبعاد الأربعة" أو "الأقدار الأربعة" في حسابه الخاص بالمثلثات الكروية أساسًا لاستخلاص قوانينه، فوضع مساواة مثلثية جديدة لم يسبقه إليها أحد، عرفت في الغرب "بنظرية جابر".

تعطى بالمعادلة الآتية:

جتا١= جتا أَ × جا ب

وما هذه المعادلة إلا إحدى المعادلات الست التي تستعمل في حل المثلثات القائمة الزاوية، تلك المعادلات التي شرحها الطوسي في كتابه "شكل القطاع".

فضل العلماء المسلمين على الباحثين الأوروبيين
ومما لا شك فيه أن بعض الباحثين الأوربيين اطلعوا على مآثر المسلمين في المثلثات، ونقلوها إلى لغاتهم، ولعل أول من أدخلها ريجيومونتانوس regiomontanous (ت٨٨١ هـ/ 1476م)؛ فقد ألَّف فيها وفي غيرها من العلوم الرياضية، وكان أهمها "كتاب المثلثات De triangulis amnimodis"، وقد ادعى أن هذا الكتابَ من مستنبطاته، إلا أن البحث والدراسة أكدا -كما يذكر سزكين نقلاً عن تروبفكه Tropfke- أن ريجيومونتانوس أخذ الكثيرَ من كتاب جابر بن الأفلح، بل إنه أخذ الأشكال بحروفها الأبجدية كما وردت في "كتاب الهيئة" لجابر.

ومما يذكر أخيرًا أن المساواة التي استخرج الكاشي بواسطتها مقدار الدرجة الواحدة -فكان ٠١٧٤٥٢٤٠٦٤٣٧٢٨٣٥١،٠ بالتقدير الدائري - وردت عند فيته viete.

وهذه المساواة تعطى بالشكل الآتي:

هذا، ويذهب سميث smith إلى القول في كتابه "تاريخ الرياضيات": إنه من المحتمل جدًّا أن العرب عرفوا العلاقة المثلثية الآتية:

ومن الأمور المهمة التي أنجزها علماء الرياضيات المسلمون كذلك إيجادُهم بعض العلاقات بين الجيب وبين الظل؛ فقد أوجد أبو الوفا البوزجاني (٣٨٨هـ/٩٩٨م) طريقةً جديدة لحساب جداول الجيب تؤول إلى قيمٍ تدل على المستوى الرفيع الذي وصل إليه علمُ المثلثات عند المسلمين.

ويَدين الغربُ للمسلمين في معرفة طريقة حساب جيب زاوية تساوي ٣٠ دقيقة؛ فقد وردت قيمتها في الجداول التي وضعها أبو الوفاء البوزجاني، ثمانية أرقام عشرية، وهذه القيمة تتفق مع القيمة الحقيقية للجيب.

جهود البتاني
ومن مبتكرات المسلمين أيضًا إيجادُ قيم الزوايا بطرق جبرية؛ فقد تمكن البتاني (ت٣١٧هـ/٩٢٩م) من معرفة الزاوية م في العلاقة المثلثية الآتية:

وهذا يدلُّ على خصب قريحة البتاني، وهضْمِه لبحوث الهندسة والجبر والمثلثات هضمًا نشأ عنه الإبداعُ والابتكار.

جهود ابن الهيثم
ولابن الهيثم أعمال جديرةٌ بالذكر في مجال علم المثلثات، وبخاصة تطبيق ما يسمَّى شكلَ ظل التمام في المثلثات الكروية على المثلث الكروي لسطح الأرض، وبذلك فقد سبق ابنُ الهيثم - على رأي تروبفكه Tropfke - فيته viete الذي جدَّد تطويره.

هذا، ويُعزى إلى ابن الهيثم رسالة وُجدت ترجمتها باللغة اللاتينية بعنوان: De"cre pusculis، وهي استخراج ارتفاع طبقة الهواء (الجو) باستخدام علم المثلثات، كان لها -منذ طباعتها في ليزابون lissabon عام ٩٤٩هـ/١٥٤٢م- تأثيرٌ عظيم على الغرب؛ فابن الهيثم في هذه الرسالة يُعَد -كما يذكر schramm- أول فيزيائي على الإطلاق قام بأول خطوة في إدراك مفهوم الجو بالمعنى الفيزيائي.

قد تعزى هذه الرسالة إلى أبي عبد الله محمد بن يوسف بن أحمد بن معاد، أيًّا كان فإنها تعزى في كل الأحوال إلى عالِم مسلم.

جهود نصير الدين الطوسي
ولقد ألَّف نصير الدين الطوسي كتابًا في المثلثات، فريدًا في بابه، فريدًا من نوعهِ، وهو "كتاب الشكل القطاع" ترجمه الغربيُّون إلى اللاتينية والفرنسية والإنكليزية، وبقِيَ قرونًا عديدة مصدرًا لعلماء أوروبا يستقُون منه معلوماتِهم في المثلثات المستوية والكروية على السواء.

شهادة سيديو في إنصاف المسلمين
وأخيرًا، فإن "سيديُّو" أنصف المسلمين إذ قال: "زُعِمَ -في زمن غير قصير- أن العرب لم يصنعوا غير استنساخ مؤلَّفات اليونان، ولا يؤيد مثلَ هذا الزعم في الوقت الحاضر غيرُ جاهلٍ ضالٍّ، فنشكر لمدرسة بغداد ما خلعتْه من شكل على علم المثلثات الكروية، فضلاً عن حفظِها لأهم مؤلفات علماء الإسكندرية".

شبكة الألوكة.