•• الْـخِـطَـابُ الإِسْـلاَمِـيّ المُـعَـاصـرُ
18-04-2021, 10:54 AM
•• الْـخِـطَـابُ الإِسْـلاَمِـيّ المُـعَـاصـرُ

ـــــ بقلم الدكتور : طه جابر العـلواني ــــ



كَـثُـر الكلام فى الآونة الأخيرة عن الخطاب الدينى ونقد ذلك الخطاب وبيان ما فيه من ثغرات اعتبرها الكثيرون مسؤلة عن إصابة ما سمّوه بـ ( الخطاب الدينيّ ) بالعجز عن الوصول إلى الناس وإحداث أىّ تأثير فيهم عقليّ أو نفسيّ، ويعتبرون ذلك العجز مسؤلاً عن الفراغ الذى أدّى إلى شيوع وانتشار العديد من الخطابات البديلة التى امتلأت الساحة بها، وصار بعضها بديلاً عن الخطاب الدينيّ، أو أنّه احتل مكانه بحيث يمكن الاستغناء عن ذلك الذى كان يسمى بـ"الخطاب الدينيّ".
ـــ تحديد المراد بالخطاب الدينيّ لغة :

وردت مادة «خَطَب»: في التنزيل للتعبير عن معان عديدة؛ منها: «المراجعة والمرادّة في الكلام» مثل الحالة التي وصفها التنزيل بـ ]يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ[(سبأ:31)، ]وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ[(ص:23) أي: شدّد عليّ في المراجعة والأخذ والردّ، مرورًا بـ «خطبة النساء» وبالـ«خطبة» يلقيها من يوصف بأنّه «خاطِبٌ في الأولى وخطيب في الثانية» وبالـ«خَطْب» أي: الأمر الخطير الَّذِي يكثر فيه التخاطب والأخذ والردّ: ]فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ[(الحجر:57) وصولا إلى ]وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ[(ص:20) أي: مَا يضع حدًّا للمراجعة والمرادّة وينفصل به الأمر.
والقرآن المجيد عرّفه علماء “أصول الفقه” بأنَّه: «خطاب الله -سبحانه وتعالى- وكلامه» المنزّل على مُحَمَّد -صلى الله عليه وآله وسلّم- المتحدّى به، المتعبد بتلاوته، الَّذِي لم يستطع الإنس والجنّ أن يأتوا بمثل سورة واحدة من مثل سوره وإن قصرت، لا اختلاف فيه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فيه نبأ من قبلنا وخبر من بعدنا وحكم مَا بيننا. ولهذا الخطاب الإلهيّ تعلُّقات عديدة، فإن تعلق بأفعال المكلَّفين اقتضاءً أو تخييرًا كان حكمًا قرآنيًّا شرعيًّا؛ وإن تعلّق بـ «الإيمان» كان حكمًا قرآنيًّا عقديًّا، وإن تعلّق بالغيب فقد تعلّق بـ «عالم أمره -سبحانه وتعالى» وقد يتعلّق بالتعبير عن «عالم إرادته-سبحانه وتعالى» وعن «عالم خلقه» وتسخيره، وقد يتعلق ببناء الأمم والحضارت وإحداث حالة العمران.
وقولهم: «الدينيّ» وصف للخطاب: بأنّه خطاب يصاغ انطلاقًا من «دين» فهو بذلك يقابل سائر أنواع الخطاب التي لا تنطلق من دين، ولا تنبثق عنه. وفي أقدم مَا قاله المتصدّون للتفسير من المتقدمين لمفهوم «دين» أنّه يراد به في الاستعمال القرآنيّ خمسة معان.
أولها: «التوحيد» ]فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ[(الزمر:2)، ]إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ[(آل عمران:19)، ]ادَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ[(يونس:22).
ثانيها: «الحساب»: [مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ] (الفاتحة:4)، [هَذَا يَوْمُ الدِّينِ] (الصافات:20).
ثالثها: «الحكم» ]وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ[(النور:2).
رابعها: «الدين» بمعناه الشامل أي: مَا يدين الناس به لربّهم، وما يدين الله عباده به: ]لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[(التوبة:33) فهو هنا مَا يقابل الشرك والكفر وهو بهذا يصبح نظامًا كاملا للحياة.
