أسطورة مدينة بهاء النساء
25-01-2021, 12:31 PM


البَهْنَسَا هي مدينة أثرية قديمة، وتعد أشهر المناطق الأثرية في محافظة المنيا بجمهورية مصر العربية، كما أنها تعد من أجمل القرى المصرية، تقول الأسطورة أن سبب تسمية مدينة البَهْنَسَا[1] بهذا الاسم، يرجع إلى أن أحد أبناء ملوك البهنسا القدامى واسمه بطرس ولدت له بنت سماها (بهاء النساء) فاختصر هذا الاسم إلى (بهنسا) وسميت المدينة باسمها إلى يومنا هذا.

يقول الراوي: " وتملك البَهْنَسَا الملك قنطاريوس، وَكان من أمر الله ما كَانَ ثُمَّ هلك وَاستخلف وَلده اسكندراس بعده فأقام على رتبة أبيه فِي الملك مدة ثمانين سنة وَولد له وَلدان فسمى أحدهما توما وَالآخر بطرس فاقتسما الْمَدِينَة نصفين بينهما وَحصناها ببابين، فكان الجانب القبلي لتوما فجعل فيه بَابًا فسمى باب توما، وَالجانب البحري لبطرس فأقاما على ذَلِكَ أربعين سنة، فولد لتوما وَلد فسماه روماس، وَولد لبطرس بنت فسماها بهاء النساء، وَكانت بديعة فِي الحسن وَالجمال فسميت الْمَدِينَة بها إلى يومنا هذا".

ويبدو أن النزوع نحو نسبة العديد من قرى ومدن الصعيد إلى العرب والإسلام هو الغالب في سيرة فتوح البهنسا الغراء ربما تحت تأثير الواقع الجديد الناتج عن فتح مصر ودخولها في الإسلام والذي معه حاول الخيال الشعبي النبش في ماضي وتاريخ الفتح الإسلامي لمصر؛ للتأصيل لنشأة المدن والقرى، ليبدأ الراوي بعد ذلك في ذكر فتوح البهنسا والمعارك والبطولات التي دارت رحاها حول المدينة وليعدد لنا ما بأديمها من الشهداء والصالحين وآل البيت وعترته الأطهار.

وقد سبق القول: إن الراوي مهد للقصة الأساسية التي دارت وقائعها بين العرب والروم في البهنسا بمشاورات الصحابة في فتح صعيد مصر التي بدأت برسالة من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص لتبدأ المشاورات بين القادة واستقرار الرأي على استقدام الأمراء والأجناد من أطراف مصر، وظلوا يتوافدون حتى كان يوم الجمعة المبارك فخطب عمرو بن العاص خطبة الجمعة وقرأ رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وتولى خالد بن الوليد قيادة جيش الصعيد وسط حالة من العناق والهتاف، وبدأت الجنود تعسكر عند أهرام الجيزة وتستعد للرحيل متأهبين للسفر فهذا يصلح سيفه، وهذا يصلح رمحه، وهذا يصلح درعه، ومضت القصة تروى حركات الجيش العربي الذي تحرك نحو الصعيد.

ثم يصف الراوي سير المعارك الحربية ويبدأها بالحرب بين البطلوس ملك البهنسا وبين خالد بن الوليد قائد الجيش العربي، وكان جيش البطلوس مكونًا من خمسين ألف فارس عليهم الدروع المذهبة وأقبية الديباج المرقومة بالذهب والفضة وعلى رؤسهم التيجان المكللة باللآلئ والجواهر وسروج خيولهم من ذهب. وتقدمت جيش البطلوس الطبول والزمور والمعازف حتى ارتجت الأرض، ومعهم جمال وبغال محملة بأواني الذهب والفضة والخمور ومعهم الأغنام والأبقار، وتوالت الإمدادات على جيش البطلوس المعكوس، وبدأ عيون العرب يتجسسون الأخبار حتى التحم الجيشان بالقرب من دهشور، وخرج زياد بن أبي سفيان وغاص وسط جيش الروم منشدًا:

إني زياد بْن أبي سُفْيَان أبي وَجدي أشرف العربان
وابن عمى أحمد العدناني معي حسام مرهف يماني
وفي يدي رمحي لكل جاني من كل كلب عادم الإيمان

ووصل زياد إلى القائد الأعظم لجيش الروم وضربه بالسيف على عاتقه الأيمن فخرج السيف يلمع من عاتقه الأيسر. بأسلوب الملاحم العربية قال الراوي:" فَلَمْ تَكُنْ إِلَّا ساعة، حَتَّى وَلت الرُّوم الأدبار وَركنوا إِلَى الفرار لا يلوى بعضهم على بعض وَتبعهم الْمُسْلِمُونَ يقتلون وَيأسرون". وعاد الجيش العربي بسبعمائة أسير وفجأة ظهر عمرو بن العاص في الميدان مع خالد، وأوقدت النيران في المعسكر العربي.

وفي الصباح أقبل جيش الروم على المعسكر العربي ووقف الجيشان استعدادًا للقتال، ولكن الراوي يذكر قصة ملحمية جديدة، فقد طلب جيش الروم أحد قادة العرب للتفاهم، فذهب المقداد بن الأسود إلى المعسكر الرومى، وقابل (بولص) قائد الروم، ولكن بولص رفض الحديث معه وطلب قائد الجيش خالد بن الوليد، فذهب إليه خالد ودارات بينهما مناقشة عرض فيها الرومي حقن الدماء ودفع أموال للعرب حتى يرحلوا فرفض خالد.. واجتمع جند الروم مع قائدهم يريدون قتل خالد، ولكنه استطاع في بطولة أسطورية أن يقتل عددًا منهم ويعود إلى معسكره.

