أهمية التأديب ونظرة المربين إليه
06-03-2016, 01:28 PM
أهمية التأديب ونظرة المربين إليه
د. إبراهيم بن صالح التنم





الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:



الفرع الأول:
أهمية التأديب:
يعتبر التأديب من الوسائل الهامة في إنجاح عملية التربية، لما له من دور فاعل في تعديل السلوك والتوجيه، على أن يستخدم عند الحاجة مع مراعاة نوع العقوبة ومقدارها.
إذ أن المتأمل في حقيقة هذا الأمر: يجد أن هناك حاجة ملحة إلى ممارسة هذا النوع من أساليب التربية، وذلك لعدة أسباب؛ منها:

1- إصلاح الفرد وتهذيبه:
إن ممعن النظر في تشريع التأديب يجد - في أول وهلة - أنه مشروع للتوجيه والتهذيب والإصلاح.
ألا ترى أن الولد يحتاج إلى توجيه وإرشاد ولي أمره إلى الطريق السوي، إلا أنه قد يجانب هذا الطريق، فعندها يضطر والده إلى تهذيبه وإصلاحه، ليرده إلى صوابه بشبه القهر، فيدفعه إلى الطريق السوي عن طريق تأديبه مع أنه كان يود أنه لا يجبره إلى اتخاذ هذا التأديب.
ومن أجل هذا شرع التأديب، وأن الذي شرعه هو: العالم بخفايا النفوس، وما يصلحها، فهو: الذي علم الداء، ووضع له الدواء النافع، والكفيل بالشفاء.
يقول شيخ الإسلام:" ابن تيمية" رحمه الله:«... إن العقوبات الشرعية كلها أدوية نافعة يصلح الله بها مرض القلوب، وهي من رحمة الله بعباده، ورأفته بهم الداخلة في قوله تعالى:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾[1] ، فمن ترك هذه الرحمة النافعة لرأفة يجدها بالمريض، فهو الذي أعان على عذابه وهلاكه، وإن كان لا يريد إلا الخير، إذ هو في ذلك جاهل أحمق، كما يفعله بعض النساء والرجال الجهال بمرضاهم، وبمن يربونهم من أولادهم وغلمانهم وغيرهم في ترك تأديبهم، وعقوبتهم على ما يأتون من الشر، ويتركونه من الخير: رأفة بهم!!؟، فيكون ذلك: سبب فسادهم وعدوانهم، وهلاكهم»[2].ا.هـ.

2- الردع والزجر:
إن من أهم ما يهدف إليه التأديب:" تحقيق الردع والزجر".
ردع المؤدب حتى لا يعاود الوقوع في الخطأ مرة أخرى، وزجر غيره عن مقارفة هذا الخطأ، وهذا غرض، وخاصية بارزة في تشريع التأديب خاصة، والعقوبات عامة، حيث ذكر أهل العلم: أن من أهم غايات العقوبات جميعها، أنها تحقق الردع والزجر، إذ أن حصول ذلك: يؤدي إلى عيش المجتمع في ظل الأمن والأمان والطمأنينة والسعادة والرخاء: سليماً من إشاعة الفواحش، أو كثرة الجرائم[3].

3-المنفعة العامة وحفظ المصالح:
إن من أهم ما يهدف إليه التأديب هو:" منفعة الناس جميعاً بحفظ حقوقهم ومصالحهم"، وأن من تتبع أوامر الشارع الحكيم ونواهيه: يجد أنها شرعت للمصلحة العامة، وقد أثبت الاستقراء أن هذه المصلحة تكمن في الحفاظ على الضروريات الخمس، وهي:(حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال)، وذلك لأنه لا يمكن العيش في ظل حياة كريمة إلا إذا توافرت هذه الضروريات، ومن أهم سبل الحفاظ عليها وحمايتها هو: تشريع العقوبات والإجراءات التأديبية، فـ:«هذه الأصول الخمسة، والزجر عنها، يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل، وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق، ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر، والقتل، والزنا، والسرقة، وشرب المسكر...».[4].
ولا شك أن التأديب - بمعنييه[5] - يدخل في هذه الغاية النبيلة التي تؤدي في النهاية إلى الحفاظ على هذه الكليات الخمس، فتأديب الزوجة والولد والعبد على تركه لحق الله تعالى - كالصلاة مثلاً - فيه المحافظة على كلية الدين من الشرور الكثيرة، والمفاسد الكبيرة، سواء أكان ذلك عن طريق الوعظ والتوبيخ، أم بالضرب والحبس أم بغيره.

4- الرحمة بالمجتمع:
إن الناظر في حقيقة التأديب: يجد أن من أهم أهدافه العامة:" الرحمة بالمجتمع"، حتى لا تتقوض دعائمه، فتشيع فيه الرذائل، ويكثر الفساد، ويفقد الأمن والأمان والطمأنينة، إذ أنه لو ترك الناس بدون تأديب وإصلاح وتهذيب: لعمت الفوضى أرجاء المجتمع، وشاع السلب والنهب، وانتهكت الأعراض، وقتل الناس بعضهم بعضاً، وفسد النظام، وصارت حياة الناس أسوأ من حياة الوحوش في الغاب، ولأصبحوا في حالة نفسية مضطربة، وقلق دائم، مما يترتب عليه تركهم لعمارة الأرض، والسعي وراء مصالحهم.
فجاء تشريع (المعاقبة والتأديب): رحمة بالعباد جميعاً، الجناة منهم، والمجني عليهم، وسائر المجتمع.
أما:(رحمة الجناة)، فإن ذلك يكون في كفهم عن جنايتهم ابتداء، فإذا أرادوا الإقدام عليها، وتذكروا ذلك العقاب انكفوا عنها، فهذه رحمة بهم من الوقوع في أسباب العقاب، وكذلك هي: رحمة لهم إذا ما وقعوا فيها، ففي العقوبة: تقويم وإصلاح لهم، ولا شك أن هذه رحمة.
وأما كونها:(رحمة للمجني عليهم)، فذلك بدفع الظلم عنهم، وبأخذ حقوقهم من الجاني، وشفاء صدورهم من الغيظ.
وأما كونها:(رحمة لسائر المجتمع)، فذلك بإقرار الأمن والأمان، وانتشار الطمأنينة بين ربوعهم، مما يجعل الكل يسعى لأداء الواجبات، وتحقيق المطلوبات.
يقول شيخ الإسلام:" ابن تيمية" رحمه الله:
" ينبغي أن يعرف أن إقامة الحدود: رحمة من الله بعباده، فيكون الوالي شديداً في إقامة الحد، لا تأخذه رأفة في دين الله، فيعطله، ويكون قصده رحمة الخلق، بكف الناس عن المنكرات لا شفاء غيظه، وإرادة العلو على الخلق به، بمنـزلة الوالد إذا أدب ولده، فإنه لو كف عن تأديب ولده كما تشير به الأم رقة ورأفة: لفسد الولد، وإنما يؤدبه رحمة به، وإصلاحاً لحاله، مع أنه يود ويؤثر أن لا يحوجه إلى تأديب، وبمنـزلة الطبيب الذي يسقي المريض الدواء الكريه، وبمنـزلة قطع العضو المتآكل...»[6]. ا.هـ.
فهذه بعض الأسباب والأهداف، التي شرع من أجلها (التأديب)، والتي يظهر فيها بوضوح تام أهمية التأديب، وعلو شأنه، وعظم مكانته، وشدة الحاجة إلى تنفيذه، والعمل على تطبيقه، كما أنه يعتبر أيضاً من أهم الوسائل التوجيهية والوقائية والعقابية في حفظ المجتمع وإرساء دعائمه.