خامسها: «الملّة» [مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ] (الحج:78). والأمّة قد تطلق على الملّة، وقد يراد بـ «الملّة» الأمّة؛ كما قال تعالى: ]وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ[(آل عمران:58)، وقوله: ]إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ[(آل عمران:19) ففي هذه الآيات يتجه المعنى نحو «الملّة والأمّة» التي أمر إبراهيم بتكوينها بهذا الدين، وجُعل للناس إمامًا بها واستثنى الظالمون لأنّهم ليسوا ملتزمين بالدين ولا بالملّة فكأنّهم خانوا عهدهم مع الله –سبحانه وتعالى.
فهذا الخطاب ينبغي أن يلاحظ فيه التوحيد، فالأصل فيه أن يكون خطابًا يحرّر الإنسان وجدانًا وقلبًا وعقلا ونفسًا وجسدًا من الخضوع لغير الله الواحد الأحد الفرد الصمد، فهو خطاب يخرج الناس من عبادة غير الله، أو توهم وجود أيّ شيء يمكن أن يؤثر على الإنسان خارج السنن الإلهيّة، والقوانين الربانيّة.
ولا بدّ لهذا الخطاب أن يتمثل سائر أبعاد التوحيد وتجليّاته في سائر الجوانب. كما أنّه خطاب جاد هادف يحاسب الإنسان عليه ويجازى، وعلى الالتزام به يتوقف مصير الإنسان في الدار الآخرة. وهو خطاب ينشئ أمّة ويوجد ملّة، ويحمل في ثناياه منطلقات ووسائل تجديدها، فهو خطاب متنوّع الأبعاد متشعّب الآثار في سائر مجالات الحياة.
ـــ خطاب دينيّ أم خطاب إسلاميّ؟
إنَّ الإسلام الذى انطلق من الجمع بين القراءتين لم يضع خطوطا فاصلة بذلك الشكل الحاد الذى نشهده فى عصرنا هذا بين ما يسمى بخطاب دينيّ وخطاب دنيويّ أو مدنيّ أو ما إلى ذلك. وما بنبغى للإسلام أن يفعل لأنَّ الإسلام يخاطب الإنسان فى كينونته الكاملة، فلا يجزئ الإنسان ولا يقطعه أعضاءً ليوجه لكل جزء أو جانب خطابًا يخصه أو يعالج قضاياه ويهمل الأعضاء الأخرى لأنَّ الإنسان وحدة كاملة.
والخطاب الذى يوجه إليه يجب أن يكون خطابًا تامًا كاملاً يخاطبه فى كينونته وتمامه وكماله. فالتسمية بحد ذاتها تحتاج إلى إعادة نظر وإذا استعملناها كما يفعل غيرنا فإننا نستعملها على سبيل التنزيل لا غير، ولكى نخاطب الناس بما شاع بينهم وصار معروفًا لديهم بقطع النظر عن ملاحظتنا عليه وفيه.
ولما تقدم، فإنّنا نفضّل أن يطلق الناس على مفهوم «الخطاب» «الخطاب الإسلاميّ» مثلاً بدلًا من «الخطاب الدينيّ» لأنّ«الخطاب الدينيّ» - إضافة لما ذكرنا- قد يتناول الأديان كلّها من إسلام ويهوديّة ونصرانيّة وذلك لاشتراكها في الذهن الغربيّ في إمكانيّة إفراز الخطاب المتطرّف أو الخطاب القائم على الغلوّ.
ولا شك أنّ الخطاب الدينيّ لليهوديّة خطاب طفح بالغلوِّ واقترن بنوع من العنصريّة العرقيّة للمزج البارز بين القوميّة والدين؛ ولذلك انتهى ذلك الخطاب بضرورة تأسيس دولة تقوم على العرق الممتزج بالدين لتكون الدولة اليهوديّة التي من شأنها أن تستجيب للتطلُّعات والأشواق الروحيّة لدى اليهوديّ والغرور والاستعلاء العرقيّ الَّذِي عبّروا عنه وما يزالون بقولهم: [نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ] (المائدة:18).
وفي الوقت نفسه نجد فئآت نصرانيّة غالية كثيرة قامت على المفاهيم ذاتها، فهي ترى المسيحيّة خلاصًا للعرق الأبيض وتخليصًا متَّصلا به من ذلك العرق للآخرين. فإذا أريد البحث في «الخطاب الدينيّ» وما يمكن أن يحمله من هذه النزعات الشاملة لمختلف الأديان –عند تعامل الإنسان معه- فآنذاك يكون البحث في خطاب الدين والمتديِّنين مطلقًا ويكون البحث غير منحصر في المحيط الإسلاميّ أو محيط الأمّة المسلمة.
