السلطان سليمان القانوني
04-08-2021, 10:01 AM


هو سليمان القانوني ابن سليم، ويُعرف في الغرب بسليمان العظيم، وهو أحد أشهر السلاطين العثمانيين، حكم مدَّة 48 عامًا؛ منذ عام 926هـ، وبذلك يكون صاحب أطول فترة حُكْم بين السلاطين العثمانيين.

قضى السلطان سليمان القانوني ستة وأربعين عامًا على قمَّة السلطة في دولة الخلافة العثمانية، وبلغت في أثنائها الدولة قمَّة درجات القوَّة والسلطان؛ حيث اتسعت أرجاؤها على نحوٍ لم تشهده من قبلُ، وبسطت سلطانها على كثير من دول العالم في قاراته الثلاث، وامتدَّت هيبتُها فشملت العالم كلَّه، وصارت سيدة العالم؛ تخطبُ ودَّهَا الدول والممالك، وارتقت فيها النظم والقوانين التي تُسَيِّرُ الحياة في دقَّة ونظام، دون أن تُخالف الشريعة الإسلامية التي حرص آل عثمان على احترامها والالتزام بها في كل أرجاء دولتهم، وارتقت فيها الفنون والآداب، وازدهرت العمارة والبناء.

نشأة سليمان القانوني
والده السلطان سليم الأول، ووالدته حفصة سلطان ابنة منكولي كراني خان القرم، وُلِدَ سليمان القانوني في مدينة طرابزون عام (900هـ= 1495م)، وقد كان والده آنذاك واليًا عليها، واهتمَّ به والده اهتمامًا عظيمًا؛ فنشأ محبًّا للعلم والأدب والعلماء والأدباء والفقهاء، واشتهر منذ شبابه بالجدية والوقار.

سليمان القانوني يتولى مقاليد السلطة
تولَّى السلطان سليمان القانوني الخلافة بعد موت والده السلطان سليم الأول في (9 من شوال 926هـ= 22 من سبتمبر 1520م)، وبدأ في مباشرة أمور الدولة، وتوجيه سياستها، وكان يستهلُّ خطاباته بالآية الكريمة: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30]، وقد كانت الأعمال التي أنجزها السلطان في فترة حكمه كثيرة وذات شأن في حياة الدولة.

ففي الفترة الأولى من حكمه نجح في بسط هيبة الدولة، والضرب على أيدي الخارجين عليها من الولاة الطامحين إلى الاستقلال، معتقدين أن صغر سنِّ السلطان -الذي كان في السادسة والعشرين من عمره- فرصة سانحة لتحقيق أحلامهم، لكن فاجأتهم عزيمة السلطان القويَّة التي لا تلين، فقضى على تمرُّد جان بردي الغزالي في الشام، وأحمد باشا في مصر، وقلندر جلبي في منطقتي قونية ومرعش؛ الذي كان شيعيًّا، وقد جمع حوله نحو ثلاثين ألفًا من الأتباع للثورة على الدولة.

جهاد سليمان القانوني
تعدَّدت ميادين القتال التي تحرَّكت فيها الدولة العثمانية لبسط نفوذها في عهد سليمان؛ فشملت أوربا وآسيا وإفريقيا؛ فاستولى على بلجراد سنة (927هـ= 1521م)، وحاصر فيينا سنة (935هـ= 1529م)؛ لكنه لم يُفلح في فتحها، وأعاد الكَرَّة مرَّة أخرى، ولم يكن نصيبها أفضل من الأولى، وضمَّ إلى دولته أجزاءً من المجر بما فيها عاصمتها بودابست، وجعلها ولاية عثمانية.

