كتمان السر
28-05-2009, 02:19 PM
لم تحاث الناس على كتمان الأسرار
وتبالغوا في أخذ العهد به
وحرجوا من الإفشاء، وتناهوا في التواصي بالطي ولم تنكتم مع هذه المقامات؟ وكيف فشت وبرزت من الحجب المضروبة حتى نثرت في المجالس، وخلدت في بطون الصحف، وأوعيت الآذان، ورويت على الزمان؟ ومن أين كان فشوها مع الإحتياط في طيها؟ نعم ومع الخوف العارض في نشرها، والندم الواقع من ذكرها، والمنافع الفائتة، والعواقب المخوفة، والأسباب المتلفة؟

الجواب: قد تبين في المباحث الفلسفية أن للنفس قوتين إحداهما معطية، والأخرى آخذه.
فهي بالقوة الآخذة تستثيب المعارف، وتشتاق إلى تعرف الأخبار، وبها يوجد الصبيان أول نشوئهم محبين لسماع الخرافات، فإذا تكهلوا أحبوا معرفة الحقائق.
وهذه القوة هي انفعال وشوق إلى الكمال الذي يخص النفس.
وهي بالقوة المعطية تفيض على غيرها ما عندها من المعارف، وتفيده العلوم الحاصلة لها، وهذه القوة ليست انفعالاً بل فاعلة.
وهاتان القوتان موجودتان للنفس بالذات لا بالعرض.
فكل إنسان يحرص بإحدى قوتيه على الفعل، وهو الإعلام، وبالأخرى على الانفعال، وهو الاستعلام.
ولما كان ذلك كذلك لم يمكن أن ينفعل المنفعل، ولا يفعل الفاعل، ولا أن يفعل الفاعل، ولا ينفعل المنفعل؛ لأنهما جميعاً للنفس بالذات.
فقد ظهر السبب الداعي إلى إخراج السر، وهو أن النفس لما كانت واحدة واشتاقت بإحدى قوتيها إلى الاستعلام، واشتاقت بالأخرى إلى الأعلام - لم ينكتم سر بتة.
وهذا هو تدبير إلهي عجيب، ومن أجله نقلت الأخبار القديمة، وحفظت قصص الأمم، وعني المتقدمون بتدوين ذلك وحرص المتأخرون على نقله وقراءته.
ولذلك ضرب الحكماء فيه المثل، وحزموا عليه القول، وقطعوا به الحكم وقالوا: لا ينكتم سر، وإنما يتقدم ظهوره أو يتأخر.
وتقول العامة: أي شيء ينكتم؟ ثم تقول في الجواب: ما لا يكون.
فحقيق على صاحب السر أن يستودعه إلا القادر على نفسه، والقاهر لنزواتها عند حركاتها وشهواتها، بل المجاهد لها، المعتاد عند الجهاد غلبها وقهرها.
وإنما يتم للإنسان ذلك بخاصة قوة العقل الذي هو أفضل موهبة الله تعالى، وأكبر نعمة له على العبد، وبه فضل الإنسان على سائر الحيوان.
ولولا هذا الجوهر الكريم الذي هو مسيطر على النفس ومشرف عليها، لكان الإنسان كسائر الحيوانات غير الناطقة في ظهور قوى النفس منه مرسلة من غير رقبة، ومهملة بغير رعية، ولكنه بهذا الجوهر النفيس في جهاد للنفس عظيم.
ومعنى قولي هذا أن الإنسان دائماً في جهاد النفس بقوة عقله؛ لأنه محتاج إلى ردعها به، وإلى ضبطها ومنعها من شهواتها الردية حتى لا يصيب منها إلا بمقدار ما يطلقه العقل ويحده لها، وما يرسمه ويبيحه إياها.
ومن لم يقم بهذا الجهاد مدة عمره فليس ممن له حظ في الإنسانية، بل هو خليع كالبهيمة المهملة التي لا رقيب عليها من العقل.
وإذا انحط الإنسان عن رتبته العالية إلى رتبة ما هو أدنى منه، فقد خسر نفسه ورضى لها بأخسر المنازل، هذا مع كفره نعمة الله، ورده الموهبة التي لا أجل منها، وكراهيته جوار بارئه، ونفوره من قربه.
وقد شرح الحكماء هذا المعنى واستقصوه، وعلموا الناس جهاد النفس في كتب الأخلاق، فمن اشتاق إلى معرفة ذلك فليأخذ من هناك.
فانفعالات النفس وأفعالها بحسب قوتها كثيرة، وهي الشهوات الموجودة في الناس، وليس يخلو منها البشر، ولكنها فيهم بالأكثر والأقل، فمجاهدة العقلاء لها مختلفة، والجهال هم المسترسلون فيها غير المجاهدين لها.
وإخراج السر من جملة هذه الشهوات، وهو متعلق بالإخبار والإعطاء، إذا كان لحفظ السر هذا الموقع من المجاهدة للنفس لأنها تحرص في إظهاره على أمر ذاتي لها، وإنما يقمعها العقل ويمنعها - فأخلق به أن يكون صعباً شديداً، جارياً مجرى غيره من شهوات النفس التي يقع الجهاد فيها.
وربما وجدت إحدى هاتين القوتين في بعض الناس أقوى والأخرى أضعف، فإن من الناس من يحرص على الحديث، ومنهم من يحرص على الاستماع، ومنهم الضنين بالعلم، ومنهم السمح به، ومنهم الحريص على التعلم والاستفادة، ومنهم الكسلان عنه وعلى هذا يوجد بعضهم أحرص على إخراج السر، وبعضهم أثبت وأحسن تماسكاً.
وكان لنا صديق صاحب السلطان قريب المنزلة منه، فكان يقول لصاحبه: إذا كان لك سر تحب كتمانه، وتكره إذاعته فلا تطلعني عليه، ولا تجعلني موضعه، ولا تبلني بحفظه؛ فإنه أجد له في صدري وخزاً كوخز الأشافي، ونخس الأسنة.
وسمعته يقول: اطلعت على سر للوزير، فجعل لي على كتمانه وطية مالاً وألطافاً، حملت إلي في الوقت، فعزمت على الوفاء له، وحدثت نفسي به، ووطنتها عليه، فبت بليلة السليم، وأصبحت وقيذاً، فلم أجد حيلة لما أجد من الكرب غير أني ذهبت إلى ناحية من الدار خالية فيها دولاب خراب، فنحين من كان حولي ثم قلت: أيها الدولاب، من الأمر والقصة كذا وكذا.
وأنا والله أجد من الراحة ما يجده المثقل بالحمل إذا خفف عنه، وكأنني فرغته من وعاء ضيق إلى أوسع منه، ثم لم ألبث أن عادت الصورة في ثقله، وجثومه على قلبي إلى أن كفيته بظهوره من جهة غيري.
وهذا الذي قد نثره الرجل قد نظمه الآخر، فقال:
ولا أكتم الأسرار لكن أنمها ... ولا أدع الأسرار تغلي على قلبي
فإن قليل العقل من بات ليلة ... تقلبه الأسرار جنباً إلى جنب.
يروي: وإن غبين الرأى.
وقد سبق المثل المضروب بالملك الذي كأن أذنه أذن حمار، فإن صاحب ذلك المثل أراد أن يبالغ في الوصاة، بحفظ السر، فأخبر أن الشجر والمدر غير مأمون على السر، وأنه ينم به فكيف الحيوان؟ وهذا ما تقول العامة: للحيطان آذان.
[/size]
أحب الصالحين ولست منهم ... ولكني بهم أرجو الشفاعة
وابغض من بضاعته المعاصي ... وإن كنا سواء في البضاعة

http://www.echoroukonline.com/montad...d.php?t=161864