لازم القول هل يقتضي التبديع؟للشيخ أبو عبد الباري عبد الحميد الجزائري
03-04-2009, 03:20 PM
لازم القول هل يقتضي التبديع؟


الحمد لله العلي الكبير، المتعالي عن المثيل والنظير، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، أحمده تعالى على فضله الوفير، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله البشير النذير، وعلى آله وأصحابه الذين اقتفوا آثاره وسلكوا السبيل المستنير.
لقد دارت في ديارنا بقوة في الآونة الأخيرة مسألة لازم القول هل يقتضي التبديع؟، وخاض فيها بعض أبنائنا بتعسف شنيع، وجهل فضيع، فآل بهم الأمر إلى هجر بعضهم بعضا والرمي بالتبديع، وكان الواجب في حقهم أن يعيدوا القوس إلى باريها، ويخلعوا من ربقتهم لوازم مسألة أعيت من ولجها من غير بابها، مسألة جعلها أهل الأهواء سلاحا في أديهم وكفروا بها السلف بباطل لازم القول، وأرهبوا بها الضعفاء والمسكين، بل حين غمسوا أنفسهم في حوضها بلا رشد ولا سداد، عاشوا بقية حياتهم في حيرة واضطراب، مذبذبين بين الباطل والصواب، في حفرة الظنون والشكوك واللُهاب، فأحببت أن أجلي جانبا منها بشيء من الاختصار بعيدا عن الإطناب، ولعلها تطرح على علمائنا فيكشفوا عنها النقاب بشرح وإسهاب، والله أسأل أن يوفقنا إلى الصواب، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
1 /اللازم: هو ما يمتنع انفكاكه عن الشيء [التعريفات].
- وقد يكون اللازمُ بيناً، وهو الذي يكفي تصوره مع تصور ملزومه في جزم العقل بالملزوم بينهما.[ المسوّدة].
- وقد يكون غيرَ بينٍ، وهو الذي يفتقر جزم الذهن باللزوم بينهما إلى وسط.
ومسالة لازم القول هل هو لازم أم لا؟ بحثها العلماء في أبواب الاجتهاد والتقليد، خصوصا علماء الأصول من الحنابلة عند كلامهم عن لازم الفتوى هل يعمل بها أم لا بد من نص المفتي على ذلك[ حقيقة البدعة].
وأما في مسائل الاعتقاد، فإنك تجد أقوال علماء أهل السنة والجماعة في بعض الأحيان فيها العمل باللازم، لا سيما في مواضع الحجاج والمناظرة مع المبتدعة، وفي أحيان أخرى تجدهم ينفون اللازم ولا يعملون به. [حقيقة البدعة].
تنبيه: وأما وجه قولهم باللازم فمحصور في اللازم البين والجلي الذي لا يتصور انفكاكه عن الملزوم، وذلك من أجل إلزام المبتدع ما لا يستطيع معه أثناء الحجاج والنقاش إلا التسليم والخضوع، لأن اللازم الفاسد يدل على فساد الملزوم، وفارس القول بإدانة المحاج باللازم البيّن هو العالم النحرير الخبير بأقوال أهل البدع ومن شايعهم، لأن بعض المبتدعة وخاصة في هذا العصر صار عندهم من الحيل ما يدلسون به على خاصة الناس ناهيك عن عامتهم، فلا يمكن أن يتفطن لغور مراميهم الفاسدة إلا العلماء، كما قال البربهاري في طبقات الحنابلة(2/44) وفي المنهج الأحمد(2/37): (مثل أصحاب البدع مثل العقارب، يدفنون رؤوسهم وأبدانهم في التراب، ويخرجون أذنابهم، فإذا تمكنوا لدغوا، وكذلك أهل البدع، هم مختفون بين الناس، فإذا تمكنوا بلغوا ما بريدون).