ودرات معارك طاحنة بين العرب والروم، وأسرف الراوي إسرافًا شديدًا في إظهار البطولات الخارقة للعادة عند العرب والتي ترضي جمهور السامعين على طريقة الملاحم العربية الفردية. التي تهتم ببطولة فرد واحد أكثر من اهتمامها ببطولة جيش كامل، وقتل في تلك المعارك (بولص) قائد الروم وتولى القيادة أخوه (بطرس) وظلت المعارك دائرة بين الفريقين، حتى انهزم جيش الروم وأسر منه خمسة آلاف فارس، وبلغ عدد القتلى تسعين ألفًا. أما العرب فقد قتل منهم ثمانمائة وثمانون رجلًا.

وعاد عمرو بن العاص إلى مصر (الفسطاط)، وسار خالد بن الوليد بجيشه إلى مدينة أهناس/ أهناسيا، وملكها (مانوس المنحوس بن ميخائيل الضليل بن اهناس)، وضرب الحصار على المدينة ثلاثة أشهر وأخيرًا نفذ خالد خطة حربية أشار بها المرزبان وهو أحد أمراء كسرى الذين أسلموا، وخلاصتها وضع صناديق مليئة بالزيت والكبريت تحت أبواب المدينة وإشعال النار فيها حتى يذوب حديد الأبواب وتفتح فيدخل الجيش العربي، ونجحت الخطة الفارسية، ودخل خالد مدينة أهناس، وانتشر الجيش العربي في القرى والمدن يستولى عليها واحدة بعد الأخرى عنوة أو صلحًا.

وبدأت بعد ذلك معارك البهنسا عاصمة الصعيد ومستقر الملك البطلوس، الذي فتح خزائنه ووزع المال والسلاح على رجاله وهب لمقاتلة العرب. وقبل القتال دار حديث الصلح وذهب المغيرة بن شعبة على رأس وفد عربي لمقابلة البطلوس، ووصف الراوي سرير الملك وقصره وحجابه وصفًا شائقًا ثم وصف طريقة ملاقاة الوفد العربي له بأسلوب مثير، حتى أن المغيرة وصحبته وهم عشرة حملوا بسيوفهم أكثر من مرة على الملك وجيشه، ودارت مناقشات طويلة بين البطلوس والمغيرة بن شعبة، ولم تجد محادثات الصلح شيئًا وأقبل البطلوس بجيشه الزاحف، ودارت المعارك وسقط شهداء من جيش خالد.

وطال حصار البهنسا، ولم يستطع الجيش العربي اقتحام أبوابها، فأعد مكيدة جديدة من نوعها خلاصتها أنهم جهزوا غرائر مليئة بالقطن ووضعوا رجالا بداخلها مع سيوفهم وألقوهم إلى أعلا الأسوار عن طريق كفة منجنيق كبير يرفع الغرائر واحدة بعد أخرى إلى سور المدينة، ثم خرج الرجال من الغرائر وبأيديهم السيوف وقتلوا الحراس وفتحوا الأبواب، ودخلوا المدينة، ودخلت كتائب الجيش العربي تحت راياتها وأنشد كل أمير من أمراء الجيش مقطوعات شعرية. وانتهت الملحمة بالاستيلاء على البهنسا، ثم خروج خالد بجيشه سائرًا إلى الصعيد حتى وصل إلى عدن وسواكن واستولى عليهما.

خلاصة القول: إنتاج الأدب الشعبي العربي من الحكايات والسير الشعبية وفير للغاية، ولعل أهم ما خلفه لنا هذا الإنتاج تلك السير الكثيرة التي تكشف كل منها عن واقع تاريخي محدد، عاشه الشعب العربي في مراحل كفاحه ونضاله، وربما تصورنا أن بعض هذه السير قد سبق البعض الآخر في زمان تأليفه وانتشاره، فالأدلة العلمية لا تسعفنا في محاولة تأريخها زمنيًا، ولكنها على كل حال كانت تروى جميعًا، قبل تدوينها، في زمن واحد تقريبًا وهو زمن مبكر نسبيًا إذا قييس بالعصر المتأخر الذي دونت فيه والشواهد تشير إلى أن السير الشعبية كانت تتعاصر، وإن الشعب العربي كان يستمع إليها جميعًا.

ومعنى هذا أن الموضوعات المتنوعة التي تتناولها كل سيرة على حدة كانت تلبي احتياجات نفسية واجتماعية لدى الشعب العربي ومن هذه السير سيرة فتوح البَهْنَسَا الغراء التي تُعد كنزًا أدبيًا وتاريخيًا لم يتح لنا إلا الاغتراف القليل من نفائسها والتي بلا شك تساعد مكتملة على الكشف عن روح الحياة العربية الإسلامية، ذلك الكشف الذي يعد أساسًا لدراسة تراثنا الشعبي، ومازال يحوي الكثير مما يفيد في دراسة الأدب الشعبي والدراسات التاريخية؛ إذ يأتي هذا المخطوط ليقدم نصًا شعبيًا يتناول فتح العرب لمصر تناولاً يمزج بين الحقيقة والخيال، لتحرره من قيود التاريخ وانطلاقه في رحاب الإبداع الفولكلوري بشكل واضح وصريح، وهو على كل حال يؤكد أن فتوح مصر لم تمر على الخيال الشعبي دون استجابة يقظة، وانتباه واع بدور الأدب الشعبي في تسجيل بطولات هذا الحدث الهام[2].

دكتور عمرو عبد العزيز منير
[1] تقع مدينة البهنسا بمركز بني مزار بمحافظة المنيا، على بعد 198 كيلومترًا جنوب القاهرة.
[2] عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية