نشأة عماد الدين زنكي
04-04-2016, 08:32 PM




مات آق سنقر(والد عماد الدين زنكى) وترك عماد الدين زنكي محمَّلاً بحبِّ الشريعة والجهاد، وراغبًا في نصرة الدين والمسلمين، وشاعرًا تمامًا بهموم أُمَّته ومشاكلها؛ لذلك اختار عماد الدين زنكي في هذه السنِّ الصغيرة أن يحيا حياة الجهاد والجدِّيَّة.

ترك عماد الدين زنكي حلب بعد مقتل أبيه، فلم يكن يستطيع -على الرغم من حبِّ كل الناس له- أن يعيش في بلدٍ يحكمه تتش قاتل أبيه، خاصَّة أن تتش كان ظالمًا فاسدًا لا ينظر مطلقًا إلى مصالح أُمَّته، بل لا يصرف وقته ولا جهده إلاَّ لمصالحه الخاصَّة فقط.
فإلى أين انتقل عماد الدين زنكي؟!
لقد انتقل إلى الموصل!

أين تربي عماد الدين زنكى ؟
ولعلَّ هذا الانتقال في الأساس كان لولاية كربوغا على الموصل، وكربوغا هو أمير تركماني وكان صديقًا شخصيًّا لآق سنقر؛ فلمَّا مات استقدم ابنه عماد الدين زنكي، وضمَّه إلى جيشه، وكان هذا في سنة (489هـ)، وعماد الدين زنكي في الثانيةَ عشْرَةَ من عمره.[1]
وأخذ يُوالي تدريبه على الفروسيَّة والقتال وإدارة الجيوش، وهكذا قَيَّض الله عز وجل لعماد الدين زنكي مَنْ يُصقل شخصيته، ويُنَمِّي مواهبه.
واشترك عماد الدين زنكي في القتال مع كربوغا لأوَّل مرَّة حينما كان يُخضِع بعض الولايات لحكم السلطان بَرْكيَارُوق، وكان عماد الدين زنكي لا يتجاوز في هذه المعركة الرابعةَ عَشْرَةَ من عمره.[2]
وفي حياة كربوغا -وتحديدًا في سنة (491هـ= 1097م)- احتلَّ الصليبيون مدينة أنطاكية، وأرسل السلطان بَرْكيَارُوق جيشًا بقيادة كربوغا لحرب الصليبيين، ولكن الجيش مُنِيَ بالهزيمة كما مرَّ بنا[3]، ولا ندري إن كان الطفل عماد الدين زنكي كان مشاركًا في هذا القتال أم لا، ولكن المؤكَّد أنه عاش قضية الصليبيين من أوَّلها؛ فلا شكَّ أن كل الأحاديث التي كان يسمعها في بلاط كربوغا كانت تدور حول الصليبيين.
لقد عاش عماد الدين زنكي القصة من أوَّلها!

وفاة كربوغا(أمير الموصل)وتولى جكرمش تربية عماد الدين زنكى :
ومات كربوغا سنة (495هـ= 1102م)[4]، وكان عماد الدين زنكي في الثامنةَ عَشْرَةَ من عمره، وكان من توفيق الله أنَّ الذي تولَّى الإمارة في الموصل بعد ذلك كان جكرمش [5] وكان -أيضًا- من أخلص أصدقاء الأب قسيم الدولة آق سنقر؛ ومن ثَمَّ استكمل مسيرة كربوغا في تربية عماد الدين زنكي، وفي تقديمه على غيره، وتعليمه كل فنون القيادة والإدارة.
إننا نرى بوضوح أن الله عز وجل يُسَخِّر لعماد الدين زنكي مَن يضع قدمه على الطريق، ويُوَجِّه خطواته التوجيه الأصوب.

