كيف شكّل المصريون القدماء فكرتنا عن الجمال
09-02-2016, 09:33 AM
آلستير سوك
صحفي فني




يتبدى جانب من ملامح الثقافة الشعبية في بريطانيا بجلاء في صور ملوك وملكات الفراعنة ذوي العيون الكحيلة.
فهل بالغ المصريون القدماء في التفاخر والتباهي بمظهرهم، أم نحن من نُسقط عليهم قيمنا الخاصة لتبدو وكأنها نابعة منهم؟ الصحفي الفني ألستير سوك يحقق في ذلك الأمر.
إذا تجولت في جنبات معرض "بيوند بيوتي" الجديد الذي نظمته المؤسسة الخيرية "بولدوغ تراست" في قصر "تو تمبل بليس" المشيّد على الطراز "القوطي الجديد" في وسط لندن، فليس عليك حرج إذا انتابك شعور بأن المصريين القدماء فاقوا الحدود في التباهي بمظهرهم.
ويحتوي المعرض على 350 قطعة، اختيرت من مجموعات غير مشهورة في متاحف جهوية في بريطانيا، وهي ما تشكل ما يسمى حاليا مستحضرات التجميل بمختلف أنواعها.
فتوجد أمشاط صغيرة ومرايا محمولة مصنوعة من سبائك النحاس، ونادرًا ما تكون مصنوعة من الفضة، إضافًة إلى أحجار الغرين، المنحوتة على شكل حيوانات، والتي كانت تُستخدم لطحن المعادن مثل الملكيت الأخضر، والكحل، لاستخدامهما في تجميل العيون.
كما توجد جرات وأوعية من الكالسيت بمختلف الأحجام، تخزن فيها مستحضرات التجميل والدهانات والعطور، كما ستجد خصلة شعر بشري تشير إلى أن المصريين القدماء اعتادوا وضع خصلات من الشعر المستعار.
وبالطبع، يوجد العديد من نماذج المجوهرات المصرية الأخاذة، منها عِقد من الخرز تتدلى منه قلادات من العقيق الأحمر تتخذ شكل رؤوس نبات الخشخاش، والتي عُثِر عليها في قبر طفل صغير ملفوف في نسيج الخيش.
ومن الواضح أن المصريين القدماء من الجنسين، كانوا يبذلون قصارى جهدهم في تحسين وتجميل مظاهرهم.
ولم يقل اهتمامهم بالموت عن اهتمامهم بالحياة: فلتنظر إلى وجوههم التي يعلوها الهدوء والسكينة، ذات القسمات المعتادة والعيون اللافتة للنظر، التي أبرزوا جمالها بخطوط سوداء رائعة، فهذه الوجوه كانت تُرسم عادةً على أقنعة المومياء المصنوعة من مادة الكارتوناج والتوابيت الخشبية.
ويرى علماء الآثار المعاصرين أن مسألة انتشار منتجات التجميل في كل مكان في مصر القديمة مسألة محيرة.
فربما كان المصريون القدماء، من ناحية، مفتونين بالمظاهر الخارجية، كما هو حالنا الآن، بل ولعلّهم بالفعل قد شكلوا لنا رؤيتنا للجمال.
ولكن، من ناحية آخرى، ثمة احتمال أننا قد نكون نُسقط قيمنا النرجسية الخاصة بنا على ثقافة مختلفة اختلافًا جذريًا لتبدو وكأنها نابعة من هذه الثقافة.
فهل حقًا كان لأدوات التجميل في مصر قديمًا أهمية تفوق كونها رغبة لا طائل من ورائها للظهور بمظهر جذاب؟
جذابٌ بأسلوب عملي
هذا ما يعتقده الكثير من علماء الآثار الآن، فلو نظرنا مثلًا إلى الاستخدام الشائع للكحل في تجميل العيون في مصر قديمًا، والذي استُوحيت منه طريقة تظليل العيون بألوان ترابية التي ظهرت حديثًا وتُعرف باسم 'العيون المدخنّة'.



