المنهج الإسلامي في دراسة الطب
10-10-2019, 12:40 PM


لم تأتِ إنجازات وإسهامات المسلمين المعروفة في مجالات الطب بصورة عشوائية غير مدروسة، وإنما كان هناك منهج واضح قاد إلى هـذا المستوى الراقي في البحث، وقاد إلى نتائج متميزة في هذا العلم المهم. ولهذا المنهج الحضاري الراقي خصائص كثيرة، سنتعرف الآن على ثلاثة منها قادت إلى هذا التميُّز الملموس:

الخاصية الأولى: الانفتاح على الغير:
كانت الحضارة الإسلامية منفتحة تمام الانفتاح في أمور العلوم الحياتية على غيرها من الحضارات، ولم يكن هناك أي حرج في أن يأخذ العلماء المسلمون من غير المسلمين، أو أن يعطي علماء المسلمين سواهم من غير المسلمين.

فكان العلماء المسلمون ينظرون إلى العلوم الحياتية كميراث إنساني عامّ تستفيد فيه كل أمة من تجارب الأمم الأخرى، ولم يكن الطب بمنأًى عن هذه النظرة، بل كان من أهم العلوم التي اعتنى المسلمون فيها بالجمع والتطوير والابتكار؛ لأنه من أهم العلوم الإنسانية، بل إن كثيرًا من علماء المسلمين يعدُّون الطب هو أشرف العلوم الإنسانية بعد العلوم الشرعية؛ وذلك لحاجة الناس إليه، ولكونه يحفظ الروح والعقل والجسد.. ومن ثَمَّ يحفظ الإنسان لأداء مهامه الشرعية والحياتية في الدنيا.

ولذلك نجد أن الطب من أوائل العلوم التي اهتم علماء المسلمين بالبحث فيها، عن طريق ترجمة أعمال السابقين من الأطباء من الحضارات المختلفة، وكانت أولى هذه المحاولات على يد خالد بن يزيد الأموي (ت 85هـ) الذي اهتم بالطب والكيمياء، وبدأ يترجم الكتب اليونانية، وخاصةً ما كان موجودًا منها في مكتبة الإسكندرية بمصر.

وفي عهد الخلافة العباسية تزايدت حركة الترجمة بشكل ملحوظ، وخاصة في عهد هارون الرشيد، ثم ابنه المأمون من بعده، وانفتح أطباء المسلمين انفتاحًا غير مسبوق على كل العلوم الطبية من مختلف الحضارات؛ فترجمت المؤلفات اليونانية والفارسية والهندية والرومانية والسريانية في الطب، واطّلع المسلمون على كمٍّ هائل من التجارب، وبخاصة التجارب اليونانية القديمة.

ومن المهم هنا أن نلفت الأنظار إلى ثلاث نقاط مهمَّة في هذه الخاصية (خاصية الانفتاح على الغير):

النقطة الأولى: أن الأطباء المسلمين كانوا من الأمانة والنزاهة بحيث إنهم -دائمًا- كانوا ينسبون الفضل لأهله، وما ادَّعى طبيبٌ مسلم اكتشافًا طبيًّا أو سبقًا علميًّا نقله من عالم من الحضارات الأخرى، بل امتلأت كتب الأطباء المسلمين بأسماء العلماء الذين نقلوا عنهم، وأعطوهم التقدير الكافي والتبجيل الواضح.

ولك أن تستمع إلى كلام العلاَّمة الإسلامي الطبيب المشهور أبي بكر الرازي صاحب كتاب الحاوي (من أعظم الكتب في تاريخ الطب) وهو يقول: "... ولقد جمعت في كتابي هذا جملاً وعيونًا من صناعة الطب مما استخرجته من كتب (أبقراط) و(جالينوس) و(أرماسوس)، ومن دونهم من قدماء فلاسفة الأطباء، ومن بعدهم من المحدثين في أحكام الطب مثل (بولس) و(آهرون) و(حنين بن إسحاق) و(يحيى بن ماسويه)... وغيرهم".

هذه الأمانة العلمية المشرِّفة كانت بالفعل من أعظم مناقب علماء المسلمين، وبخاصة أن المعاصرين من أبناء الأمم الأخرى لم يكونوا يعرفون تاريخ أجدادهم، وبالتالي فقد كان من السهل جدًّا أن تُسرق أبحاثهم، لولا البُعد الأخلاقي العميق عند علماء المسلمين.

أما النقطة الثانية فهي: أن أطباء المسلمين لم يقفوا أبدًا عند حد النقل والترجمة، وإنما أخذوا تدريجيًا في تطوير ما نقلوه، ثم وصلوا إلى مرحلة الابتكار والتأليف، بل تناولوا ما نقلوه بالنقد والتحليل، ولم يكن هناك أدنى تردد في تناول نظريات مشاهير الأطباء القدماء بالتعليق والإضافة والحذف، وأحيانًا بالاعتراض الكامل على المحتوى، وسيأتي توضيح ذلك في موضعه بإذن الله.