وفاء عماد الدين زنكى للسلاجقة:
وعند عزل جكرمش سنة (500هـ= 1106م)، حكم الموصل جاولي سقاوو، لكن جاولي كان على خلاف الأمراء السابقين، لقد كان ظالمًا فاسدًا لا يُفَكِّر إلاَّ في مصالحه بل وصل الأمر في سنة (501هـ= 1107م)، أي بعد سنة واحدة أن قرَّر جاولي أن ينفصل بحكم الموصل عن سلطة السلطان محمد السلجوقيِّ، وهو السلطان الذي خَلَف أخاه السلطان بَرْكيَارُوق منذ سنة (494هـ= 1100م)، وهنا يتَّخذ عماد الدين زنكي موقفًا عجيبًا! لقد كان آنذاك في الرابعة والعشرين من عمره فقط؛ ومع ذلك فقد قرَّر أن يخرج من جيش جاولي، وهو رئيسه المباشر، لينضمَّ إلى السلطان محمد السلجوقي( )، وكانت هذه الخطوة في منتهى الخطورة عليه، لكنه أقدم على هذه الخطوة دون تردُّد مُكَرِّرًا ما فعله أبوه قبل ذلك بخمسةَ عَشَرَ عامًا بحذافيره! لقد كانت الرؤية واضحة تمامًا عند عماد الدين زنكي؛ إذ كان ولاؤه الرئيسي للسلطان العادل محمد السلجوقي، وليس للأمير الظالم جاولي، ولا بُدَّ أن يُعلن هذا الولاء، ولو كان الثمن منصبه، بل ولو كان الثمن حياته!
ولكنَّ الله سلَّم، وحَفِظ عماد الدين زنكي، وباءت ثورة جاولي بالفشل، وعَرَف السلطان محمد السلجوقي القائد الشابَّ الجديد عماد الدين زنكي ابن قسيم الدولة المشهور والمحبوب إلى ملكشاه والد السلطان محمد، وأوصى السلطان محمد بعماد الدين زنكي خيرًا، ورفع ذلك اسمه في عيون الجميع.

عماد الدين زنكى وعلاقته الوثيقة بمودود بن التونتكين أميرالموصل:
ثم كانت لحظة فارقة في حياة عماد الدين زنكي، حين تولَّى أمرَ الموصل شخصيةٌ من أعظم الشخصيات في التاريخ الإسلامي، وهو مودود بن التونتكين رحمه الله، وقد مرَّ بنا طرف من حياته، وكانت هذه الولاية مدَّة ستِّ سنوات، كان فيها عماد الدين زنكي من أقرب الناس إلى مودود، وما أدراك مَنْ مودود؟!
إنه -كما مرَّ بنا- من أصلح الأمراء، وأتقاهم لله عز وجل، وأحبهم للعبادة، وأعدلهم مع الرعيَّة، وأخلصهم في الجهاد في سبيل الله، وأرغبهم في وَحْدَة المسلمين، وأكرههم للصليبيين، لقد أدرك عماد الدين زنكي مودودًا رحمه الله، وكان عماد الدين زنكي في ريعان شبابه، فقد صحبه حين كان يبلغ من العمر أربعة وعشرين عامًا، وقُتِل مودود، وقد بلغ عماد الدين زنكي ثلاثين عامًا.

ماذا إكتسب عماد الدين زنكى من مودود بن التونتكين؟
إنها فترة النضج الحقيقية في حياة المجاهد عماد الدين زنكي، شَرِب فيها عماد الدين زنكي كلَّ توقير وتقدير للشريعة.

وشرب فيها كيف يمكن بذل الوقت والجهد والنفس في سبيل إعلاء كلمة الله في الأرض.

وشرب فيها كل المهارات القيادية والفنية والقتالية التي يتمتَّع بها مودود.

وشرب فيها الشجاعة والجرأة والفكر العسكريَّ الصائب.