وعلى هؤلاء -جميعًا- أن يصححوا خطابهم، لا المسلمين وحدهم. ويحدّدوا مناهج أدق لرصد آثار الخطاب وعلاقتها بمضمونه وعناصره الذاتيّة.
كما أنَّ مفهوم "الديني" كان له ارتباط بالعالم اللامعقول أو الغيبيّ ولذلك قد نجد الغربيّين والمتأثرين بالفكر الغربيّ يجعلونه متصلًا بالعالم اللامعقول والغيبيّ ويلحقون به كل ما له صلة بالأساطير والشعوذة والخرافة والخوارق وما إليها ولقد شاع ذلك في بلاد العرب والمسلمين أيضًا بناءً على ذهنيَّة مستقيلة في العالم العربيّ والإسلاميّ في مرحلة من المراحل كانت تحاول الهروب من العالم وسننه.
وإذا كانت الاتجاهات الفكريَّة المعاصرة قد طورت هذا المفهوم وجعلته مقابلًا للزمان أو السياسيّ؛ لحصر البعد الدينيّ في المجال الروحيّ والحيلولة بينه وبين كل ما له علاقة بالمجالات الاجتماعيَّة والسياسيَّة والفكريَّة فإنَّ ذلك لم يؤد إلى تنقية المفهوم وتجريده بعد من كل تلك الظلال، وإذا كان بعض دعاة الإصلاح قد نجح في الربط بين السياسيّ والدنيويّ والدينيّ؛ بحيث لم يعد مستنكرًا أمر الاستفادة من مفهوم الدين في مجال التصدي للأزمات الاجتماعيَّة والسياسيَّة بالاعتماد على المرجعيَّة الإسلاميَّة واستنباط حلول محددة منها لمعالجة ما هو معاصر.
فإنَّ ذلك ما يزال في حاجة إلى جهد لتجريد المفهوم مما لحق به في الماضي وتنقيته وإعادة تقديمه وإلى أن يتم ذلك فإنَّنا نفضل استعمال الإسلاميّ على الدينيّ تلافيًا لأي غبش قد يلحق بما نريد بناءً على ما ذكرنا.
فالأولى -عندنا- أن نطلق على مَا نحن بصدده «الخطاب الإسلاميّ» الشامل للمسلمين وفهمهم للإسلام وتصورهم له وما ورد فيه مما يمكن أن يكون موضع تساؤل سواء عند الانحراف في فهمه أو عند سوء فقه تنزيله. وقد يتناول غير المسلمين من المواطنين في الأقطار المسلمة باعتبار الإسلام صانعًا أساسيًّا للثقافة المشتركة لهؤلاء جميعًا، ويكون المراد بـ «الخطاب الإسلاميّ» خطاب الأمّة التي تنتمي إلى الإسلام، وتحمل اسمه وتتّصف به.
ـــ في خلفية إدراك مشكلات الخطاب :

«والخطاب الإسلاميّ»في حقيقته الراهنة متَّهم اليوم من الحضارة السائدة والثقافة المهيمنة وهي في جوهرها «مسيهوديّة» بأنّه خطاب يخدم «الإرهاب» ويقوي اتّجاهات العنف والتطرُّف ويصنع الإرهابيّين والمتطرفين، ويثير الخوف والرعب في سائر أنحاء المعمورة، وبالتالي فقد اعتبر المسلمون -اليوم- قديمًا وحديثًا وحضارة ودينًا وتدينًا وثقافةً وفنًّا بؤرة تطرّف ومشاريع تعصُّب وقنابل إرهاب موقوتة قابلة للتفجير والاشتعال في أيّ وقت.
فالذين هدموا البرجين في نيويورك مسلمون، والذين فجّروا محطَّات القطارات في بريطانيا وأسبانيا مسلمون، والذين يقاتلون قوات الحضارة المتحالفة في أفغانستان وفي العراق وفي فلسطين مسلمون، في حين أنَّ الآخرين لا يصنعون أكثر من الدفاع عن الحضارة في وجه الإرهاب والهمجيَّة، وعن التقدم في وجه التخلُّف وعن الناس الطيّبين في وجه الحاقدين. وهؤلاء الطيّبون من جيوش الفتك والإبادات يقومون بمحاولة حماية الحضارة وأهلها من أولئك المسلمين الذين صار كل منهم متهمًا بالإرهاب وتهديد الحضارة العالميَّة حتى يثبت العكس.