وفي آسيا قام السلطان سليمان بثلاث حملات كبرى ضد الدولة الصفوية؛ ابتدأت من سنة (941هـ= 1534م)، وهي الحملة الأولى التي نجحت في ضمِّ العراق إلى سيطرة الدولة العثمانية، وفي الحملة الثانية سنة (955هـ= 1548م) أُضيف إلى أملاك الدولة تبريز، وقلعتا: وان وأريوان، وأمَّا الحملة الثالثة فقد كانت سنة (962هـ= 1555م) وأجبرت الشاه طهماسب على الصُّلح وأحقية العثمانيين في كلّ من أريوان وتبريز وشرق الأناضول.

كما واجه العثمانيون في عهده نفوذَ البرتغاليين في المحيط الهندي والخليج العربي، فاستولى أويس باشا والي اليمن على قلعة تعز سنة (953هـ= 1546م)، ودخلت في عهده عُمَان والأحساء وقطر ضمن نفوذ الخلافة العثمانية، وأدَّت هذه السياسية إلى الحدِّ من نفوذ البرتغاليين في مياه الشرق الأوسط.
وفي إفريقيا دخلت ليبيا، والقسم الأعظم من تونس، وإريتريا، وجيبوتي، والصومال ضمن نفوذ الخلافة العثمانية.

تطوير البحرية العثمانية
كانت البحرية العثمانية قد نمت نموًّا كبيرًا منذ أيام السلطان بايزيد الثاني، وأصبحت مسئولة عن حماية مياه البحار التي تطل عليها الدولة، وفي عهد سليمان ازدادت قوَّة البحرية على نحو لم تشهده من قبل؛ وذلك بانضمام «خير الدين بربروس»، وكان يقود أسطولاً قويًّا يُهاجم به سواحل إسبانيا والسفن الصليبية في البحر المتوسط، وبعد انضمامه إلى الدولة منحه السلطان لقب «قبودان».

وقد قام خير الدين بفضل المساعدات التي كان يتلقَّاها من السلطان سليمان القانوني بضرب السواحل الإسبانية، وإنقاذ آلاف من المسلمين في إسبانيا؛ فقام في سنة (935هـ= 1529م) بسبع رحلات إلى السواحل الإسبانية لنقل سبعين ألف مسلم من قبضة الحكومة الإسبانية.

وقد أوكل السلطان إلى خير الدين بربروس قيادة الحملات البحرية في غرب البحر المتوسط، وحاولت إسبانيا أن تقضي على أسطوله؛ لكنها كانت تُخفق في كل مرَّة وتتكبَّد خسائر فادحة، ولعلَّ أقسى هزائمها كانت معركة بروزة سنة (945هـ= 1538م).

وقد انضمَّ أسطول خير الدين إلى الأسطول الفرنسي في حربه مع الهابسيورج، وساعد الفرنسيين في استعادة مدينة نيس (950هـ= 1543م)؛ وهذا ما أدَّى إلى تنازل فرنسا عن ميناء طولون الفرنسي برضاها للإدارة العثمانية، وتحوَّل الميناء الحربي لفرنسا إلى قاعدة حربية إسلامية للدولة العثمانية في غرب البحر الموسط.

الدولة العثمانية في عهد سليمان القانوني
واتَّسع نطاق عمل الأسطول العثماني فشمل البحر الأحمر؛ حيث استولى العثمانيون على سواكن ومصوع، وأخرجوا البرتغاليين من مياه البحر الأحمر، واستولوا على سواحل الحبشة؛ وهو ما أدَّى إلى انتعاش حركة التجارة بين آسيا والغرب عن طريق البلاد الإسلامية.

التطور الحضاري
كان السلطان سليمان القانوني شاعرًا له ذوق فني رفيع، وخطَّاطًا يُجيد الكتابة، ومُلمًّا بعدد من اللغات الشرقية من بينها العربية، وكان له بصر بالأحجار الكريمة، مغرمًا بالبناء والتشييد، فظهر أثر ذلك في دولته، فأنفق بسخاء على المنشآت الكبرى؛ فشيَّد المعاقل والحصون في رودس وبلجراد وبودا، وأنشأ المساجد والصهاريج والقناطر في شتَّى أنحاء الدولة، وبخاصة في دمشق ومكَّة وبغداد، بالإضافة إلى ما أنشأه في عاصمته من روائع العمارة.