وشرب فيها في الوقت ذاته كراهية كبيرة للصليبيين الذين استباحوا بلاد المسلمين، وللباطنية الذين قتلوا مودودًا رحمه الله، وللزعماء التافهين الذين تركوا مودودًا في أزمته، بل أغروا به سفهاءهم ليقتلوه!
عماد الدين زنكى وتعاونه مع مودود بن التونتكين وانتصارهما فى موقعة الصنبرة على الصليبين:
ومع مودود -وفي سنة (507هـ= 1113م)- شهد عماد الدين زنكي موقعة الصِّنَّبْرَة ، حيث ذاق حلاوة النصر على الأعداء، وذاق طعم العزَّة والكرامة، وأبلى عماد الدين زنكي في هذه الموقعة بلاءً حسنًا غير مسبوق، وأظهر شجاعة نادرة، ومقدرة قتالية فذَّة، حتى اكتسب شهرة واسعة في كل بلاد المسلمين، وصار حديث الناس، كما كان أبوه حديث الناس وأشدّ!
ثم قُتِلَ مودود رحمه الله.

وكانت صدمة كبيرة لعماد الدين زنكي، فقد أحبَّه حبًّا شديدًا من أعماقه، ثم إنها كانت صدمة لاكتشافه بحجم المؤامرات الدنيئة في العالم الإسلامي، وعَلِم على وجه اليقين أن قتال الصليبيين مستحيل في وسط هذه الأجواء، وليس هناك بُدٌّ من إصلاح الداخل قبل الصدام مع الأعداء الخارجيِّين.

وفاء عماد الدين زنكى الدائم للدولة السلجوقية:
ثم تولَّى آق سنقر البُرْسُقي ولاية الموصل للمرَّة الأولى، وذلك من سنة (507هـ= 1113م) إلى سنة (509هـ=1115م)، واشترك معه عماد الدين زنكي بقوَّة في معاركه ضدَّ الصليبيين، وحاصر معه الرها وسُمَيْسَاط وسَرُوج، مما زاد من شهرة عماد الدين زنكي لدى الجميع.
ثم بعد عزل آق سنقر البُرْسُقي سنة (507هـ= 1115م)، وتولية جيوش بك دخل عماد الدين زنكي تحت زعامة الأمير الجديد، وعندما حاول جيوش بك أن يقوم بمحاولة انقلابية على السلطان محمود سنة (514هـ= 1121م)، رفض عماد الدين زنكي أوامر قائده الأقرب جيوش بك، وأصرَّ على الولاء للسلطان الأعلى محمود، وقد فشلت هذه المحاولة الانقلابية، ورفع هذا كثيرًا من أسهم عماد الدين زنكي عند السلطان محمود.
عماد الدين زنكى رجل المهام الصعبة:
ثم أُعِيد تولية آق سنقر البُرْسُقي على الموصل سنة (515هـ)، فعاد عماد الدين زنكي من جديد إلى تبعيَّته آق سنقر البُرْسُقي، وعندما انتُدِبَ آق سنقر لإدارة الأمن في بغداد للسيطرة على بعض الأمور الخطيرة سنة (516هـ= 1122م)، وكان دُبَيْس بن صَدَقَة قد قاد ثورة في بغداد للسيطرة على الحكم هناك، أخذ آق سنقر عماد الدين زنكي معه لثقته في قدراته العسكرية والإدارية، بل إنَّ آق سنقر البُرْسُقي ولَّى عماد الدين زنكي منطقة واسط حيث المركز الرئيسي لدبيس بن صدقة ليكون في مواجهته مباشرة، ممَّا يدلُّ على عظيم ثقة آق سنقر في القائد العظيم عماد الدين زنكي؛ وبالفعل استطاع عماد الدين زنكي أن ينتصر على دبيس ويُعيد الأمور إلى نصابها، ولما هاجمت الأعراب مدينة البصرة هجمات متكرِّرة أعطى آق سنقر ولاية البصرة لعماد الدين زنكي للسيطرة على الأوضاع هناك، فنجح في فترة وجيزة في السيطرة على الأعراب ومنع هجماتهم؛ مما جعله بحقٍّ رجل المهامِّ الصعبة في الدولة السلجوقية.

[1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/149، 150.
[2]يقول عنه ابن الأثير بعد هذه المعركة: «وكان له الشجاعة في الغاية». الكامل في التاريخ 9/153.
[3]ان الأثير: الباهر ص19، 20.
[4]ابن الأثير: الباهر ص24.
[5]ابن الأثير: الباهر ص26-28.

د.راغب السرجاني