ولكي تضمن الحضارة المعاصرة مستقبل أبنائها فهي في حاجة إلى تجفيف منابع الإرهاب في الدين الإسلاميّ وفي ثقافة المسلمين وفي أموالهم ومراقبة كل مَا يصدر عنهم مراقبة دقيقة لا هوادة فيها ولا تساهل، حماية للعالم من شر محدق يأتيهم به هؤلاء الإرهابيُّين المسلمون.
وقد اشتد الضغط بأنواعه المختلفة على المسلمين وأسست مراصد كثيرة للفكر والثقافة والمال والإعلام تراقب الصغيرة والكبيرة، وتلاحظ كل شيء وفي الوقت نفسه تغرق الساحة الإسلاميَّة بما يشغلها ويجعلها تصوغ خطابات أخرى بديلة تقاوم فيها التطرُّف والتعصُّب وتجعلها قادرة على استيعاب قيم الحضارة المعاصرة وقبولها وتبنِّيها.
ولكي نستجلي حقيقة الأمر وطبيعة «أزمة الخطاب الإسلاميّ» فإنَّنا بحاجة إلى استحضار عدة ملاحظات، تتعلق بالمصطلح ، وثنائة أهل الرأي وأهل الحديث، وثنائية الأصالة والمعاصرة والحرية وأثرها في بناء الخطاب
ـــ حداثة المصطلح :

إنّ مصطلح «الخطاب الدينيّ» وإن استبدلناه بـ «الإسلاميّ» مصطلح حديث عهده في تاريخ «الفكر المعاصر» وينطوي بطبيعته على نوع من التمييز والفصل بينه وبين خطاب آخر، فهل يكون الخطاب الآخر القسيم لـ«الخطاب الدينيّ» خطابًا علمانيًّا، أو خطابًا وضعيًّا مطلقًا؟
ثم هل يمكن أن تكون هناك مساحة التقاء بين الخطابين، أو أنّ الحدود الفاصلة بينهما لا تسمح بهذا وأنّه لا التقاء بين الخطابين. وأنّ قدر هذه الأمّة أن تكون عقولها دُوْلَةً بين خطابين أو أكثر؟! خطاب قادم من غريب جغرافيّ، وآخر من بعيد تاريخيّ؟!
ـــ ثنائيَّة الرأي والحديث، والسيف والقلم :

إنّ البيئة المسلمة كانت تعاني منذ بداية تشكٌّل جيل الرواية والجمع من ثنائيّة كان لها آثارها في صياغة الخطاب الداخليّ بدأت بثنائيّة «أهل الرأي وأهل الحديث» في مجال الفقه ثم ثنائيّة «أهل السيف وأهل القلم» في مجال انقسام أولي الأمر، ثم انتشر الخطاب الفرقيّ في إطار جدل كلاميّ.
واستمرت هذه الثنائيّات وانشطاراتها بتقاسم عقول أبناء الأمّة حتى بدأت عمليّة الاحتكاك الإسلاميّ الغربيّ بشكلها الشامل بعد اكتشاف الغرب للبارود وطرق المواصلات التي جعلته ينظر -باستمرار- نحو الشرق أي: مَا يقع شرقه على أنّه مصدر الخامات وسوق المنتجات الَّذِي لا غنى للغرب عنه، إضافة إلى كونه بؤرة التاريخ ومحضن المقدسات، بل المجال الحيويّ الَّذِي لا يستطيع الغرب أن يتنفس ويملأ رئتيه بالهواء بدونه.
فلا بدّ أن تكون هناك «مسألة شرقيّة» في كل وقت بمعنى من المعاني التي يضعها الغرب للـ «مسألة شرقيّة» انطلاقًا من خوف أو طمع، أو تدُّين أو تاريخ. ومن المهم لدى الغرب أن تكون «ديار المسلمين» أيًّا كانت هِيَ ميدان الصراع وحلبته، وتكون ديار الغرب في منأى بذاتها عن ذلك. فساحات الصراع ينبغي أن تكون دائمًا خارج ديار الغرب وبعيدًا عن مجالاته الحيويّة إن أمكن.
ـــ الأمة الحرة وصياغة الخطاب :

إنّ الأمم الحرّة تستطيع أن تصوغ خطابها بالطرق والوسائل والأدوات التي تجعل منه خطابًا معبّرًا عن شخصيّتها عقليًّا ونفسيًا، وعن حضارتها وثقافتها وطبيعتها وأهدافها. وتفعل ذلك حين تفعله دون ضغوط أو قيود.