لقد كان الأطباء المسلمون علماء بحق، وكانوا يتميزون بعقليات مفكرة، وطاقات جبارة, مما يسّر لهم قيادة البشرية لعدة قرون في هذا المجال المهم من مجالات العلوم.

والنقطة الثالثة هي: أن الأطباء المسلمين لم يجعلوا الطب حكرًا عليهم، حتى في زمان قوة دولتهم, بل فتحوا الباب لكل العلماء المعاصرين من الديانات الأخرى؛ ليدلوا بدلوهم، وليساهموا بإنجازاتهم في سبيل تقدم هذا العلم المهم.. علم الطب.

فقد ظهرت أسماء نصرانية ويهودية مؤثرة في علم الطب مثل قسطا بن لوقا البعلبكي، وأبي النصر المسيحي، وهبة الله بن جميع الإسرائيلي، وغيرهم وغيرهم.. لدرجة أنه كان هناك عائلاتٌ نصرانيةٌ كاملةٌ انصبَّ اهتمامها الأساسي على علم الطب؛ ولذلك تراها وقد برعت فيه, وتبوَّأت مكانة مرموقة في الدولة الإسلامية، وذلك مثل عائلة آل بختيشوع النصرانية، التي ظلت تحترف الطب لثلاثة قرون كاملة، وكان لها مكانة عظيمة عند خلفاء بني العباس، وكان من أشهر علمائهم جبرائيل بن بختيشوع، الطبيب الخاص لجعفر البرمكي (أحد كبار رجال الدولة في عهد هارون الرشيد.

وتكفي الإشارة إلى أمر يدل على مدى التسامح الذي كان عند قادة المسلمين، ومدى الاقتناع عندهم بقبول الآخر، وهو أن الناصر صلاح الدين الأيوبي عندما دخل مصر، كان بصحبته ثمانية عشر طبيبًا، من بينهم ثمانية مسلمون وخمسة يهود وأربعة من النصارى، وسامريٌّ واحد!!

وهكذا وَشَتِ الحضارة الإسلامية علم الطب -بكل تخصصاته وفروعه- بكل نافع ومفيد، واستطاعت أن تضيف المزيد إليه، وتترك بصماتها الواضحة عليه، بما يفيد المسلمين والبشرية جمعاء، فأثْرت الحضارة الإنسانية بصفة عامة في هذا الجانب، واستطاعت أن تكمل مسيرتها فيه من بعد ما ارتكزت على السابقين.

وهذا ما يجب أن يكون عليه تعامل المسلمين مع العلوم الحياتية الآن بصفة عامة.

الخاصية الثانية: الاعتماد على التجريب والتطبيقات الواقعية:

كانت الخاصية الثانية التي ميَّزت المنهج الحضاري عند المسلمين في دراسة الطب هي اعتمادهم على التجربة والمشاهدة والفروض؛ بمعنى أنه لم يكن منهجًا فلسفيًّا نظريًّا بحتًا، وإنما اعتمد -وبشكل رئيسي- على التجارب العملية والتطبيقات الواقعية.. وهذا يميزه كثيرًا عن المناهج الطبيعية اليونانية، التي كانت في أغلبها فلسفات نظرية، لا تطبيق لها في الكثير من الأحايين، حتى وإن كانت صحيحة!

فقد اعتمد الأطباء المسلمون المنهج التجريبي في علم الطب، وكانوا يقومون في ذلك بتجرِبة طرق مختلفة ومتعددة للعلاج، وملاحظة الفروق بين هذه الطرق، وتسجيل ذلك بعناية ودقَّة.

واهتم الأطباء المسلمون بتسجيل الملاحظات اهتمامًا بالغًا؛ فكانوا يدوِّنون ما يشاهدونه في الحالات المرضية المختلفة، كما اهتموا بمحاولة تبرير هذه الملاحظات بما يستطيعون، أو محاولة ابتكار العلاج المناسب لكل حالة.. وبذلك حدث المزج الرائع بين العلوم النظرية والعلوم العملية، واستفادت البشرية من جهود العلماء السابقين واللاحقين.

يقول ابن سينا العلاَّمة الإسلامي المتميز: "... وتعهدتُ المرضى؛ فانفتح عليَّ من أبواب المعالجات المقتبسة من التَّجرِبة ما لا يوصف".

ويمتعنا الرازي في هذا المجال بكلام في غاية النفاسة والفائدة، حيث يقول: "عندما تكون الواقعة التي تواجهنا متعارضة مع النظرية السائدة، يجب قبول الواقعة، حتى وإن أخذ الجميع بالنظرية السائدة تأييدًا لمشاهير العلماء".

فهو يقرِّر أن الجميع قد ينبهر بآراء العلماء المشهورين الكبار، ويتوقف عند نظرياتهم، إلا أن التجربة أحيانًا ما تتعارض مع النظرية، فهنا يجب علينا رفض النظرية -وإن كانت لمشاهير العلماء- وقَبُول التجربة والواقعة، والبدء في تحليلها والاستفادة منها.

