ابتسامةٌ في زمانٍ غريبٍ ~ قصة قصيرة
08-02-2016, 12:05 PM
يُحكى أن مسافرًا جاب العالم كلّه بحثًا عن سعادته

حتى قابل طفلًا مبتسمًا لا يملك نصف ما يمتلكه هذا المسافر ..



ظنّ ذلك الرجل أنه أكثرُ شخصٍ أصابته المصائب ..

لم يكن هناك فارقٌ زمنيٌّ بين كلّ مصيبةٍ لذا اتخذ العبوس صديقًا له

لا يفارقه لحظةً واحدةً .. لم يعد هناك شيء يضحك حتى أنه فكّر بالانتحار ذات مرةٍ

لكنَّ غريزة البقاء منعته ..

إنّ لذلك الرجل صديقٌ .. صديق وحيد نجى من كلّ تلك المصائب ..

بعد كلّ ما حدث لم يترك ذلك الصديق الرجل بل جعل زيارة منزله روتينًا مهمًا

في حياته .. على أملِ أن تعود الابتسامة إلى وجهه و لا بأس إن كانت خفيفة ..

المهم أن يبتسم ..

كالعادة كما في الأيام السابقة جاء الصديق إلى منزله الكبير يتأمل وجه الرجل

الذي لم يبدأ حوارًا منذ زمن .. نظر الصديق لما حوله .. أثاثٌ باهظٌ .. تصميمٌ جذاب ..

كل شيء يريح المرء هنا ..

- ما الذي يحزننك ؟

لقد قالها دون استهزاء .. إنه حقًا يمتلك رغبة ملحة بمعرفة ذلك ..

فعندما رأى كل متطلبات السعادة تحيط به لم يعد يعلم ما سبب حزنه ..

نظر إليه الرجل بأعينٍ حادة و بتعابير انخلط فيها الانزعاج ..

- أأنتَ جاد ؟ .. بعد كلّ ما حدث تسألني عن الذي يحزنني ..

- أنتَ تملك كلّ ما يتمناه المرء و لا تزال حزينًا .. ألن تنسى ؟

- أنسى ؟ .. و كيف لي أن أنسى ؟ .. لقد جُرح قلبي جرحًا أبديًا .... أخذ يشير بإصبعه

على قلبه ..

تنهد الصديق تنهيدة طويلة ثم قال له

- اخرج قليلًا

- اخرج ؟

- أجل .. سافر إلى بلدان مختلفة .. قد ترى الموضوع سخيفًا بعد ذلك ..

- أنتَ عنيد ..

- صدقني ستراه سخيفًا .. أتريد رهاناً ؟

- رهان ؟

- لن يكون مالًا .. إنها ابتسامةٌ فحسب

- رهانكَ عديم الفائدة .. لن أخسر أبدًا

صمت الصديق واضعًا يده تحت ذقنه و ابتسم ابتسامة نصرٍ ..

إنه متأكد من كلّ كلمةٍ يقولها ..

لم تعجب ذلك الرجل تلك الابتسامة .. فانصرف إلى غرفته يجهز حقيبته لرحلته ..

..

جاء صباح الرحلة بسرعةٍ .. كان يومًا هادئًا كالعادةِ .. سماءٌ زرقاء صافية ..

سحب الرجل حقيبته الصغيرة و أغلق بابَ منزله دون التفكير بأيّ شيء ..

استدار و صنع خطوته الأولى في رحلته ..

من طائرة إلى طائرة مسافرًا إلى دولٍ مختلفةٍ

- إنّ هذا العالمُ كبيرٌ

قالها متنهدًا دون تغيير يُذكر في معالمِ وجهه ..

وضعه الماليُّ الممتاز سمح له بزيارةِ دولٍ كثيرةٍ .. حتى أنه نسيَ أسماء بعضها ..

ففي أعماقه يقطن شخصٌ معقدٌ لم يعد يعلم ما الذي يذهله و يسعده

أو حتى يغير معالمَ وجهه ..