إذ تُشير أبحاث علمية أُجريت مؤخرًا إلى أن المعادن السمية التي تشتمل على مادة الرصاص، والتي تمثل العنصر الأساسي من الكحل لها خصائص مضادة للبكتريا عندما تختلط مع رطوبة العين.
فضلًا عن أن وضع الكحل بكثافة حول العين ربما ساعد على الحدّ من تأثير وهج الشمس. أي أن ثمة أسبابا بسيطة وعملية كانت تُسوغ للرجال والنساء في مصر قديمًا وضع مساحيق تجميل العيون.
وهذا ينطبق أيضًا على سائر "منتجات التجميل" التي استخدمها المصريون القدماء، كالشَعْر المستعار الذي ساعد على تقليل احتمالات الإصابة بالقمل، والحُليّ وما كان لها من أهمية دينية ورمزية قوية.
فالنقوش التي تظهر على تمثال صغير من الطين المحمي يجسّد راقصة إغراء، والذي استُخرج من مدينة أبيدوس في صعيد مصر، ويُعرض الآن في قصر "تو تمبل بليس"، قد صُنعت عن طريق النقر للدلالة على وجود الأوشام.
وبالطبع، كانت الأوشام، على الأرجح، توضع لأغراض التزيّن في مصر قديمًا.
إلا أن هذه الأوشام ربما كان لها غرض وقائي أيضًا.
فثمة دليل يشير إلى أن الفتيات الراقصات والبغايا، إبان عصر المملكة الحديثة، كن يرسمن على أفخاذهن وشوم لصورة الإله بيس القزم، الذي كان يدفع عنهن الأذى، تحصنًا من الأمراض التي تُنقل بالاتصال الجنسي.
تقول عالمة المصريات جويس تيلديسلي: "كلما حاولت فهم ما يعد 'جميلًا' في نظر المصريين أنفسهم، ازددت حيرة من أمري؛ إذ يبدو أن لكل شيء غرضان. وحين نتحدث عن المصريين القدماء، لا أعرف ما إذا كانت كلمة 'الجمال' هي الكلمة الصحيحة أم لا."
ولزيادة الأمر تعقيدًا، ثمة استثناءات لافتة للنظر عن القاعدة العامة تقضي بأن يخرج صفوة المصريين القدماء إلى الناس في صورة "جميلة" نمطية تميزهم عن غيرهم.
وهذا يتجلى في التصوير الرسمي لفرعون مصر سنوسرت الثالث، أحد الملوك في عصر الدولة الوسطى.
فعلى الرغم من أن جِذع التمثال العاري يدل على أنه رياضي ويتمتع بالشباب، (أظهره النحات في صورة مثالية، كما هو الحال في الصور الملكية قديمًا)، إلا أن وجهه مُثقل بالهموم، ومُشقق بالتجاعيد.
كما أن أذنيه سيراهما الناظِرون في العصر الحديث كبيرتين بصورة مضحكة، وستفكر أنه من الصعب أن تكون تلك سمة من سمات الجمال عند الذكور.
إلا أن هذه السمة لم تكن مضحكة في مصر قديمًا.
"ففي عصر الدولة القديمة، كان الملوك بمثابة الملوك الآلهة"، بحسب تفسير تيلديسلي، كبيرة المحاضرين في جامعة مانشستر.



واستطردت تيلديسلي: "لكن في عصر الدولة الوسطى، أدرك الملوك، مثل سنوسرت، أن الأشياء قد تزول، ولا شيء يبقى على حاله، ولهذا كان يبدو مهمومًا إلى حدّ ما".
وتضيف: "تخبرنا أذناه الكبيرتان أن الملك سيستمع إلى الناس.
فليس من الصواب أن تنظر إلى صورته من دون أن تفهم المغزى من ورائها، وتقول هكذا كان يبدو الملك".
ملكة النيل
إذاً، لماذا لا نزال نربط بين المصريين القدماء والجمال والبهاء؟ وتوافق تيديسلي على ذلك قائلة: "لا زلنا نرى الحضارة المصرية القديمة حضارة تبعث على مواصلة البحث فيها"، إذ ترى أن هذا يرجع إلى حياة ملكتين مصريتين شهيرتين بعد الموت؛ هما كيلوباترا، ونفرتيتي.
