أصول الحرب النفسية و العقائدية و الحقيقية على العالم العربي و الإسلامي - المقدمة
17-01-2009, 08:20 PM
مقدمة
يهدف هذا البحث المتواضع إلى عرض وتحليل الأسباب العميقة والخفية التي دفعت فرنسا إلى تبني القرار الخطير رقم 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي تحليلاً تاريخياً وسياسياً يحاول أن يتوخى أقصى درجات الدقة والموضوعية، والذي –من خلاله فقط- يمكننا أن ندرك ما ينطوي عليه هذا القرار من عواقب وخيمة قد تجر الويلات على المنطقة والعالم، ومنه أيضاً ندرك كيف أن فرنسا تعتبر نفسها الدولة الأوربية الأفضل والأجدر بالتكليف الإلهي-بزعمها- لتدمير الحضارة العربية الإسلامية.
لنبدأ إذن بفضل من الله وتوفيقه بحثنا هذا من اللحظة الأولى التي آلت فيها فرنسا على نفسها القيام بتلك المهمة.
إن تاريخ 19 أكتوبر 732م هو التاريخ المناسب ليكون نقطة البداية؛ يوم وقف الفاتحون المسلمون على بوابة " بواتييه" " Poitiers" مطلين على قوات الفرنجة الضخمة التي كانت تحت قيادة ذلك القائد المقتدر "Charles Martel" (741م-689) حينها أدركت أمة الفرنج (الفرانك) التي أصبحت تسمى بعد ذلك فرنسا- أن الله قد اختارها من بين كل الأمم الأوربية للوقوف في وجه الحضارة العربية الإسلامية ثم تدميرها. والمعروف –طبعا- أن (Charles Martel) تمكن من وقف زحف الفاتحين بعد استشهاد قائدهم " عبد الرحمن الغافقي" بتقدير من الله سبحانه وتعالى الذي يفعل ما يشاء متى يشاء.
وحتى نعطي القارئ فكرة عن عمق الكراهية العمياء التي تكنها فرنسا للحضارة العربية الإسلامية منذ معركة " بواتييه" التاريخية الحاسمة، رغم مرور ما يزيد عن أثنى عشر قرناً عليها، يمكننا أن نقتبس الفقرات الآتية التي وردت في الجريدة الفرنسية "France Dimanche" عدد 529 سنة 1956 أين تتبنى الفكرة التي مفادها أن مهمة الصليب هي مطاردة الهلال وإرغامه على العودة من حيث أتى.
حيث جاء تحت عنوان:" العرب...ولكن من هم؟" ما يلي :" ترونهم في كل مكان، يحتكون بكم، يعملون بجواركم، يقتلونكم، وتجهلون كل شيئ عنهم"
وجاء أيضاً " معركة بواتييه في 732: سبعة أيام من القتال أنقذت الغرب من الغزو الإسلامي"..." إن القرآن يمنع المسلم من الإطلاع على المبلغ الموجود في حسابه بالبنك، ويجيز له قتل فرنسي دون ندم"." لماذا يعادي العرب العالم الغربي بكل شدة"
إذا تركنا "Charles Martel" الذي أنقذ –حسب المؤرخين- الغرب من الغزو الإسلامي، إلى حفيده (Charlemagne) (768-814) والذي أصبح إمبراطور ما يسمى " الإمبراطورية الرومانية المقدسة"، كان هذا الرجل على أتم الاستعداد- بتواطأ من هارون الرشيد الخليفة العباسي- لخوض معركته الحاسمة ضد الأمويين في الأندلس، غير أنه كان يدرك عدم إمكانية إنجاز هذه المهمة بنجاح إلا بعد توحيد أوربا وفرض المسيحية على القبائل الوثنية الثائرة في بريطانيا وألمانيا والدنمارك والسويد والنرويج. وهكذا أعلن (Charlemagne) نوعاً غريباً من الحرب الصليبية ضد القبائل الوثنية المتمردة من أجل تنصيرها وتوحيدها في صف واحد ضد الأمة الإسلامية.
إننا نميل إلى الاعتقاد أن المؤرخين لا يستطيعون- لو كانوا موضوعيين- أن ينكروا أن الفضل في تنصير أوربا يرجع إلى " Charlemagne " أكثر من كونه يرجع إلى "القديس بولس""Saint Paul" الذي حاول بيع الديانة المسيحية بعد أن أفرغها من مضمونها – إلى الإمبراطورية الرومانية. وهذا هو إلى حد ما رأي المؤرخ الإنجليزي (H.G.Wells) الذي قال:" فاستخدم "Charlemagne " السيف والنار في التبشير بإنجيل الصليب لدى الساكسون والبوهيميين، بل توغل حتى الدانوب (فيما هو الآن بلاد المجر) وحمل نفس التعاليم منحدراً بها حتى سواحل الادرياتي (خلال ما هو الآن " دالماتيا" القسم المطل من يوغسلافيا على شرق الأدرياتي) ودفع المسلمين خلف " البيرينيه" حتى برشلونة"[1]