وانطلاقًا من هذا المنهج العظيم، وهو منهج الاعتماد على التجربة والملاحظة, وافتراض الفروض، ومحاولة تطبيقها.. لم يقبل الأطباء المسلمون بالأجهزة والأدوات القديمة التي استخدمها قدماء الأطباء اليونانيين والفارسيين، بل بدءوا يفكرون في أدوات جديدة، وابتكروا أنواعًا عِدَّة، وجرّبوها، فما أُثبت كفاءته منها استخدموه وطوّروه، حتى وضعوا بذلك أسسًا علمية لكثير من أدوات الجراحة والولادة وعلاج الأسنان، وعلاج كسور العظام، وصلت أحيانًا إلى حد الإبهار، وبخاصة إذا نظرنا إلى التوقيت المبكر الذي ظهرت فيه هذه الآلات، وإلى خلوِّ العالم في ذلك الوقت من أي منافس في هذا المجال.

وليس أدل على ذلك من إنتاج الجرَّاح الإسلامي الفذ أبي القاسم الزهراوي الذي أبهر العالم -ولعدة قرون- بأدواته الجراحية التي ابتكرها واستعملها بنفسه، وسجلها في كتابه الرائع (التصريف لمن عجز عن التأليف)، وأصبحت هذه الآلات العبقرية هي النواة التي طُوِّرَتْ بعد ذلك بقرون لتصبح الأدوات الجراحية الحديثة.

الخاصية الثالثة: الاهتمام بالضوابط الشرعية في العلاج:

وهذه هي الخاصية الثالثة الفريدة التي ميزت المنهج الإسلامي في دراسة الطب عن غيره من المناهج؛ فكل مناهج الأرض في جميع العلوم تُبتكر وتُنفَّذ دون ضابط شرعي، أو دليل إلهي على صحة أو بطلان عمل من الأعمال، لكن الطب الإسلامي تميز بأنه كان يستمد أصولاً ثوابتَ من القرآن والسُّنَّة ميّزته عن شتى المناهج الأخرى.

وليس معنى هذا أن القرآن والسنة وضعا التفاصيل الدقيقة لعلاج الأمراض؛ فلا نعالج مرضًا إلا بدليل! ولكن معناه أن هناك أُطُرًا عامة، وحدودًا خاصة وضعها الإسلام لتكون هاديًا للأطباء المسلمين، ولكافة العلماء وعموم الناس لكي ينجحوا في الوصول إلى الحق وإلى الخير والصلاح في كل فروع الحياة، ومن هذا المنطلق نفهم قوله {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].

فكان الأطباء المسلمون -على سبيل المثال- يحترمون القاعدة الشرعية الأصيلة التي رواها أبو الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً، فَتَدَاوَوْا وَلاَ تَدَاوَوْا بِحَرَامٍ»، ومن هنا لم يكن مقبولاً أبدًا عندهم أن يعالجوا مرضًا بخمرٍ أو نجاسة، أو بفعل منكر؛ فقد أغلق لهم هذا الحديث الشريف أبوابًا كثيرة من الشر؛ لأن الله عز وجل يعلم ما يُصلِح عباده وما يُفسدهم.

ومثال ذلك أيضًا أن الأطباء المسلمين لم ينساقوا وراء ما كان شائعًا في زمانهم من أمور العلاج بالدجل والشعوذة، وإنما استخدموا الأسلوب العلمي الراقي في علاج الأمراض، وقادهم هذا إلى اكتشاف الكثير من الأمراض النفسيَّة، ومعرفة طرق علاجها.

كذلك لم يستخدم المسلمون الكي في العلاج؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فقد روى ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «... وَأَنْهَى أُمَّتِي عَنِ الْكَيِّ»، وبذلك أغلق الأطباء المسلمون هذه الصفحة من طرق العلاج، والتي أثبت الطب الحديث -بعد ذلك- أنها مجرد تسكين مؤقت، ليس له فائدة حقيقية!!

وإذا كان من مثال رابع، فهو عدم استخدامهم السِّحر في العلاج، مع إدراكهم أنه علم له أصول، ولكنهم علموا أنه منهيٌّ عنه شرعًا، بل إنه من الكبائر ومن الموبقات السبع، كما روى أبو هريرة رضي الله عنهt أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ... وذكر منها: السِّحْرُ».

وكان لاهتمام الأطباء المسلمين بالقرآن والسُّنَّة السبيل لإرشادهم إلى كثير من وسائل العلاج التي أثبت الطب الحديث كفاءتها، بل وإعجازها.. وذلك مثل الاستشفاء بعسل النحل، وحبة البركة، والحجامة، وغير ذلك من أنواع العلاج التي حَفَلتْ بها كتب السُّنة النبوية.

فهذه خصائص عظيمة وفريدة قادت إلى تطور علم الطب في ظل الحضارة الإسلامية، وميزت المنهج الإسلامي في دراسة الطب عن غيره من المناهج، ومكَّنته من وضع أصول راسخـة لهذا العلم العظيم، ويسَّرت لعلمائنا الأفذاذ أن يقودوا البشرية كلها لعدة قرون.

المصدر: كتاب (قصة العلوم الطبية في الحضارة الإسلامية) للدكتور راغب السرجاني.