لعــــــــــــــــــــبة الدومينو
23-08-2020, 08:29 AM
لعــــــــــــــــــــبة الدومينو
نثر قطع الدومينو فوق طاولة الخشب المهترئة من كثرة اللعب...خلط سي مسعود القطع بعضها ببعض بخفة و رشاقة ثم رتبها صفا طويلا...ترنح للخلف قليلا و هتف للرفاق:
ليأخذ الجميع حصته من القطع . سبعة سبعة.
تلقف الشيوخ قطعهم في كسل واضح كأنهم سئموا هذه اللعبة و سئمتهم اللعبة أيضا...
كان يبدو لرواد هذا المقهى أن هؤلاء الشيوخ كتبت شهادات ميلادهم حول تلك الطاولة العتيقة لطول مكوثهم حولها.
المقهى يقبع في ركن متواري في زقاق طويل من أزقة حي- القصبة- العريق. لا تكاد الشمس تزور المقهى إلا في بدايات الخريف. و رغم ذلك فهو مكتظ بالرواد الأوفياء.
بين جدران القصبة العريقة تتسلل رائحة التاريخ و زخرفة المنازل و أناقة الشبابيك و الشرفات و عبق البخور المنبعث من فساتين النساء وقصص حركات التحرير ضد الاستعمار وكفاح العمال و صمود الفلاحين ...
يحتضن هذا المقهى الصغير وجع و آمال و حكايات طويلة و تجارب رائعة يتبادلها الزبائن فيما بينهم.
في هذا المقهى يلتقي شيوخ جمعهم -الدومينو- و جمعت بينهم هموم الشيخوخة و صداعها... عثمان و سي القاضي و مخلوف و الحلاق أحميدة و طبعا سي مسعود يتحلقون حول طاولتهم المهترئة كل عصر و أنيسهم- الدومينو -و أحاديث متفرقة من تلك الأحاديث التي ينشغل بها الشيوخ إذا تقدمت بهم سنوات العمر.
عثمان تقاعد من الجيش منذ أعوام و سي القاضي أحيل على المعاش قسرا بعد أن أبى أن يقبض رشوة من مقاول مشهور و مخلوف بائع خردة في سوق النحاسين و متكاسل عن العمل و سي مسعود موظف عريق في أملاك الدولة...
عاود الرفاق لعبة الدومينو مرة و مرة. لم يكونوا يكترثون بالربح و الخسارة . بل الأهم بالنسبة لهم هو تلك الأخبار و المناقشات التي كانوا يتداولونها بينهم في هدوء و سكينة و فضول أحيانا..
همس سي القاضي و هو يعد حبات الدومينو في يده:
جارنا عيسى البواب سوف يخضع لعملية نزع كلية الخميس القادم.
ارتسم الامتعاض على وجوه اللاعبين و هم يتلقون هذا الخبر الصادم. ثم خيم صمت رهيب على الشيوخ لولا صدى قطع الدومينو التي كانت تسقط على سطح الطاولة.
و قال مخلوف بصوت جهوري كالعادة :
توفي ابن عمتي بالأمس بعد سقوط قاتل من نخلة و الجنازة غدا صباحا.
أوقد سي مسعود سيجارة و راح يدخن بشراهة . لقد منعه الطبيب من السجائر و القهوة و أخبره أن قلبه المرهق لا يحتمل هذه الأشياء.
لكن الكهل لا يرعوي و لا يأبه لثرثرة الأطباء. و يمعن في تناول السجائر و القهوة هنا مع رفاقه الشيوخ...
و ران صمت طويل على الشيوخ اللاعبين و سرعان ما قطعه احميدة قائلا:
حادث مرور مأساوي حدث اليوم صباحا قرب نفق – الاستقلال – عند مدخل المدينة.
تبرم سي مسعود من سماع هذه الأخبار البغيضة و أوقد سيجارة جديدة و فكر و هو يهرش رأسه الذي غزاه الشيب:
المرء لا يسمع من هؤلاء الشيوخ إلا أخبار الموتى و حوادث المرور و العمليات الجراحية.
أرسل سي مسعود بصره هناك في ركن قريب من المقهى .
مجموعة من الشباب يلعبون الدومينو و يرتشفون كؤوس الشاي في نهم و قد ارتسمت البشاشة و نضارة الشباب على وجوههم...
أرخى سي مسعود سمعه الى أحدهم و هو يقول لرفاقه:
لقد تتبعت أثر تلك الحسناء حتى أدركت الحي الذي تسكن فيه و ظفرت برقم هاتفها المحمول بعد عناء طويل.
و ضج الشباب بضحك هستيري و هم يتغامزون ...و قال آخر بعد برهة :
سوف أطير الى أيطاليا الشهر المقبل للسياحة.
و راح الفتية يهنئون صديقهم و يطالبونه بأن يرسل اليهم الهدايا و العطور و الصور.
و قال آخر و هو يتلفت يمينا و شمالا كمن يحمل سرا خطيرا :
الليلة على العاشرة مباراة مصيرية تجمع أنتر ميلانو و برشلونة. و أنتم مدعوون جميعا عندي لمشاهدة المباراة على التلفاز.
و صفر الشباب جميعا أما هذا الخبر الجميل...
تأمل سي مسعود ذلك المشهد الحيوي و راقه حديث الشباب و اقبالهم على مباهج الحياة.
و فكر و هو ينفث الأدخنة من منخريه :
هؤلاء الشباب أفضل من أولائك الشيوخ التعساء الذين ينتظرون الموت كل لحظة.
حمل سي مسعود كرسيه و اقتحم طاولة الشباب و هو يقول:
تحياتي يا شباب هل تأذنون لشيخ مثلي أن يجالسكم ؟؟
خيم ذهول طويل على الفتية و أمسكوا عن اللعب و هم يحدقون في هذا الشيخ غريب الأطوار.
لكن أحدهم فسح مكانا لسي مسعود و رحب به قائلا في أدب:
تفضل يا عماه على الرحب و السعة.
جلس سي مسعود مغتبطا و قد لمس بعض الحيرة و التردد في وجوه الرفاق الجدد.
و أخذوا يتحدثون في حرج شديد حياء و خجلا من هذا الضيف الثقيل..و سرعان ما تشجع أحدهم و خاطب سي مسعود:
ما الذي حملك يا شيخ أن تلتحق بطاولتنا و تفارق رفاقك الشيوخ؟
أجاب سي مسعود و هو يدس سيجارته في المطفأة :
بصراحة ..رفاقي لا يستهويهم إلا حديث الموت و ارتفاع الضغط و حوادث المرور و قصص كئيبة تدعوا للكسل و الكآبة. و أنا ضجرت منهم حقا.
ثم أردف و هو يتأمل سقف المقهى و المروحة المثبتة فيه:
أما معكم أنتم يا شباب فأجد الحياة و الحب و النشاط و البراءة و الصدق و أتذكر سنوات الشباب التي تصرمت مني دون أن أشعر.
شعر الفتية بصدق الشيخ و صراحته و رحبوا به ضيف شرف على طاولتهم.
و مضت أيام و أسابيع و شهور و سي مسعود ضيف خفيف الظل على طاولة الشباب...لكن سي مسعود يغيب عن المقهى فجأة تاركا وراءه حيرة و ذهولا بين كل رواد مقهى القصبة.
التعديل الأخير تم بواسطة أبو المجد مصطفى ; 28-08-2020 الساعة 11:04 AM