أن ما فعله " Charlemagne" بفرض مسيحية بولس على القبائل الأوربية الوثنية بالسيف والنار، هو الذي جعل –دون شك- بطل حرب الريف الأمير عبد الكريم الخطابي يذكر –ساخراً- وهو يوقع وثيقة الهدنة (التي فرضتها عليه فرنسا وأسبانيا) أن الحضارة الغربية هي بحق حضارة الحديد والنار.
إن فرنسا التي أخذت على عاتقها أمر تنظيم الحملة الصليبية الأولى كانت أكبر الأديرة فيها تحت إدارة رهبان مخلصين لديانتهم ذوي نفوذ قوي على أفراد الشعب، بل وعلى الباباوات أنفسهم،من أمثلتهم يمكن أن نذكر الراهب (Gerbert 1020-1085)، إذ أن ما جعل من هذا الأخير عدواً للمسلمين، أنه استطاع أن يكتسب معرفة عميقة عن الحضارة العربية الإسلامية، لأن الكنيسة قد اختارته- رغم خلفيته الاجتماعية المتواضعة- لترسله إلى التعلم في أحسن المدارس في برشلونة وقرطبة، وبذلك أتيحت له الفرصة لاكتشاف مواطن القوة والضعف لدى المسلمين، ثم عاد إلى بلاده ليقوم بإعداد فرنسا وأوربا للحملة الصليبية المرتقبة. ويبدو أن معرفته بالعالم الإسلامي قد جعلته زعيماً روحياً –دون منازع- للعالم الغربي، مما أهله لكي يرتقي سلم التنظيم الكهنوتي المسيحي ويصبح بابا يدعى " البابا سلفستر II(Pope Sylvester II).
ولقد بلغ الاستعجال بالراهب (Gerbert) لكي يرفع الصليب ضد الهلال أنه اتصل –قبل أن يصبح بابا- بالراهب (Hildbrand)[2] على أمل أن يساعده في تنظيم حملة صليبية. وقد كان هذا الأخير –كما يبدو- أكثر منه حماساً لدرجة أنه (كما قال Brooks Adams) :" يفضل أن يغامر بحياته في الأماكن المقدسة على أن يصبح زعيماُ للكون"[3]
لم يعش الراهب (Gerbert) ليشهد الزحف على القدس، لكنه مات على يقين من أن الشهور والسنين التي قضاها في خدمة دعوته تلك خطيباً واعظاً في فرنسا وخارجها سوف تؤتي ثمارها لا محالة.
لقد وجد المؤرخون بعض الصعوبات في إعطاءنا صورة واضحة عن الهجرة الجماعية (Exudos) التي انطلقت من أوربا إلى القدس في ربيع 1099.
ولكي نفهم كنه تلك الهجرة التي تحمل في طياتها الكراهية التي يحملها الغرب للعالم العربي الإسلامي يجب أن نعود إلى الكتاب الهام- رغم افتقاره إلى الموضوعية لمؤلفه (Harold Lamb) وهو بعنوان: (The Crusades iron Men and Saints) الذي أهداه إلى:" الألوف التي لا تحصى من الذين ماتوا في الحروب الصليبية"*
حيث قال في كلمات معدودة :" كل العالم المسيحي زحف إلى الحرب لكي يحرر القدس"[4]
إن ما تعنيه وتبينه هذه الجملة القصيرة هو أن الرهبان –خاصة في فرنسا- قد نجحوا بخطبهم الوعظية الرنانة في تهييج الآلاف من الصليبيين ليتركوا كل شيء وراءهم، ويتجهوا نحو الزحف الطويل المحفوف بالمخاطر. والواقع أن ما قاله (Harold Lamb) ليس إلا تكراراً ودعماً لما سبق أن قاله "Brooks Adams" الذي لاحظ أن الهجرة غير المسبوقة التي انطلقت من أوربا في ربيع 1099 كادت أن تفرغ القارة الأوربية من سكانها حيث يقول:" إن مدناً ومناطق بأسرها تركها أهلها مهجورة، فقد انطلق الفلاح محملاً بأمتعته البسيطة رفقة زوجته وأولاده يبحثون عن ضريح المسيح، وقد بلغ بهم الجهل مبلغاً جعلهم يعتقدون أن كل مدينة يمرون عليها في طريقهم هي جبل صهيون"[5]
ثم ذهب (Brooks Adams) إلى القول أن الصليبين الذين هلكوا بالآلاف بسبب المجاعة والأوبئة لأنهم لم ينظموا أنفسهم لوجستياً، كان من الممكن أن يهلكوا جميعاً " لولا حالة الحرب التي كانت قائمة بين سوريا ومصر، فقد كان الخلاف بينهما مريراً، لدرجة أن الخليفة قد حاول فعلاً عقد حلف مع المسيحيين ضد خصومه"[6]
والملاحظ هنا أن كلا من (B.Adams) و (H.Lamb) اتفقا على أن أولئك الرهبان الحفاة والكنيسة الرومانية الكاثوليكية قد نجحوا فعلا في إقناع آلاف الأوروبيين بالتخلي عن كل أملاكهم والزحف نحو القدس، غير أنهم فشلوا فشلا ذريعا في تنظيم تلك الألوف بما يضمن نقلهم و إطعامهم وهو الفشل الذي قد يرجع إلى انعدام التجربة لديهم في هذا المجال، أو إلى اعتقادهم الساذج بأن المسلمين الذين ذهبوا إلى قتالهم سوف يستقبلونهم بأذرع مفتوحة، و يوفرون لهم ما يحتاجون من طعام و شراب!!.
لقد اتفق المؤرخون و المحللون السياسيون على أن سبب هلاك آلاف الصليبيين جوعا و عطشا يرجع إلى غياب شروط التنظيم اللوجستي، و هو ما دفعهم – كما يؤكد ذلك (H.Lamb) «إلى أكل لحوم البشر، .. كما كانوا يأخذون مسحوق الطباشير و يخلطوه مع الدقيق لصناعة الخبز، فقد أصبحت وجوههم مصفرة غائرة، و قواهم خائرة، يجرون أجسامهم جرَّا... رأى بعضهم رجلاَ آتيا من سوق (tennere) ومعه قطعة لحم بشري مطبوخة ليبيعها زاعما أنها لحيوان، فاعتُقل و حٌكم عليه، لكنه لم ينكر فعلته الشنيعة، أُخذت منه تلك القطعة، و دُفنت، غير أن رجلا آخر استخرجها وراح يأكلها فحكم عليه بالموت حرقا»([7]).
لقد حصدت المجاعة أرواح الآلاف من الصليبيين، استمرت تقضي على من بقي منهم، حتى أن (Peter the Hermit) وجد أن من المستحيل أن يمنع الصليبيين الجياع من نبش قبور الأتراك و العرب ليأكلوا ما بداخلها كأنها خراف طرية مطهوة.
يقول (H.Lamb) نقلا عن رواية أحد الشهود الذين ذهبوا لمقابلة القائد (Tafur) : «... نرجو يا سيدي أن تمنحنا نصحك فنحن نموت جوعا .. و عندما رفع "تافور" رأسه صرخ فيهم قائلا : اذهبوا و ابحثوا عن جثث الموتى من الأتراك، سيكون أكلها سائغا إذا طُبخت جيدًا و تم تمليحها .. فردّ الحضور بصوت واحد : هذا صحيح، ثم اختفوا لاصطياد الجثث، التي جاءوا بها و نزعوا الأحشاء منها، ثم وضعوها فوق النار في قدور مملوءة ماء، و قد انتشر هذا الخبر في المعسكر، كان الحراس المسلمون يرقبون من فوق أسوارهم العالية تلك المشاهد المرعبة»([8]).
كان زحف الصليبيين الذين هيجتهم فرنسا و ملوك أوروبا نحو القدس تاركين وراءهم كل شيء، كمثل زحف الباحثين عن الذهب، و في ذلك يقول المؤرخ (Ernest Barker) الذي ينقل عنه (H.G.Wells) : «...لا عجب إذن أن ينطلق نحو الشرق تيار من الهجرة، شأن ما يحدث في الأزمنة الحديثة من انسياب الناس نحو منطقة للذهب حديثة الاكتشاف، تيار يحمل في مياهه العكرة أدرانا كثيرة من المشردين و المفلسين و متتبعي المعسكرات و الباعة المتجولين، و الرهبان اللاجئين و الأشرار الفارين، موسوم بنفس سمة الخليط متعددة الألوان، و نفس حمى الحياة، و نفس التأرجحات بين الثراء و الادقاع (الفقر) التي تميز الاندفاع إلى منطقة الذهب اليوم»([9]).
-إن الحرب غير المبررة التي كانت قائمة بين سوريا و مصر، قد مكنت الصليبيين من تجاوز الصعاب الجمة التي واجهتهم، ليستولوا في الأخير على القدس. و هنا نتوقف قليلا لنترك المجال للمؤرخ الإنجليزي (E.Barker) ليصف للقارئ ما حدث في ذلك اليوم المأساوي الموافق 15 جويلية 1099 حينما اجتاح الآلاف من الأوروبيين المشردين و الفلاحين الجياع و ملوك أوروبا و نبلاؤها، مدينة القدس بعد أن حطموا دفاعاتها، حيث يقول : «..و بعد حصار دام أكثر قليلا من شهر، استولوا على المدينة نهائيا، كانت المذبحة رهيبة، و كان دم المقهورين يجري في الشوارع، حتى لقد كان الرجال يصيبهم رشاش الدم و هم ركوب، و عندما أرخى الليل سدوله جاء الصليبيون و هم "يبكون من فرط الفرح" إلى الناووس القدس (المذبح) بعد خوضهم في ما أُريق من دم سال كالخمر من معصرة العنب، ورفعوا أيديهم الملطخة بالدماء يصلون شكرا لله، و بذلك انتهت الحرب الصليبية الأولى ذلك اليوم من شهر جويلية» ([10]).
كان إذن يوم 15 جويلية 1099م المرعب هو اليوم الذي شهد هلاك الآلاف من البشر و شهد تدمير القدس كما رأينا.
في هذا السياق يجدر بنا أن نلاحظ بأن الحماس المفرط الذي استولى على كيان الصليبيين أثناء الحملة الصليبية الأولى قد خف وهجه أثناء الحملة الصليبية الثانية، إذ يعتقد كل من (B.Adams) و(H.G.Wells) بأن تلك الروح و ذلك الحماس قد تحولا إلى مجرد تجارة في الوقت الذي ظل فيه الملك لويس التاسع و خاصة الراهب (St Bernard) على اعتقاداهما بقداسة المهمة التي كلفهما الله بها للقضاء على الإسلام، رافضين التخلي عن فكرة القيام بها وأدائها.
استمر الصليبيون في نشر الموت و الرعب في أوساط المسلمين حتى بعد استيلاءهم على القدس. ينقل (Harlod Lamb) على سبيل المثال عن أحد القادة الصليبيين و هو (Lord Balding) قوله: «... لقد دمرنا حقول أعداءنا ثم واصلنا إلى حيث اكتشفنا قرى اختفى سكانها المسلمون مع حيواناتهم داخل مغارات، و لأننا لم نتمكن من إخراجهم منها، قمنا بإشعال النار على بابها فخرجوا الواحد تلو الآخر»([11]).
و هنا يجدر بالقارئ أن يحتفظ في ذهنه بهذه الصورة و هذا الأسلوب الرهيب، فبعد ثمانية قرون من ذلك نجد الجنرالات الفرنسيين الدمويين من مثل الجنرال "بيجو" " Bugeaud"و "جاك بيليسييه""Jean Jacques Pelissier" و "كافييناك" " Cavaignac "يكررون نفس المأساة الجنونية غرب الجزائر كما سوف نرى لاحقاً.
لم تكن الحملة الصليبية الثانية (1147م) أقل مأساوية من نظيرتها الأولى، و الغريب في الأمر أن أوروبا قد نظمتها رغم أن القدس كانت لا تزال بين أيدي الصليبيين.
و يعتقد بعض المؤرخين –على أي حال- كـ. (Brooks Adams) و (H.G.Wells) أن ما دفعها للقيام بهذه الحملة هو سقوط مدينة (Edessa) في أيدي المسلمين سنة 1144م.
إن ما جعل وجه الشبه كبيرا بين الحربين الصليبيتين الأولى و الثانية هو الدور الرئيس الذي لعبه الرهبان الفرنسيون الحفاة في تحريك الأوروبيين واعدين إياهم بالثروة و الجنة إذا ما لحقوا بهم إلى أرض فلسطين.
و قد بلغ هؤلاء الرهبان من القوة –كما قلنا- مبلغا جعل ملوك أوروبا و أباطرتها يركعون أمامهم لتقبيل الصلبان التي يحملونها بين أيديهم.
إن الراهب (St Bernard of clair - voux -1091-1153) الذي وصفه (Brooks Adams) بأنه يمثل روح الحملة الصليبية الثانية يستحق أن يلقب أيضا ببطل هذه الحملة لأن نفوذه على الأوروبيين كان أكبر من نفوذ سَمِيّه الراهب (Gerbert). و قد كتب (Brooks Adams) يقول إن نفوذ (St Bernard) «كان من القوة بحيث تمكن من اصطحاب ثلاثين من أصدقاءه، حتى أن الأمهات كن يخفين أولادهن وأزواجهن مخافة انسياقهم وراءه، و الواقع أن دمّر الكثيرمن الأسر، و هو ما جعل النساء يؤسسن ما عُرف بـ..(Cistercian Order)» ([12]).