ويُؤَكِّد الباحث جمال الدين فالح الكيلاني -باحث عراقي متخصص في الدراسات التاريخية- أن عصر السلطان سليمان القانوني يُعتبر العصر الذهبي للدولة العثمانية؛ حيث كانت الدولة الأقوى في العالم والمسيطرة على البحر الأبيض المتوسط.

وظهر في عصره أشهر المهندسين المعماريين في التاريخ الإسلامي؛ كالمهندس سنان باشا؛ الذي اشترك في الحملات العثمانية، واطَّلع على كثير من الطرز المعمارية؛ حتى استقام له أسلوب خاص، ويُعَدُّ مسجد سليمان القانوني أو جامع السليمانية في إسطنبول -الذي بناه للسلطان سليمان في سنة (964هـ= 1557م)- من أشهر الأعمال المعمارية في التاريخ الإسلامي.

وفي عهده وصل فنُّ المنمنمات (أي الرسوم) العثمانية إلى أوجه ازدهارها، وقد قدَّم «عارفي» وثائق الحوادث السياسية والاجتماعية التي جرت في عصر سليمان القانوني في منمنمات زاهية، ولمع في هذا العصر عدد من الخطَّاطين العظام؛ يأتي في مُقَدِّمتهم حسن أفندي جلبي القره حصاري؛ الذي كتب خطوط جامع السليمانية، وأستاذه أحمد بن قره حصاري، وله مصحف بخطِّه، وهو يُعَدُّ من روائع الخطِّ العربي والفنِّ الرفيع، وهو محفوظ بمتحف «طوبي قابي».

وظهر في عهد السلطان سليمان عدد من العلماء في مقدمتهم: أبو السعود أفندي؛ صاحب التفسير المعروف باسم: «إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم».

القانون والإدارة
الذي اشتهر به السلطان سليمان القانوني واقترن باسمه هو وضعه للقوانين التي تُنَظِّم الحياة في دولته الكبيرة؛ هذه القوانين وضعها مع شيخ الإسلام أبو السعود أفندي، وراعى فيها الظروف الخاصة لأقطار دولته، وحرص على أن تَتَّفق مع الشريعة الإسلامية والقواعد العرفية، وقد ظلَّت هذه القوانين -التي عُرفت باسم «قانون نامه سلطان سليمان»؛ أي دستور السلطان سليمان- تُطَبَّق حتى مطلع القرن الثالث عشر الهجري الموافق التاسع عشر الميلادي.

ولم يُطلق الشعبُ على السلطان سليمان لقب القانوني لوضعه القوانين؛ وإنَّما لتطبيقه هذه القوانين بعدالة؛ ولهذا يعدُّ العثمانيون الألقاب التي أطلقها الأوربيون على سليمان في عصره -مثل: الكبير، والعظيم- قليلة الأهمية والأثر إذا ما قُورنت بلقب «القانوني»، الذي يُمَثِّل العدالة.

ولم يكن عهد سليمان القانوني العهد الذي بلغت فيه الدولة أقصى حدود لها من الاتساع، وإنما هو العهد الذي تمَّت فيه إدارة أعظم دولة بأرقى نظام إداري.

وفاة سليمان القانوني
لم يترك السلطان سليمان القانوني الجهاد قط، وفي أواخر أيام السلطان سليمان أصابه مرض النِّقْرِس، فكان لا يستطيع ركوب الخيل؛ ولكنه كان يتحامل –رحمه الله- إظهارًا للقوَّة أمام أعدائه، وقد بلغ السلطان سليمان القانوني من العمر 74 عامًا، ومع ذلك عندما علم بأن ملك الهايسبرج أغار على ثغر من ثغور المسلمين؛ قام السلطان سليمان القانوني للجهاد من فوره، ومع أنه كان يتألَّم من شدَّة المرض، فإنَّه قاد الجيش بنفسه، وخرج على رأس جيش عرمرم في (9 من شوال 973هـ= 29 من أبريل 1566م)، ووصل إلى مدينة سيكتوار المجرية، وكانت من أعظم ما شيَّده المسيحيون من القلاع، وكانت مشحونة بالبارود والمدافع، وكان قبل خروجه للجهاد نصحه الطبيب الخاص بعدم الخروج لعلَّة النِّقْرِس التي به. فكان جواب السلطان سليمان الذي خلده له التاريخ: «أحب أن أموت غازيًا في سبيل الله».