ومن أمثلة إدانة المخالف باللوازم الجلية ما ذكره شيخ الإسلام عن ملاحدة الفلاسفة، وملاحدة المتصوفة وأتباعهم الذين يزعمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما بين الأصول، ولا عرف الناس بأعظم أمور الدين: ((وهؤلاء الملاحدة ركبوا مذهبا من دين المجوس، ودين الصابئين، ودين رافضة هذه الأمة، فطافوا على أبواب المذاهب وفازوا بأخس المطالب، فإنهم يبطنون من مناقضة الرسل وإبطال ما جاؤوا به، ما لم يبطنه أتباع بولص وأمثاله من النصارى، ومن لم يصل إلى هذا الحد من ملاحدة المتكلمين والمتعبدين ونحوهم، فقد شاركهم في الأصل، وهو تفضيل أئمته وشيوخه على الأنبياء، ومن لم يقر منهم بتفضيل أئمته وشيوخه على الأنبياء لزمه ذلك لزوما لا محيد عنه، كما تقدم إذا جعل العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله والمعاد لا يستفاد من خطاب الأنبياء وكلامهم، وبيانهم وطريقهم التي بيّنوها، وإنما يستفاد من كلام سيوخه وأئمته))
وهذا مثال على أخذ أهل السنة والجماعة باللازم وقولهم به، وهو يتوجه إلى اللازم البين والجلي الذي لا يتصور انفكاكه.
ومن هذا الباب أدان علماء السنة بعض الفرق المعاصرة كالخوارج الجدد والسروريين بلازم أقوالهم وإن لم يتفوّهوا بها، لجلاء اللازم وعدم انفكاكه عن الملزوم.
أما وجه رد أهل السنة للازم فمتوجه إلى اللوازم الفاسدة التي لا صلة لها بالملزوم، وكذا لوازم المبتدعة التي يريدون بها نفي دلالات الكتاب والسنة الصحيحة، كلوازم أهل الكلام في نفي الصفات، أو تأويلها، من مثل قولهم: إثبات الصفات يلزم منه تشبيه الخالق بالمخلوق، وقولهم العلو يلزم منه أنه تعالى في جهة، والجهة مكان مخلوق يحيط بمن فيه، وكقولهم النزول يلزم منه التحيز والانتقال.
ومن اللوازم الفاسدة التي نفها أهل السنة، ونطق بها بعض الصغار، كقولهم: إذا اشترى رجل من عند سروري غرضا يلزم أنه سروري، إذا خطأ ناقد أبا الحسن وشنع عليه القول وحذر منه، وعده دسيسة، ولكنه لم يتصول إلى تبديعه فهو مأربي بل أخبث منه، وإذا طالب الناس بالتحلي بالأدب، واستعمال الألفاظ الشرعية في الحكم على المخالف، والرفق ببعض المخالفين لقرائن ظهرت كجهلهم بالمنهج السلفي، وقوة الشبهة الواردة عليهم، والسعي إلى تعليمهم ورفع العذر عنهم، وتبصيرهم بالحق، رموه باللازم وقالوا أنه: مميع. وهكذا.
ومنه فليحذر طلبة العلم السلفيين من التشنيع على بعضهم البعض باللوازم الباطلة، كرمي من تحلى بالرفق بالتميع، ومن تحلى بالشدة على أهل البدع بالحدادية، بل لابد أن يكون اللازم بينا واضحا لا ينفك عن الملزوم حتى يمكن لنا أن ندين به المخالف، فمن رأيناه يرمي علماء السنة بكل قبيحة، ويشنع بطلبة العلم السلفيين، وينتقصهم من أجل غرض دنوي، ويرمي كل من خالفه بكبرى البوائق، فهذه لوازم جليه أنه على منهج الحداد وإن لم يتلفظ به،أو زعم أنه بريء من منهجه. وكذلك إذا رأينا الرجل يتماوت أمام أهل البدع الواضحين الذين لا يختلف فيه اثنان، ويثني عليهم، ويتقرب منهم من أجل قرش أو قرشين، ويدعي مصلحة الدعوة، وهو في قرارة نفسه يدري أنه يسعى لمصلحته الخاصة، ويرفض كلام أهل العلم المختصين في المخالفين، ويدعي أنه لا يقبلها حتى يقف بنفسه، ويناقش المخالف فيها تحت اسم العدل والإنصاف، ثم يحيط نفسه بقواعد خرقاء ليحمي نفسه من سيوف أهل السنة؛ كقوله: إذا دعوت أجرت، وإذا حكمت حكمت، ونصحح ولا نجرح، وغيرها من القواعد العمياء التي ينتظرها أهل البدع بشغف حتى يحتموا بها، فهذه لوازم جلية تجعلنا نحكم على من اتصف بها بأنه مميع هالك يريد أن يجمع بين الحق والباطل.