فحين كانت «الأمّة المسلمة» تمثّل القوة العظمى في العالم كان لها خطاب صاغته وعبّرت عنه بكل مَا هُوَ متاح، وقد صاغت ذلك آيات الكتاب الكريم، ومواقف الرسول العظيم -صلى الله عليه وآله وسلّم- وصار جزءً من التكوين العقليّ والنفسيّ لسائر أبناء الأمّة بحيث تحوّل إلى شيء تنطلق به ألسنتهم دون تلعثم في أيّ موقف يشعرون فيه أنّ عليهم أن يخاطبوا الآخرين.
يقول ربعيّ ابن عامر لقائد الفرس ملخّصًا ذلك الخطاب: «إنّ الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة». وبهذه الكلمات بيّن ربعيّ أهم معالم الخطاب ومحاوره، وبهذه الكلمات نبّه إلى مَا ينبغي أن يشتمل الخطاب الداخليّ عليه حين قال: «إنّ الله ابتعثنا». فذلك ينبه إلى مَا يؤمن به من مبدأ «الابتعاث» وما يقتضيه من إيمان بالتوحيد والتزكية العمران. وسائر غايات الإسلام وقيمه ومقاصده.
ـــ ثنائيَّة الأصالة والمعاصرة :

إنّ ثنائيّة الخطاب في المحيط الإسلاميّ التي أشرنا إلى قدمها قد صارت بعد الاحتكاك بالحضارة الغربيّة المعاصرة ثنائيّة عرفت بثنائيّة «الأصالة والمعاصرة»، وكلا التيّارين كانا يحاولان الإجابة عن سؤال واحد؛ هُوَ «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟» وهو السؤال العتيد الَّذِي رددته العناصر النهضويّة من التيّارين، وصاغه شكيب أرسلان في الثلث الأول من القرن الماضي بتلك الصياغة في كتاب جعل هذا السؤال عنوانًا له: «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟».
وقد عرف هذا السؤال بـ «سؤال النهضة»، واستطاع هذا السؤال أن يتحكم بصياغة «الخطاب الإسلاميّ» طيلة القرون الماضية الثلاثة، ولم تخل بعض القرون السابقة من إثارة له، أو لبعض مَا له فيه علاقة بشكل أو بآخر.
أمّا «الخطاب الغربيّ» فقد تبلور بعد دخول نابليون مصر عام (1798م) بأنّه خطاب يعرض علينا أو يقترح جوابًا للسؤال المذكور يقوم على بناء «الدولة والأمّة بناءً يعتمد النموذج الغربيّ أساسًا ومنطلقًا له، وتبنّي سياسات تقوم على تحقيق التنمية والحداثة، وفلسفة بناء مركزيّة الإنسان، لا مركزيّة الإله أو الدين، ويمكن أن يحل فيها المصنع محل المسجد والكنيسة…».
ويقتصر دور الدين على صلة بين الإنسان والغيب المجهول!! لتلبية حاجة يراها البعض حاجة روحيّة أو نفسيّة فلا مانع أن يستدعي الدين لتلبية حاجات هذه الشريحة بين الحين والآخر.
وهكذا تبلورت ثنائيّة «الأصالة والمعاصرة» فتيّار «المعاصرة» اقتنع بإخلاص وصدق الخطاب الغربيّ ورغبته في نقلنا إلى مثل مَا هُوَ فيه من حداثة وتنمية وتقدم وتقنية، ويساوينا بنفسه في ذلك. فنكون من أولئك الذين صدّق عليهم الغرب ظنّه فاتبعوه وذلك هُوَ «تيار الحداثة والمعاصرة» من أبنائنا، وبدأت مرحلة تعاون وتنسيق بين صاغة «خطاب الحداثة» ومتلقي ذلك الخطاب من أبنائنا الذين سرعان مَا احتلّوا موقع النخب المتميزة التي أعينت على الانتقال إلى مواقع القيادة في بلدانها لإقامة الدول الحديثة وفقًا لتقسيمات النظام الدوليّ القديم، وتبنت تلك النخب من أبنائنا «النموذج الغربيّ» في التغيير والتجديد لتختصر الطريق إلى النهضة والتحديث والتقدم.