يبدو أن الرهبان الحفاة و الباباوات و ملوك أوروبا قد اعتادوا تنظيم الحملات الصليبية ضد الإسلام الواحدة تلو الأخرى، و هو ما يؤكد إصرار العالم الغربي على انتهاج أي سبيل لتدمير الحضارة الإسلامية رغم أن هذه الأخيرة كانت في غاية التسامح معه، و هو التسامح الذي فاجأ المؤرخين الغربيين أنفسهم مثل (H.G.Wells) الذي يقول : «إن القديس فرنسيس الأتسي (1181-1226) قام بحملته التبشيرية في مصر و فلسطين دون أن يتعرض له المسلمون بالأذى رغم أن الحملة الصليبية الخامسة كانت في أوج عنفوانها.» ([13]).
لم يتمكن المسلمون من تحرير القدس و استرجاعها إلاّ في سنة 1187 م بعد أن وحد شملهم القائد المسلم البطل صلاح الدين الأيوبي، غير أن هذا الحدث التاريخي الذي هزّ كيان الأمة الإسلامية شرقا و غربا قد جاء – إلى حد ما – متأخرًا، لأن الصليبيين استطاعوا خلال ثمانية و ثمانين عاماً من احتلال القدس أن يلحقوا بالأمة أضراراً بليغة، عندما غرسوا في قلبها طبقة ذات صفات غريبة عن عقيدتها و أصالتها. فرغم أن منظمي الحملات الصليبية الأولى كانوا مدفوعين بأسباب مادية تجارية، غير أنهم تمكنوا في الوقت نفسه من إنشاء مستوطنات عديدة في لبنان مثلت بؤرا نشأت و ترعرعت فيها أسباب الفتنة الطائفية و الدينية و التي خلّفت اضطرابات كثيرة على مدار التاريخ، و يشهد على ذلك ما عاشه لبنان خلال الحرب الأهلية التي هلك فيها آلاف الأشخاص بمن فيهم اللاجئون الفلسطينيون البؤساء الذين قُتّلوا في صبرا و شاتيلا عام 1982م بمساعدة من المليشيات المسيحية و خاصة تلك التي كانت تحت قيادة المسمى "أنطوان لحد" الذي شارك في المجزرة تحت أعين السفاح الصهيوني "أرئيل شارون"، وأصبح مع الآلاف من أفراد تلك المليشيات عميلا لإسرائيل للانتقام من المسلمين في لبنان و فلسطين المحتلة وسوريا.
لم يكد العالم الإسلامي يباشر عملية إصلاح الأضرار الثقافية والروحية التي نتجت عن الحملتين الصليبيتين الأولى والثانية، حتى قام الرهبان الفرنسيون الحفاة والكنيسة الكاثوليكية الرومانية بتنظيم الحملة الصليبية الثالثة سنة 1189م، غير أن ملك فرنسا والإمبراطور "فردريك الأول""FREDERICK I"، وملك بريطانيا "ريتشارد قلب الأسد" فشلوا فشلا ذريعا في استرجاع القدس وأرغموا على العودة إلى بلدانهم فارغة أيديهم منكسة رؤوسهم. غير أن العالم الغربي الذي يبدو أنه يملك طاقة خارقة في تنظيم الحملات الصليبية راح ينظم مرة أخرى الحملة الصليبية الرابعة المعروفة بـ: (حملة الأطفال الصليبية)(*)، وعندما تبخرت هذه الحملة حتى قبل انطلاقها، انطلقت الحملة الصليبية الخامسة بزعامة فرنسا كانت مصر هي ضحيتها هذه المرة، حيث بدأ الهجوم على دلتا النيل وبالأصح على مدينة دمياط سنة 1218م. وقد اعتقد الصليبيون –بلا شك- أن المسيحيين المصريين سوف يمكنونهم من احتلال مصر بغير مشقة. غير أنهم اكتشفوا – لسوء طالعهم – أن سكان دمياط لم يكونوا فريسة سهلة ورفضوا الاستسلام رغم الحصار والتطويق الذين داما مدة ثمانية عشر شهرا.
وهنا يجب أن نقول وبكل موضوعية ؛ إننا لا نستطيع –لعدم وجود الأدلة – الإجابة عن هذا السؤال: هل وقف المسيحيون المصريون في وجه الهجوم الصليبي على دمياط أم أنهم كانوا عاملا مساعداً له؟
لكن هذا الأمر لا يجعلني أتخلى عن شكوكي العميقة عن دور الأقلية المسيحية داخل الأمة العربية الإسلامية. والواقع أنني أجد في نفسي غصة و ألماً عندما أقول : إنني أثق في مسيحي أوروبي و حتى في يهودي أكثر من ثقتي في مسيحي عربي.
إن التاريخ يثبت أن معظم الأضرار التي سببها المسيحيون الأوروبيون و حتى اليهود للأمة العربية الإسلامية لم تكن أضرارا قاتلة كتلك التي سببها المسيحيون العرب.
إن الكراهية العمياء التي يكنها هؤلاء للإسلام تعود في أحد أسبابها إلى تسامح الدين الإسلامي الذي يقوم على مبدأ الآية الكريمة :« لا إكراه في الدين». إذ أنهم كأقلية يجدون أنفسهم تلقائيا يبنون ذلك الجدار من الكراهية كرد فعل، مخافة أن يجرفهم تيار التسامح الإسلامي و يذوبوا فيه بعد ذلك طواعية. و بمعنى أن يحيطوا أنفسهم بالدائرة النفسية المعروفة :«نحن وهم».
انتهى غزو مصر بكارثة حقيقة، فقد ابتلع نهر النيل الآلاف من الصليبيين، وواجه من بقي منهم هزيمة نكراء وفشلا ذريعا بسبب البطولة النادرة التي أظهرها المسلمون المصريون في الدفاع عن دينهم وأرضهم.
و الواقع أن تلك الحملة كان محكوما عليها بالانتهاء إلى ذلك المصير، لأن أولئك الرهبان الحفاة رفضوا الاستماع إلى نصائح العسكريين. و في ذلك كتب (Brooks Adams) يقول: «كان جنود كل الأمم الأوروبية يميلون إلى السلم في حين كان القساوسة مصممين على الحرب، لأنهم آمنوا –بكل ثقة- بأنهم يستطيعون أن يكرروا في القاهرة ما فعلوه في القسطنطينية»([14]).
ثم ذهب يقول أيضا :«إن أحد زعماء القساوسة و هو (Pelaguis) استمر بصليبه يتحدى فكي الموت حتى فاض النيل و ابتلعه»([15]).
رغم أن النيل قد ابتلع آلاف الصليبين -كما قلنا- و أن من بقي منهم انهزم و تقهقر، إلا أنهم استطاعوا في الوقت نفسه أن يكبدوا مصر و دمياط خاصة- أضرارا جسيمة، و لقد بين (Brooks Adams) في كتابه القيم أن الوضع في مصر بلغ حالة من اليأس، جعلت السلطان يقتنع أن الطريق الوحيد الذي يجب أن يسلكه لكي ينقذ بلده و عرشه، هو أن يقدم تنازلات مهمة للصليبيين. حيث كتب يقول :«أرسل السلطان سفيرا إلى الصليبيين يعرض عليهم الأرض المقدسة إذا ما انسحبوا من مصر(*)»([16]). غير أن السلطان لم يستغرق وقتا طويلا حتى اكتشف أنه رغم التنازلات التي كان على استعداد لتقديمها للصليبيين، فإن هؤلاء كانوا عازمين على أن لا يقنعوا من الاحتلال إلا بأرض الأمة الإسلامية بأسرها.
و هو ما جعله يحشد كل طاقات مصر المعنوية و السياسية و الاقتصادية و الروحية لشن حرب ضارية ضد الصليبيين في القدس. و لقد كتب (H.G.Wells): «ضيّع المسيحيون القدس مرة أخرى في 1244م(**)، و لقد استطاع سلطان مصر استرجاعها بسهولة حينما حاول الصليبيون التآمر ضده»([17]).
-بعد خروج القدس من بين أيديهم، راح أولئك الرهبان الحفاة ينظمون الحملة الصليبية السابعة والتي فضّل بعض المؤرخين الغربيين أن يطلقوا عليها اسم حملة "سان لويس" (لويس التاسع) ملك فرنسا. ولكن يبدو أن هؤلاء الرهبان و الملك لويس التاسع لم يستقرأوا التاريخ جيدا ليأخذوا العبرة من الكارثة التي انتهت إليها الحملة الصليبية الخامسة، و قرروا مهاجمة مصر مرة أخرى. و هنا كررت الأحداث نفسها، حيث فاض النيل و أهلك آلاف الصليبيين كما حدث قبل ذلك، بل إن الملك لويس التاسع نفسه أُسر و سُجن، و لم يُطلق سراحه ، إلاّ بعد أن دُفعت مقابل ذلك فدية كبيرة لمصر.
-رغم كل ما حدث للملك و حملته، فإنه لم يكف لحظة عن الاعتقاد بأن الرب قد اختار فرنسا ممثلة في شخصه لمهمة القضاء على الحضارة العربية الإسلامية، حيث قرر – رغم تقدم سنّه – أن ينظم حملة صليبية أخرى كانت هذه المرة موجهة ضد تونس. و غني عن القول أن ما فعله الملك لويس التاسع (الذي توفي إثر الحمى التي ألّمت به في تونس سنة 1270) قد رسخ الاعتقاد لدى المسلمين بأن فرنسا هي عدوهم الأكبر و الأشرس من بين كل الدول الأوروبية.
-إن الحديث عن تاريخ الحملة الصليبية لا يكتمل دون الإشارة إلى الدور البطولي البارز الذي قام به الشيخ الجليل أحمد البدوي. في تنظيم و قيادة الشعب المصري في طنطا ضد الغزاة الصليبين بقيادة لويس التاسع.
إن هذا الملخص للدور الحاسم الذي لعبته فرنسا في تشجيع وتنظيم أغلب الحملات الصليبية ضد الحضارة العربية الإسلامية، يكفي لإعطاء القارئ فكرة عن عمق الحقد والكراهية الذين تكنهما فرنسا لهذه الأمة منذ 732م.
وفي ما يلي من الصفحات من هذا البحث المتواضع، سوف نرى كيف استطاعت فرنسا أن تصبح قوة استعمارية كبيرة بعد اكتشاف العالم الجديد سنة 1492 رغم أنه لم يكن لها أي فضل في مساعدة كريستوف كولومبوس "Christophor Columbus" في تحقيقه
-إن ما يمكن أن نسجله بخصوص التداعيات التي ترتبت عن ذلك الاكتشاف الكبير الذي حدث في 12 أكتوبر 1942، هو أن أغلب الدول الأوروبية قد استفادت منه، رغم أنها لم تساعد في إعداد الرحلة و تمويلها، بل إن البعض منها كان قد عارضها و سخر من مجرد التفكير فيها. فإذا ما وضعنا جانباً إسبانيا التي يرجع إليها الفضل في تحقيق تلك الرحلة التاريخية عبر الأطلسي فإننا نجد أن البرتغال كانت أيضا مصرة على ضرورة اقتسام العالم الجديد مع إسبانيا. بل إن ملك بريطانيا "هنري السابع" (Henry VII) (1485-1509) الذي كان من الممكن أن يدخل التاريخ من بابه الواسع لو لم يرفض تمويل رحلة كريستوف كولومبس ؛كان له نصيب الأسد كما لم يتخلف (ملك الشمسLe Roi du Soleil) ملك فرنسا "لويس 14" عن مسايرة ركب "هنري السابع"، و استحوذ بدوره على معظم الأرض التي أصبحت تسمى بعد ذلك (كندا) إضافة إلى "لويزيانا" التي نسبت إليه(*).
-إن اكتشاف العالم الجديد في 12 أكتوبر 1492 و هو الحدث الذي لا يفوقه أهمية إلا اكتشاف الصفر من طرف محمد بن موسى في القرن الثاني عشر الميلادي، يمثل لسببين متكاملين نقطة تحول مهمة في تاريخ البشرية؛ فأما السبب الأول فيكمن في كون هذا التاريخ قد شهد تغير ميزان القوة بين الحضارة الإسلامية و الحضارة الغربية لصالح هذه الأخيرة، و أما السبب الثاني فيكمن في أن ما فعله كريستوف كولومبس حينما وضع قدمه على أرض العالم الجديد، يمثل تدشينا لنمط من الاستعمار الغربي الذي كان مقدرًا له منذ نشأته أن يقود الغرب نحو الرأسمالية ويشكل تبعا لذلك أبشع صور استغلال الإنسان للإنسان.
-لذلك يجب –ابتداءً- أن نعرف القارئ بماهية الاستعمار الغربي، و لكي ندرك بدقة طبيعة هذا الاستعمار الذي تمارسه دول أوروبا الاستعمارية و بخاصة فرنسا، يجدر بنا أن ننظر إليه على اعتباره نوعا من الاستغلال للبشر ذي وجهين مميزين و متناقضين يعملان بقصد الوصول إلى هدف واحد ؛ أحدهما هو "الاستعمار الصريح أو التقليدي"، و الثاني هو "رسالة التمدين". و نحن نقصد بقولنا إن كلا الوجهين يستهدف غرضا واحداً، أن كلا منهما يسعى من خلال طريقين مختلفين و متعارضين في كثير من الأحيان أن يكفلا لفرنسا و العالم الغربي مكانا أفضل تحت الشمس، و معنى هذا في الواقع أن الاستعمار الفرنسي هو الابن الطبيعي و لعله المفضّل للاستعمار الغربي. و يجب مع ذلك ملاحظة أنه في حين أن لهذا الاستعمار الغربي هذان الوجهان الموصوفان، بغض النظر عن القوة الأوروبية التي تمارسها فإن البلاد البروتستانتية و بالأخص تلك التي تنتمي إلى الكتلة الإنجلوسكسونية تبدو أكثر نزوعا إلى الاستعمار الصريح، في حين أن البلاد الكاثوليكية مثل فرنسا و إسبانيا و البرتغال تبدو أنها على العكس من ذلك تفضل رسالة التمدين.


[1]هـ.ج.ويلز. "H.G.Wells"معالم تاريخ الإنسانية ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد (جزء 3/4) ط31972 ص850.

[2] الذي أصبح يعرف بالبابا غريغوري السابع (Gregory VII)

[3] Brooks Adams “ The Law of Civilaizaition and Decay” P72

* Harold Lamb " The Crusades :Iron Men and the saint".P 256

[4] يعترف "هارولد لامب" أنه يستحيل التحديد بدقة عدد الصليبيين الذين زحفوا على القدس غير أنه يؤكد بأن سجلات الأحداث التاريخية تذكر أن العدد كان حوالي 465 ألفاً.

[5] بروك أدمز المرجع السابق ص:73

[6] بروك أدمز ص:73 Brooks Adams المرجع السابق

([7]):H.Lamb.op.cit- p: 20-21. المرجع السابق

([8]):هارولد لامب المرجع السابق ص:144

([9]):هـ.ج.ويلز –H.G.Wellsالمرجع سابق. ص.882.

([10]):نفس المرجع. ص.885.

([11]):Harold .Lamb.op.cit. p:230-231المرجع السابق.

([12]):المرجع السابقBrooks Adams. P: 74.

([13])H.G.Wells English version. P : 681-682

(*): كتب (H.G.Wells) الذي يعتبر الحملة الصليبية الرابعة مأساة إنسانية، يقول :«..ثم حدث في 1212 حدث رهيب هو "حملة صليبية للأطفال". فإن هياجا لم يعد يستطيع أن يؤثر بعد في البالغين سليمي العقل، انتشر بين الأطفال في جنوب فرنسا و في حوض نهر الرون، فسار جمهور مكوّن من الآلاف كثيرة من الغلمان الفرنسيين إلى مرسيليا، فاستغواهم تجار الرقيق إلى النزول في السفن و باعوهم في مصر عبيدا، و سار أطفال أرض الراين على أقدامهم حتى انحدروا إلى إيطاليا و هناك تشتتوا بعد أن هلك كثيرون في الطريق. واستغل الباب "إنوسنت الثالث هذه الحادثة العجيبة لصالحه إيما استغلال فقال : "حتى الأطفال أنفسهم يلبسوننا ثوب الخزي و العار". ثم حاول أن يستثير الحماسة لحملة صليبية خامسة، و كان هدف هذه الحملة غزو مصر، لأن بيت المقدس كانت عند ذلك في قبضة السلطان المصري». المرجع السابق ص:890-891

([14])):Brooks Adams. P :126. المرجع السابق

([15]):المرجع السابق نفس الصفحة .

(*):لقد سبق هذا السلطان في عرض القدس على الصليبيين مقابل خروجهم من مصر، قبل أن يفعل ذلك الرئيس أنور السادات ولعل هذا يجيز لنا أن نصف هذه الحادثة بأنها "كامب ديفيد" الأول

([16]):.المرجع السابق نفس الصفحة

(**) : جدير بالذكر أن الصليبيين قد نظموا الحملة الصليبية السادسة و استرجعوا القدس سنة 1228.

([17]):..المرجع السابق نفس الصفحة

(*): تعتبر "لويزيانا""Louissiana" اليوم إحدى أغني الولايات المتحدة الأمريكية، وجدير بالذكر أن نابليون بونابرت Napoleon Bonaparteالذي كان في حاجة إلى المال لتمويل مغامرته العسكرية في مصر، قد اضطر إلى بيع هذه الولاية سنة 1803 إلى رئيس الولايات المتحدة (Thomas Jefferson) (1743-1826) بمبلغ زهيد قدره 15 مليون دولار.
يتبع ...busted_redbusted_redbusted_red