وها أنا أذكر لك بعض الأمثلة التي رد فيها أهل السنة للازم لفساده، ما حصل للإمام أحمد حين ناظر بعض الجهمية في مسألة خلق القرآن هوأبو عيسى محمد بن عيسى برغوث، وقال: إذا كان غير مخلوق لزم أن يكون لله جسما وهذا منتف، فلم يوافقه أحمد لا على نفي ذلك ولا على إثباته بل قال: ((قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد)). و نبه الإمام أحمد على هذا اللفظ: لا يدرى ما يريدون به، وإذا لم يعرف مراد المتكلم به لم يوافقه؛ لا على إثباته، ولا على نفيه.[ مجموع الفتاوى5/429].
وإنما ترك الإمام أحمد هذا اللازم الفاسد الذي قاله هذا المبتدع لئلا يرد بدعة ببدعة.
ولننظر إلى حال بعض الناس من أهل السنة أرادوا أن يردوا على المبتدعة باللوازم الفاسدة فوقعوا في بدعة الغلو والتبديع، والتشنيع على إخوانهم من أهل السنة من غير وجاع.
ومن أجل ذلك أشتد نكير علماء السنة على المعول على اللوازم الفاسدة في الاحتجاج والإنكار ولو كان من المبرزين في العلم، وعدوا هذه المستخرجات العقلية المسماة باللوازم من الأغلوطات وحذروا منها أشد التحذير، أما إذا كان الرجل معروفا بالبدعة زاد نكيرهم عليه، ازداد تحذيرهم منه.
ومن المستخرجات العقلية التي عدها العلماء أغلوطات ما حصل للامام محمد بن يحي الذهلي في حق الإمام محمد بن إسماعيل البخاري في مسألة اللفظ.
قال العلامة الذهبي بعد أن ساق الخلاف بين هذين الإمامين؛ قلت: (المسألة هي أن اللفظ مخلوق، سئل عنها البخاري فوقف فيها، فلما وقف واحتج بأنّ أفعالنا مخلوقة، استدل لذلك، فهم منه الذهلي أنه يوجه مسألة اللفظ، فتكلم فيه، وأخذه بلازم قوله هو وغيره.[ السير12/457].
وهذا اللازم الذي شنع به الإمام الذهلي على البخاري فاسد، وقول البخاري في هذه المسألة هو قول أهل السنة والجماعة لا غبار عليه.
قال الحافظ ابن نصر الدين الدمشقي(م842هـ): (ولقد قال إمام التعديل والجرح، والمعتمد عليه في المدح والقدح، أبو عبد الله محمد بن الذهبي فيما وجدته بخطه: ولا ريب أن بعض علماء النظر بالغوا في النفي والرد والتحريف والتنزيه بزعمهم، حتى وقعوا في بدعة، أو نعت الباري بنعوت المعدوم، كما أن جماعة من علماء الأثر بالغوا في الإثبات وقبول الضعيف والمنكر، ولهجوا بالسنة والإتباع، فحصل الشغب، ووقعت البغضاء، وبدّع هذا هذا، وكفر هذا هذا، ونعوذ بالله من الهوى والمراء في الدين، وأن نكفر مسلما موحدا بلازم قوله وهو يفر من ذلك اللازم، وينزه ويعظم الرب، انتهى قول الذهبي)[الرد الوافرص49].

وكتبه أبو عبد الباري عبد الحميد أحمد العربي الجزائري .