لقد شعر أنه يعوم بنفسِ المكان .. مشهد مشيه في شارع مستقيم

مع صورٍ متغيرة للمدن التي زارها .. أناسٌ شتّى يسيرون في طرقٍ مختلفةٍ ..

ضحكٌ و ابتساماتٌ لا يدري ما سببها .. بل كان ينزعج عند رؤيتها و يظن أن لا مكانَ

للفرحِ بعد اليومِ ..

في الحقيقةِ لم ينتبه أنّ كلّ ما رآه من ابتسامات كانت لأناسٍ أغنياء

أو طبقةٍ متوسطةٍ .. فملابسهم و تصرفاتهم كانت دليلًا قويًا على ذلك ..

تجول طويلًا بين الأحياء .. و لم يجد شيئًا واحدًا يزيل تعاسته حتى اعتلاه شعور بالنصرِ


في ذلك الرهان .. لكنه استعجل في الحكمِ ..

سار دون انتباه إلى حيٍّ قديمٍ ملامحُ الفقر تبدو أنها قد عششت فيه طويلًا ..


إنها أول مرة يدخل إلى حيٍّ كهذا ..

على ما يبدو أن جسده قد شده إلى هذا الحيِّ ليجد جوابًا ما ..

أتاه فضولٌ طفيفٌ باستكشافه .. بيوتٌ متهالكة .. ثياب بالية ..


عيون تحدق به من نوافذ صغيرة ، لا عجب في ذلك فهو شخصٌ غير مألوف ..


ثيابه جديدة مرتبة ليست بممزقة .. لم يعر لذلك اهتمامًا و تابع سيره حتى وجد أمامه


لونًا جميلًا .. أحمرٌ لامعٌ .. لحظةٌ واحدة حتى علم

- إنها فراولة

يا للغرابة في وسط هذا المكان المتهالك توجد فاكهة نظيفة بل لم يرى مثلها قط ..


ما السر ؟

أخذ ينظر حوله .. لم يجد البائع .. لحظات حتى سمع صوتًا عاليًا بعض الشيء يصدر من


وراءه ..

- أيها العم .. أتريد شراء القليل ؟

استدار إلى الخلف .. فوجد طفلًا يرتدي ملابس عاديةٍ لكنها خفيفة بعض الشيء ..


كان شعر الطفل أسودًا أطرافه طويلة قليلًا .. و ذو بشرةٍ بيضاء صافيةٍ ..

أصيب الرجل بالارتباك قليلًا و قال بسرعة

- أجل

لربما حدث ذلك بسبب تلك الأعين البنية الواسعة التي نظرت مباشرة إليه ..

- شكرًا لك

صوت ذلك الطفل نشيط .. لسببٍ ما شعر أنه مختلف .. لذا قرر أن يعود في اليوم


التالي ليراقب الطفل عن كثب ..

...

أشرقت شمس اليوم التالي و عاد الرجل إلى المكان ذاته حيث اشترى الفراولة ..


لم يكن الطفل موجودًا .. " ربما لأنّ الوقت باكرٌ " ... هذا ما ظنّه

صوتٌ نشيطٌ لم يمر عليه وقتٌ لينساه

- أيّها العم لقد أتيتَ مرةً أخرى

نظر إلى جانبه الأيمن فوجد الطفل ذاته يحمل صناديقًا من الفراولة

- طعمها لذيذ لذا أريد شراء المزيد

تأمله الطفل قليلًا ثم ابتسم ابتسامةً واسعةً ظهرت منها أسنانه

- الحمد لله

ذُهل الرجل من تلك الابتسامة التي لم يرى مثلها في هذا الزمان ..

أخذ الطفل يملئ كيسًا ورقيًا بالفراولة و هو سعيد ..

- أهذا عملك ؟

- أجل .. لدي مزرعةٌ صغيرةٌ في نهاية هذا الشارع

- و ماذا عن والديك ؟

- أنا يتيم

تلك الجمل الصغيرة لم تغير ابتسامة الطفل مما حيّر الرجل أكثر .. أعطى الطفل


الرجل الكيس .. أخذه دون أن يقول شيئًا و سار في أزقةٍ أخرى ..