الفرع الثاني:
نظرة المربين إلى التأديب:
تعتبر نظرة المربين إلى التأديب نظرة إيجابية حيث يعترف المربون المسلمون بأهمية العقاب ويقرونه[7]، وذلك لما له من إعداد فاعل للإنسان للقيام بواجباته المختلفة في الحياة، إذ ينمي التأديب فيه مواهبه وقدراته، ويوجهها وجهة الخير والكمال والصلاح.
يقول:" الغزالي"[8] رحمه الله في معرض كلامه عن أهمية تأديب الصبيان، وتنشئتهم تنشئة حسنة:
«اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها، والصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة[9] خالية عن كل نقش وصورة، وهو: قابل لكل ما نُقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عُوِّد الخير وعلمه: نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكل معلم له ومؤدب، وإن عُوِّد الشر، وأهمل إهمال البهائم: شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه، والوالي له، وقد قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا ﴾.
ومهما كان الأب يصونه عن نار الدنيا، فبأن يصونه عن نار الآخرة أولى. وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه، ويعلمه محاسن الأخلاق، ويحفظه من القرناء السوء، ولا يعوده التنعم، ولا يحبب إليه الزينة، وأسباب الرفاهية، فيضيع عمره في طلبها إذا كبر، فيهلك هلاك الأبد، بل ينبغي أن يراقبه من أول أمره...»[11].ا.هـ.
ويقول:" ابن القيم"[12] رحمه الله في معرض كلامه أيضاً عن أهمية تأديب الطفل:
«ومما يحتاج إليه الطفل غاية الاحتياج: الاعتناء بأمر خُلُقِهِ، فإنه ينشأ على ما عَوَّده المربي في صغره، ولهذا تجد أكثر الناس منحرفة أخلاقهم، وذلك من قِبَل التربية التي نشأ عليها، وكم ممن أشقى ولده، وفلذة كبده في الدنيا والآخرة بإهماله، وترك تأديبه، وإعانته له على شهواته، ويزعم أنه يكرمه وقد أهانه، وأنه يرحمه، وقد ظلمه وحرمه، ففاته انتفاعه بولده، وفوَّت عليه حظه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفساد في الأولاد: رأيت عامته من قبل الآباء»[13] ا.هـ.
[1] الآية (107)، من سورة الأنبياء.
[2] مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (15/290).
[3] انظر: العقوبات التفويضية د/ اللهيبي ص(178).
[4] المستصفى لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي (1/288)، (بيروت: دار الفكر = ط بدون).
[5] أعني معنى (رياضة النفس، وإكسابها الأخلاق الحميدة) ومعنى (العقوبة).
[6] السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية لابن تيمية ص(125).
[7] انظر: شرح فتح القدير لابن الهمام (5/345)، وحاشية قليوبي وعميرة (3/306)، وتربية الطفل في الإسلام لعزت جرادات، مجلة التربية، العدد(74)، ص(124)، (قطر: ربيع الأول، 1406هـ).
[8] هو: محمد بن محمد بن محمد الغزالي، أبو حامد،الإمام، ولد سنة (450هـ)، تفقه على إمام الحرمين، ويعتبر من كبار فقهاء الشافعية وأجلائهم، برع في علوم كثيرة، له مصنفات كثيرة منها: المستصفى، والوسيط، وإحياء علوم الدين وغيرها، توفي بطوس سنة (505هـ). انظر: كتاب سير أعلام النبلاء (19/322)، وطبقات الشافعية الكبرى (6/191)، وشذرات الذهب (6/18).
[9] الساذج: بفتح الذال وكسرها، الخالص غير المشوب وغير المنقوش، وهي ساذجة، (معرب، فارسيَّتُه: سادَه). انظر: المعجم الوسيط، مادة:«الساذج» (1/424).
[10] من الآية (6)، من سورة التحريم.
[11] إحياء علوم الدين لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي (3/78)، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1406هـ = 1986م)، وانظر: إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين لمحمد بن محمد الزبيدي (8/679 - 681)، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1409هـ = 1989م).
[12] هو: محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، أبو عبدالله، شمس الدين المعروف بـ(ابن قيم الجوزية)، ولد في دمشق سنة(691هـ)، تصدَّر للتصنيف، ونشر العلم، وكان ذا عبادة، وتهجد، وطول صلاة، وقد امتحن وأوذي مرات، له مصنفات كثيرة ماتعة، منها: إعلام الموقعين، وزاد المعاد، وتهذيب السنن، والصواعق المرسلة، توفي سنة (751هـ).
انظر: كتاب ذيل طبقات الحنابلة (2/447)، والدرر الكامنة (3/400)، وشذرات الذهب (8/287).
[13] تحفة المودود بأحكام المولود ص(146 - 147) ت: محمد بشير عيون، (بيروت: مكتبة دار البيانو ط2، 1407هـ).