سبحان الله! هذا السلطان كان قد بلغ من الكبر عتيًّا، وكان يملك تحت قبضته نصف الدنيا، وملوك الأرض طوع بنانه، وكان بإمكانه التمتُّع بحياة القصور، والتنقُّل بين الغرف والاستمتاع بالملذَّات، ومع ذلك أبى إلَّا أن يخرج غازيًا في سبيل الله.

وخرج بالفعل على رأس جيشه، وما كان يستطيع أن يمتطي جواده؛ لازدياد علَّة النِّقْرِس عليه، فكان يُحْمَل في عربة؛ حتى وصل إلى أسوار مدينة سيكتوار، وابتدأ في حصارها، وفي أقلَّ من أسبوعين احتلَّ معاقلها الأمامية، وبدأ القتال واشتدَّ النزال، وكان أصعب قتال واجهه المسلمون؛ لمتانة الأسوار، وضراوة المسيحيين في الدفاع عن حصنهم.

واستمرَّ القتال والحصار قرابة 5 شهور كاملة، وما ازداد أمر الفتح إلَّا صعوبة، وازداد همُّ المسلمين لصعوبة الفتح، وهنا اشتدَّ مرض السلطان، وشعر بدنوِّ الأجل، فأخذ يتضرَّع إلى الله تعالى، وكان من جملة ما قاله: «يا رب العالمين؛ افتح على عبادك المسلمين، وانصرهم، وأضرم النار على الكفار».
فاستجاب الله دعاء السلطان سليمان، فأصاب أحدُ مدافع المسلمين خزانة البارود في الحصن، فكان انفجارًا مهولًا، فأخذت جانبًا كبيرًا من القلعة فرفعته إلى عنان السماء، وهجم المسلمون على القلعة، وفُتحت القلعة، ورُفعت الراية السليمانية على أعلى مكان من القلعة.

وعند وصول خبر الفتح للسلطان فرِح، وحمد الله على هذه النعمة العظيمة، وقال: «الآن طاب الموت، فهنيئًا لهذا السعيد بهذه السعادة الأبدية، وطوبى لهذه النفس الراضية المرضية، من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه». وتخرج روحه إلى بارئها، إلى جنة الخلد -إن شاء الله- في (20 من صفر 974هـ= 5 من سبتمبر 1566م).

وأخفى الوزير محمد باشا نبأ وفاة السلطان؛ حتى أرسل لولي عهده السلطان سليم الثاني، فجاء وتَسَلَّم مقاليد السلطنة في سيكتوار، ثم دخل إسطنبول ومعه جثمان أبيه الشهيد، وكان يومًا مشهودًا لم يُرى مثله، إلَّا في وفاة السلطان محمد الفاتح، وعلم المسلمون خبر وفاة السلطان سليمان القانوني، فحزنوا أشدَّ الحزن؛ أمَّا على الجانب الأوربي؛ فما فرح المسيحيون بموت أحدٍ بعد بايزيد الأول ومحمد الفاتح كفرحهم بموت السلطان سليمان المجاهد الغازي في سبيل الله، وجعلوا يوم وفاته عيدًا من أعيادهم، ودَقَّت أجراس الكنائس فرحًا بموت مُجَدِّد جهاد الأُمَّة في القرن العاشر –رحمه الله.

قصة الإسلام