منذ القِدَم، بعد الغزو الروماني لمصر، عُرفت كيلوباترا بأنها آيةٌ في الجمال، وفي الوقت نفسه، باتت صور نفرتيتي، على إثر اكتشاف التمثال النصفي الملون الشهير لها في سنة 1912 في المتحف المصري ببرلين، الأكثر انتشارًا بين نساء العصر القديم، بعدما كانت زوجة فرعون مصر إخناتون التي لا يعرفها الكثيرون.
لكن تقول تيلديسلي، التي كتبت سيرة كيلوباترا، وتجري أبحاثًا في الوقت الحالي لتأليف كتاب عن نفرتيتي، إن ثمة مفارقة في تكرار تصوير هاتين الملكتين المصريتين اليوم كرموز للإغراء والإثارة.
وتُرجع تيلديسلي ذلك إلى سبب واحد، قائلة: "جعلتنا كيلوباترا نتصوّر أن نساء مصر قديمًا كن كلهن جميلات، رغم أننا لا نعرف في الحقيقة كيف كانت تبدو كيلوباترا."
وتضيف: "كانت كليوباترا ذات أنف كبير، وذقن منحنٍ إلى الخارج، وقد غزت التجاعيد وجهها، أي أنها لم تكن جميلة في نظر أغلب الناس.
وربما تزعم أنها تعمدت الظهور على العملات المعدنية بهذه الصورة لأنها كانت تريد أن تبدو حازمة ولم تُرد أن تظهر صفاتها الأنثوية تحديدًا".
وتتابع قائلة: "لكن حتى الفيلسوف فلوطرخس (بلوتارخ) الذي لم يقابلها قطّ، ذكر أن جمالها يكمن في حيويتها وصوتها، وليس في مظهرها.
ومع هذا قررنا أنها كانت جميلة ويجب أن تُشبه إليزابيث تايلور. فأنا أعتقد أننا تأثرنا بفكرة كيلوباترا، وليس بكيلوباترا نفسها".



أما عن نفرتيتي، فتشير تيلديسلي إلى أن تمثالها النصفي لا يجسد خصائص الفن المصري القديم، وتضيف: "فهذا التمثال غير مألوف لأنه مصنوع من الجص وملون، في حين أن الكثير من الأعمال الفنية لدينا على نمط محدد ولا تبرز الملامح الشخصية كما يبرزها هذا التمثال".
إضافة إلى ما سبق، فإن التوقيت الذي كُشِف فيه النقاب عن التمثال النصفي في برلين سنة 1923، كان عاملًا حاسمًا في الطريقة التي استقبل بها التمثال.
فقد انتشر حينذاك "الولع بالحضارة المصرية القديمة" في أوروبا، بعد اكتشاف مقبرة توت عنخ أمون في السنة التي سبقها، ومن ثم توافق شكل تمثال نفرتيتي الهندسي بارز الملامح مع الذوق السائد في هذا الوقت.
وتقول تيلديسلي: "هذا التمثال يبدو عصريًا للغاية، ويوجد به الكثير من السمات الخاصة بالطراز الفني (المعروف باسم) 'آرت ديكو'. ولذا نالت نفرتيتي إعجاب الجميع، ونادرًا ما تجد شخصًا لم يعتقد أن نفرتيتي كانت جميلة".
كما استفادت نفرتيتي أيضًا من قوة التأثير الإعلامي في عشرينيات القرن العشرين التي جعلت منها نجمة.
وتقول تيلديسلي: "لم يكن هذا ممكنًا قبل 100 سنة، دون جرائد ولا سينما. فحينئذ، كان التمثال سيوضع في أحد المتاحف، وما كان سيُحدِث ما أحدثه من ضجة".
توقفت تيلديسلي لبرهة، ثم استطردت قائلة: "أتساءل هل كان لعرض تمثال نفرتيتي النصفي في برلين كأحد أهم الاكتشافات تأثيرا على ما رأيناه. في نهاية الأمر، يكمن الجمال، كما نعرف، في عين الناظر."