وبرز في البيئة الإسلاميّة خطاب جديد عليها لم يجد الطريق أمامه معبّدًا فالهزيمة والتأخّر لا تكفي لإقناع أمّة مّا بالتخلي عن أصالتها وتراثها، والانفتاح على خطاب وافد، بل على العكس من ذلك، أحيانًا يكون التأخر والتراجع دوافع لبعض الأمم للقيام بمزيد من الالتصاق والتلاحم مع تراثها والتشبّث به حتى مع وجود «القناعة العقليّة» بأنّ بعض ذلك التراث قد يكون من أسباب التراجع والتخلّف والهزيمة، فإنّ الحالة العاطفيّة قد تقاوم «القناعة العقليّة». وهنا قد يلجأ المفكّرون إلى استخدام أساليب «المقاربة» و«التوفيق» لحمل الناس على التصالح مع الخطاب الوافد ولو إلى حين.
أمّا أصحاب القرار والسياسيّون فقد تحملهم رغباتهم الجامحة لتحقيق الإنجاز السريع على استخدام أساليب القهر لشعوبهم والفرض والتطبيق القسريّ والتقليد المبتسر لفرض «قيم الحداثة والتنمية» التي أوهموا بأنّها حين تتحقق بأيّ شكل، فذلك سوف يحقق لهم ولشعوبهم كل مَا تصبوا إليه!!
وقد تستدرج بعض هذه الجهات إلى التخاصم مع سائر قيم الأمّة التي تعزز أصالتها، والنظر إليها على أنّها قيم معادية للحداثة، معوّقة للتقدم والتنمية فتصطدم -آنذاك- بمواطنيها، وقد تقوم بعمليّات تجهيل وتهميش لهم، وتحطيم لإرادتهم وكرامتهم، وتدمير لإنسانيّتهم، وتجاوز تراثهم، وتشويه هُوِيّتهم وإدخال بلدانهم في تبعيَّة اقتصاديّة وغذائيّة وتقنيّة وفكريّة وتربويّة وتعليميّة وثقافيّة، فيجد هؤلاء أنفسهم بعد حين لا يستطيعون الاستغناء عن أولئك الذين قلّدوهم ليتقدموا، لا ليكونوا مجرد ظل لهم يدور حولهم في مطعمه وملبسه ودوائه وسلاحه وتعلّمه وتدرُّبه وتربيته.
بل وبدنه وخصائص هُوِيّته –كما فعل أتاتورك- الَّذِي بنى «النظام الأتاتوركيّ» وقدمه الغرب نموذجًا يحتذى في سائر أنحاء العالم الإسلاميّ في قاعدة تشكيله وبنائه والفلسفة التي بني عليها، وأسس تكوينه. وهو نظام قد قدّس دكتاتوريّة الفرد والحزب فقلّده آخرون بتكريس دكتاتوريّة الطبقة والفئة والقبيلة والأقليّة والنخبة أيًّا كانت وها نحن بعد كل تلك التضحيّات نعود كما بدأنا إلى دكتاتوريّة الطائفة والقبيلة وإلى العجز الشامل عن القيام بأيّ شيء حتى إجراء محاكمة عادلة في جرائم اغتيال لا تحتاج أكثر من نظام قضائيّ وتحقيقيّ منظّم وعادل، فيدفعنا العجز إلى تداولها.
لقد أدركت تلك النخب أنّ خيارها قد فشل وإن اختلفت في تحديد الأسباب. لكن السبب الأساس في نظرنا المتواضع – أنّ خيار تلك النخب لم يكن خيار الأمّة، ولا خيار الجماهير العربيّة المسلمة في أقطارها المختلفة، ولم يستطع ذلك الخيار أن يجنّد طاقات الأمّة ويفجّرها، بل على العكس من ذلك إنّه بدّدها ودمّرها. وجعل لسان حال العربيّ المسلم يردّد مع الشاعر العربيّ الجاهليّ قوله:
لا أذودُ الطير عـن شجر ـ ـ ـ قد بَلَوتُ المُـرَّ من ثمره
ولذلك رأينا تهاوي قوانا العسكريّة في (1967م) وسقوط نظام صدام في (2003م) وسقوط نظام الشاه قبله.. وهكذا تهاوت نظم بلدان مسلمة كثيرة وبشكلٍ مَا كان له ليحدث لو أنّ الأمّة وحكامها كانوا في علاقة صحيّة سليمة تجعل الأمّة تنظر إلى قادتها على أنّهم منها، وهي منهم، وليسوا متسلطين عليها، مارسوا فيها من أنواع القهر مَا لا يمكن لأعدائها أن يمارسوا أكثر منه !





« رَبِّ اغْـفِـرْ لِي وَلأَِخِي وَأَدْخِلْـنَا فِي رَحْمَتِـكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ »