أثر المحيط على الشباب
24-07-2013, 10:20 PM
إطار الخدمة الوطنية نموذجا
بقلم الدكتور : أحمد عظيمي

لا يوجد جيل أفضل من جيل ولا شباب فترة معينة أحسن من شباب فترة أخرى. الظروف والمحيط هما اللذان يجعلان جيلا معينا من الشباب يسمو بشجاعته وأخلاقه وجرأته نحو تحقيق المستحيل، أو ينغمس في اللهو والعبث فينزل إلى أسفل السافلين.
جيل الخمسينيات فرضت عليه ظروف الاستعمار أن يكون ثوريا فقام بثورة أصبحت ملحمة للبشرية جمعاء. جيل الاستقلال، ومهما قيل عنه، فانه بني الجزائر. لم يكن في المراكز القيادية لكنه كان في الميدان، الجزائر كانت تعاني من نقص مهول في الكفاءات فملء شباب ذلك الوقت الفراغ تحذوه الرغبة في بناء جزائر قوية وعصرية.
نتذكر كلنا موقف شباب الستينيات من الاعتداء الإسرائيلي على مصر فيما عرف بنكسة 1967، وكيف توجه المئات من الطلبة، من تلقاء أنفسهم وبإحساس كبير من المسؤولية، نحو الثكنات مطالبين بحقهم في التدريب العسكري للتمكن من التوجه إلى ميدان الحرب.
ومع ذلك، نلاحظ أن أسئلة وآراء كثيرة بدأت تطرح، منذ بداية التسعينيات، يذهب البعض منها إلى حد التشكيك في قدرة ورغبة الجيل الجديد من الجزائريين في بناء الوطن بل ويتجرأ البعض أحيانا فيشكك في وطنية جيل بأكمله، مع أنه من غير الموضوعي ومن غير المنطقي التشكيك في جيل كامل لأن ذلك معناه أيضا التشكيك في مستقبل بلد بأكمله.
ظروف قاسية جدا مر بها شباب التسعينيات. زمن صعب عاشته الجزائر وحرم فيه الشباب حتى من حقه في الخروج إلى الشارع أو الذهاب إلى البحر للتمتع بمائه أو التجول عبر بلاده أو حتى مشاهدة فلم في قاعة سينمائية.
ومع ذلك، فأن شباب هذا الوقت ليس أقل وطنية أو إخلاصا للجزائر من الأجيال التي سبقته. هذه ليست ديماغوجية بل نتيجة ملاحظة ميدانية، فقد عملت لسنوات عديدة مع الشباب وأدرس، منذ عدة سنوات أيضا بالجامعة، وما لاحظته أن القضية كلها مرتبطة بظروف المرحلة وبالإطار الذي يجمع ويوجه الطاقات نحو البناء والابتكار.
الشباب الذين وجدوا الإطار الجيد تمكنوا من تحقيق إنجازات رائعة، ولعل أهم إطار يمكن الشباب من استعمال قدراته في العمل في جزائر اليوم تبقى الخدمة الوطنية.
في مداخلتي هذه لن أتعرض لإنجازات الخدمة الوطنية ولا للأرقام والأعداد فتلك أمور سبق للصحافة الوطنية أن تناولتها أكثر من مرة. ما يهم هنا هو مفهوم وفلسفة الخدمة الوطنية. كيف ظهر وتطور هذا المفهوم وما هي فلسفتها وهل لازالت تشكل البوتقة المثلى التي تنصهر في إطارها كل الاختلافات الاجتماعية والثقافية والفكرية وحتى الجهوية إن وجدت.

1- ظهور وتطور مفهوم الخدمة الوطنية في الجزائر
لم تأت الخدمة الوطنية في الجزائر من العدم، كما أنها ليست مجرد نقل أو تقليد لنموذج موجود في جهات أخرى من العالم، فقد جاءت بعد مخاض دام حوالي ست سنوات، وهي السنوات الأولى للاستقلال.
بن يوسف بن خدة، رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية كان أول من تعرض لمسألة الخدمة الوطنية عندما صرح غداة الاستقلال بأن الجزائر "يجب أن يساهم في تشييدها كل مواطن"، لكن فكرة المساهمة بقت عامة وغير محددة؛ ولما هاجمت القوات الملكية المغربية التراب الجزائري في ما عرف بحرب الرمال (1963) تأكد للقيادة السياسية وقتها أن الاستقلال يحتاج فعلا لمن يحميه ويدافع عنه، وأن وحدات جيش التحرير الوطني التي بدأت تحور إلى جيش وطني شعبي هي في أشد الحاجة إلى عنصر الشباب، وجاء ميثاق الجزائر لسنة 1964، ليؤكد على ضرورة الاهتمام بالشباب "في إطار التشييد الوطني". بعد ذلك بفترة قصيرة، تحدث بيان 19 جوان 1965 عن "ضرورة تعبئة كل الطاقات من أجل البناء الوطني".
ومثلما كانت حرب الرمال درسا للقيادة السياسية وقتها لتدرك بأن أمن الجزائر واستقلالها ليسا في مأمن من الأطماع الأجنبية فقد جاءت حرب 1967، بالمشرق العربي، لتؤكد حقيقة أخرى لا زالت قائمة لحد اليوم، وهي أن الأمن العربي كله ليس مضمونا وأن إسرائيل ما هي سوى رأس الحربة لقوى غربية تتهافت على المنطقة. الخطاب السياسي الجزائري تحدث وقتها عن التعبئة الشاملة واستجاب لطلبات الآلاف من الشباب الذين طالبوا بالسماح لهم بالتدرب على السلاح ففتحت المدارس العسكرية أمامهم، وكانت أول تجربة ناجحة لتكوين الشباب الجزائري المتطوع وكان من بينهم العشرات من الجامعيين الذين اكتشفوا لأول مرة طبيعة الحياة العسكرية والذين فضل البعض منهم البقاء ضمن صفوف الجيش.
تجربة الالتحاق الطوعي بالثكنات العسكرية كانت جد ناجحة مما دفع بالقيادة السياسية وقتها للتفكير في تثمينها وتنظيمها بما يتماشى ومتطلبات الدفاع والتنمية لبلد حديث العهد باستعادة السيادة الوطنية. وبالتالي بدأ التفكير في وضع الإطار القانوني وتهيئة القاعدة المادية لنوع معين من الخدمة التي يؤديها الشباب تجاه الوطن.
في خطابه الموجه للأمة الذي ألقاه في أول نوفمبر 1967 بمناسبة الاحتفال بذكرى ثورة نوفمبر، أكد الرئيس هواري بومدين أنه "زيادة على الجهود التي يبذلها هذا الجيش في إعادة تنظيمه وتكييفه لمهام البناء والتشييد فهو يعد الآن تطبيق التجنيد الإجباري الذي سيتم في مجرى السنة القادمة". نلاحظ هنا أن بومدين يتحدث عن التجنيد الإجباري وليس عن الخدمة الوطنية ولا شك أن مرد ذلك كونه لا زال، في هذه الفترة، واقعا تحت تأثير الهزيمة التي تعرض لها جيش أكبر دولة عربية على يد الجيش الإسرائيلي. بومدين يكون اقتنع في هذا الوقت بضرورة إعداد الشعب للمعركة عندما تفرض عليه، وهو ما عاد إلى تأكيده في 05 جانفي 1968، بمناسبة انعقاد الاجتماع الثاني لإطارات البلاد، مستعملا هذه المرة عبارة الخدمة العسكرية الإجبارية عوض الخدمة الوطنية، حيث قال: "ومن الأهداف المقررة والتي تخص الجيش الوطني الشعبي الخدمة العسكرية الإجبارية. لأن الأزمة الأخيرة التي عاشها الشرق الأوسط، والحالة الصعبة التي عرفتها البلاد، ووضع الشبيبة الجزائرية نفسها التي بلغت أوجها بموقفها الثوري من القضية، وما يفرضه هذا الموقف من التزامات، كل هذا دفعنا إلى اتخاذ هذا القرار الذي يجب أن يدرس في السنة الحالية، ونحاول الشروع في تطبيقه".
أشهر قليلة فيما بعد، وبمناسبة انعقاد الاجتماع الأول للجنة الوطنية للخدمة الوطنية بتاريخ 23 ديسمبر 1968، عمق بومدين مفهوم الخدمة مستعملا، لأول مرة، عبارة "الخدمة الوطنية".
نستنتج مما سبق، أن مفهوم الخدمة الوطنية في الجزائر يختلف عن مفهوم الخدمة العسكرية كما أنه يمزج بين هذه وبين الخدمة المدنية الإجبارية. ولا شك أن ظروف الجزائر في السنوات الأولى للاستقلال، حيث كانت تعاني من قلة الكفاءات وندرة اليد العاملة المؤهلة، كانت وراء هذا الاختيار لإدماج الشباب في دينامكية التنمية التي كانت تخطط لها القيادة السياسية لذلك الوقت.

2- فلسفة الخدمة الوطنية في الجزائر
تعرف الخدمة الوطنية، حسب ميثاقها، بأنها مؤسسة "لتجنيد الطاقات البشرية للبلاد من أجل مشاركة كل المواطنات والمواطنين البالغين من العمر 19 سنة مشاركة فعالة وكاملة وذلك خلال سنتين في تشييد البلاد ومهام التنمية الضخمة بقصد تحقيق وتوطيد الأهداف العليا للثورة". كما عرفها الميثاق الوطني بكونها "مؤسسة رئيسية في المسيرة الثورية ومقوم أساسي للتضامن والوحدة الوطنية حول أهداف مشتركة ترمي إلى بناء مجتمع أكثر عدالة وازدهار."
الانتقال من الخدمة العسكرية إلى الخدمة الوطنية لم يكن اعتباطيا ولا بدون خلفيات حاملة لمعان عديدة، فالتسمية هي دالة على الخلفية الفلسفية لهذه المؤسسة.
الاختلاف بين التسميتين هو اختلاف في المفهوم وفي الأهداف . الخدمة العسكرية تتم داخل المؤسسة العسكرية وتكون ذات طابع عسكري بحت، أما الخدمة الوطنية وإن كانت تتم تحت إشراف المؤسسة العسكرية فأنها تشمل مختلف مجالات الحياة (الصحة، التعليم، الاقتصاد، ..) وبالتالي فان الخدمة الوطنية، كما طبقت في الجزائر، ليست خدمة عسكرية بالمفهوم التقليدي لأن "الجانب العسكري ليس إلا جزءا من الخطة التي تشمل ميادين عديدة اقتصادية واجتماعية وإدارية".
بالفعل، منذ 1969، سنة البدء في تطبيق قانون الخدمة الوطنية مر بهذه المؤسسة مئات الآلاف من الشباب الذين وجدوا فيها، إلى جانب التكوين العسكري والتأهيل البدني لتحمل مشاق الدفاع:
أ‌- التأطير والتوجيه، بحيث يحضر الشاب في فترة التدريب لتحمل المسؤوليات على مستوى الوحدات العسكرية بما يتماشى والرتبة التي يتحصل عليها في نهاية التدريب، فمهما كانت الرتبة التي تمنح للشاب الملتحق بصفوف الخدمة الوطنية فأنها تؤهله لتحمل مسؤوليات معينة، مما يجعل شباب في سن العشرين يتولون قيادة الرجال الذين يوضعون تحت سلطتهم ويقودونهم لإنجاز المهام العسكرية التي تكلف بها وحداتهم ويحافظون على العتاد .. كل ذلك في إطار ما تنص عليه اللوائح والأنظمة المعمول بها في كل جيوش العالم. نسجل هنا أن الكثير من الشباب لم يسبق أن تحملوا أية مسؤولية قبل التحاقهم بالخدمة الوطنية.
ب‌- التكوين المعنوي، من خلال الدروس والمحاضرات حول القضايا السياسية والاقتصادية الوطنية والدولية الراهنة إضافة إلى دروس في تاريخ الحركة الوطنية والثورة التحريرية.
ج- تهيئة الشعب للدفاع عن الوطن بتكوين الشباب وتعويده على العمل وفهم معنى الانضباط مع ضمان تكوين مهني للذين لا تكوين لهم مما يكنهم من القيام بأعمال كبرى لصالح البلد ككل (شق طريق الوحدة الإفريقية، إنجاز السد الأخضر، بناء المطارات والقرى الفلاحية) والمساهمة في الدفاع عن أمنه وسلامته ، وجعله واعيا بأوضاع البلد واحتياجاته.
د- تجميع الطاقات الوطنية خاصة المؤهلة منها واستعمالها فيما يفيد الوطن والمجتمع في إطار شامل ومنسجم، وكذلك توطيد العلاقات بين مختلف فئات الشباب الجزائري حيث توضع كل الاختلافات الاجتماعية والثقافية والفكرية جانبا وذلك طوال فترة الخدمة الوطنية.
النقطة الأخيرة هي من أهم ما تحققه هذه المؤسسة، فهي عبارة عن بوتقة تنصهر فيها كل الاختلافات الاجتماعية والجهوية، ولعل ذلك ما يجعل بعض البلدان الغربية تحافظ على بقائها رغم الاحترافية التي بلغتها جيوشها؛ ففي أوروبا فقط لازالت دولا كالسويد وسويسرا وفنلندا والنمسا وألمانيا تحافظ عليها.

3- مجالات تدخل الخدمة الوطنية
يلخص قانون الخدمة الوطنية مجالات تدخل هذه المؤسسة في الميادين التالية:
- إنجاز الأهداف العليا للثورة، ويقصد بها أهداف الثورة التحريرية؛
- الأهداف ذات الفائدة الوطنية والمتعلقة بسير مختلف القطاعات الاقتصادية والإدارية؛
- احتياجات الدفاع الوطني
كما هو واضح إذن، فأن مجالات التدخل متعلقة أساسا بالاستجابة لاحتياجات الدفاع الوطني وبالمساهمة في التنمية الوطنية. في مجال الدفاع الوطني شارك شباب الخدمة الوطنية، ضمن وحدات الجيش الوطني الشعبي في الدفاع عن جمهورية مصر العربية إثر الهزيمة التي لحقت بجيشها في حرب 1967 مع إسرائيل، . بالنسبة للمشاريع ذات الفائدة الوطنية فأنها عديدة لكن أهمها والتي يمكن وصفها بالمشاريع ذات البعد الاستراتيجي، مشروعان رئيسيان هما:
أ‌- الطريق الصحراوي، الذي يعتبر مشروعا إفريقيا لأنه يربط شمال الجزائر بالقارة الإفريقية، انطلقت الأشغال به في 16 سبتمبر 1971 من المنيعة بإشراف الرئيس الراحل هواري بومدين، وقسم المشروع إلى ثلاث مراحل:
-المنيعة – عين صالح، بطول 420 كلم، أنجزت في مدة سنتين ونصف رغم صعوبة التضاريس وقساوة الطبيعة.
- عين صالح – تمنراست، بطول 700 كلم، أنجزت في مدة خمس سنوات (أفريل 1973- جوان 1978)
- تمنراست – الحدود الجزائرية –المالية (357 كلم) والجزائرية – النيجرية (469 كلم)، وهي المرحلة التي انطلقت في 1978.

ب‌- محاربة التصحر، من خلال إنجاز سد أخضر يمتد على طول 1500 كلم من الحدود التونسية شرقا إلى الحدود المغربية غربا، بمتوسط عرض 20 كلم و بمساحة 3 ملايين هكتار، تغرس بها حوالي سبعة ملايين شجيرة. هدف السد الأخضر لم يكن فقط وقف زحف رمال الصحراء، بل أيضا خلق الظروف الجوية والمناخية التي تعيد للأرض خصوبتها وعطاءها. هذا المشروع العملاق أصبح تجربة رائدة في مجال محاربة التصحر وقد أنجزت العديد من الأفلام الوثائقية حوله والتي تم عرضها في الملتقيات الدولية المخصصة لمحاربة التصحر، كما زارت الجزائر عشرات الوفود الأجنبية للاطلاع على التجربة وكيفية تحقيقها على الأٍرض.

الخاتمة
نقطة الانطلاق في هذه المداخلة كانت متعلقة بالإطار، حيث قلنا بأن الشباب عندما يجد الظروف المواتية والإطار المناسب فأنه يسمو إلى أعلى المراتب، وقد أخذنا الخدمة الوطنية كنموذج للإطار الإيجابي لأنها المؤسسة التي تتلقى الشاب وهو في بداية عهده بالعمل، أي بدون تجربة أو تكوين ميداني، فتكونه وتحمله مسؤوليات تسيير الأفراد التابعين لوحدته الفرعية والسهر على العتاد الذي يقدر ثمنه أحيانا بالملايين من الدينارات، ومع ذلك يقوم بالمهمة على أحسن وجه، بل هناك من يرى بأن الجيش الجزائري يملك، من خلال الخدمة الوطنية، الأفراد الأكثر انضباطا في العالم.
أخيرا، الخدمة الوطنية هي مدرسة لتعلم الحياة، فهي تمنح الشباب فرصة تجريب إمكانيتهم وقدراتهم في الميدان وتكتسبهم التجربة والخبرة، كما تغرس في نفوسهم الروح الوطنية، وهو ما يجعل البلدان الغربية التي تخلت عنها تفكر بجدية في إحيائها.
التعديل الأخير تم بواسطة محمد 14104359 ; 27-07-2013 الساعة 01:46 AM