تلك الكلماتُ ليست بكثيرة .. لديه رغبةٌ بمعرفةِ المزيد عن هذا الطفل الغريب .. لذا قرر


سؤاله شيئًا خطر على باله ..

بدأت الشمس تختفي خلف الجبال ببطئٍ .. عاد الرجل إلى المكان ذاته ..


كان الطفل يضع الصناديق الفارغة فوق بعضها .. لمحه من بعيد فاستدار له

- آسف يمكنك العودةُ غدًا ..

- كلا أتيتُ لسؤالكَ شيئًا ما

- ما هو ؟

- لو عُرض عليكَ الذهاب إلى بيتٍ فيه كلّ سبل الراحةِ .. ستقبل ؟

- كلا

إجابةٌ مباشرةٌ من الطفلِ دون ترددٍ جعلت الرجلَ في حيرةٍ أكبر

- لمَ ؟

- أيمكنكَ السير معي قليلًا ؟

سار الرجلُ مع الطفلِ لمعرفةِ الإجابةِ .. و ما هي دقائق حتى وصل إلى مزرعةِ الطفلِ


.. بالفعل كانت صغيرة لكنها محيطة بأشجار تصفق أوراقها معًا منتجةَ لحنًا لم يسمعه


من قبل ..

و لضوء الغروب المنتشر في هذه المساحة الصغيرة رونقٌ مميزٌ ..

- قال لي والديّ قبل وفاتهما بقليل أنّ الدموع التي تُذرف لا تسقي الشجر ..


و لكن لا بأس إن ذرفتها الآن .. فالفجر القادم سيمسحها و قد تمر عليّ أوقات أتمنى


فيها البكاء فلا أجده .. بالطبع عدم وجودهما بعد الآن مؤلم لكن هناك رائحةٌ لهما تفوح


من هذه المزرعة .. لذا إنني أعد هذه المزرعة حياتي .. كما أنّ الأصيل هنا لا مثيل له


.. حينما أبيع الفراولة كل يومٍ لأناس ساعدوني عند ضعفي أشعر بشيءٍ مميز .. قد


تراه شيئًا روتينيًا لكنه مختلف تمامًا .. رؤية أهل الحيّ سعداء بتناول هذه الفراولة لها


لذةٌ لن أرى مثلها إن تركتُ هذا المكان .. أحلم بشيءٍ أكبر و هو إدخال السعادة لقلب


من يعيش هنا .. هذا المكان مختلف .. إن رأيته حزينًا فهذا نتيجة لأشياء ناقصة لا


نمتلكها .. يومًا ما سأوفر لهم تلك الأشياء و أعيد لهم أموالهم التي أنفقوها في


الشراء من هذه المزرعة ..

- كم عمرك ؟

- عشرُ سنوات

لسانٌ فصيح و قلب كبير و عقل مفكر .. لقد اجتمعت أمور من النادر أن تجتمع معًا ..


و لقد اختارت طفلًا صغيرًا

- لمَ أنتَ سعيد ؟

نظر الطفل إلى الرجل و في تلك اللحظة هبت رياح خفيفة جعلت لمشهد ابتسامة


الطفلِ لوحةً فنية ..

- لقد رزقني الله مزرعةً تنتج أطيب الثمار .. ألن يستطيع رزقي السعادة ؟

رفع الرجل رأسه إلى السماء و قد علم وقتها أن حزنه كان أمرًا سخيفًا نتج عن ضعفٍ


في قلبه .. لقد رأى ابتسامةً في زمانٍ غريب

- لقد خسرت

قالها مبتسمًا
لا تأسفن على غدر الزمان لطالما رقصت على جثث الأسود كلاب لاتحسبن برقصها تعلو على أسيادها تبقى الأسود أسودا والكلاب كلاب تموت الأسود في الغابات جوعا ولحم الضأن تأكله الكلاب وذو جهل قد ينام على حرير وذو علم مفارشه التراب
التعديل الأخير تم بواسطة الهولندي الطائر ; 08-02-2016 الساعة 12:08 PM