رد: الإشكالات الهادمة لمذهب منكري السنة
29-05-2014, 11:07 AM
إن القرآن الذي دلّنا على حجية السنة إنما دلنا على ذلك من خلال دلالته على حجية المنهجية التي من خلالها أثبت حجية السنة، والمقصود بحجية المنهجية أي إضفاء الشرعية والاعتبار على طرق الاستدلال التي أدت إلى هذه النتيجة: أي نتيجة "حجية السنة". وقد أخبرنا الله في القرآن أن للناس مذاهب شتى في طرق الاستدلال، فمنهم من يستدل بوهم مركزية نفسه واعتبارها معياراً يحاكم من خلاله الآخرون (لو كان خيراً ما سبقونا إليه)، ومنهم من يؤكد هذا الاستدلال بنقيضه فيتهم الجماعة الغالبة اللذين " يتخذون طريقة التفكير العادي في الأمور" بالسفه وسطحية المعرفة (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) (وما نراك اتبعك إلا اللذين هم أراذلنا بادي الرأي) فهؤلاء الممعنون في "المثالية المتكلفة" التي تخرج الناس عن دائرة التجاوب الطبيعي مع التاريخ والأشياء تعمى أعينهم وتكل أذهانهم عن تأمل الآيات التي تقرر مشروعية التفكير الطبيعي، تفكير الرجل العادي (common sense knowledge or thinking) للأمور مالم يعارض ذلك معارض راجح، وطريقة القرآن في هذا يمكن إيجازها في جملة وهي: أن القرآن لم يحصر طرق العلم ، ولم يحدد عدد وطبيعة القرائن ، وإنما يُحكم أساس الكليات ويترك الوسائل على تنوعها للناظر أياً كان، فلما قال الله (ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم) فإنه يفتح بصيغ العموم هذه – النكرات في سياق الإثبات – المجال واسعاً أمام الخصم لإيراد كل ما يصلح لأن يكون دليلاً أو قرينةً على صحة دعواه. إن النتيجة التي أريد أن أصل إليها دون إسهاب في التقديم هي أن علماء الحديث ونقاده لم يفعلوا أكثر من تطبيق هذا المنهج القرآني: منهج تقديم الدليل في جرح أو تعديل (قل هاتوا برهانكم) ، منهج رد رواية ساقط العدالة أو الاحتياط فيها (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)، منهج الاعتداد بشهادة الخبراء – ولو كانوا كفاراً - (فاسأل اللذين يقرأون الكتاب من قبلك) - ، منهج قبول الحق ولو من المخالف...رواية المبتدع - انظر ترجمة: [عبّاد بن يعقوب الرواجني] – (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم) ، (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا). وفي المقابل يسلك المخالف منهجاً غير قرآني ، وبالتالي مُغالي وافتراضي وغير واقعي لأن القرآن واقعي ينسجم مع واقع النفس والتاريخ، فهو يصم من سلف ذكرهم بالكذب ولا يستثني ، ويحكم حكماً كلياً تعميمياً ، ليس لأن القرآن يشفع له بذلك وإنما لأنه لايصبر على طريقة القرآن، لأن طريقة القرآن تحتاج إلى صبر ودقة وتحر وأمانة وجلد (ولاتسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله) في الحكم على الأشياء فما بالك بالحكم على أجيال مضت، ثم هناك معول آخر تنخرم به واقعية التفكير القرآني عن هؤلاء وهو معول سوء الظن ، وما أكثر سوء الظن عندهم ، فأول الأمة هو أساس ضلال ومصدر غواية الأجيال اللاحقة ، ولو أنهم اقتصروا - كما يزعمون - على القرآن وطرحوا كل مأثور عن رسول الله ، لعاشت الأمة في وئام وسلام ، ولم يعلم هؤلاء أن كتب الله المنزلة هي نفسها كانت سبباً في تفرق الناس لا اجتماعهم (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) ، (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه الا اللذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم) ، وأن لله الحكمة في ذلك (يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يضل به إلا الفاسقين)

....عوداً إلى معول سوء الظن ، وفيه قول المولى (اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم)، بل لا يكاد يأبه هؤلاء بقاعدة تقديم إحسان الظن حتى ولو كان الجو مشحوناً بدواعي الظن السيئ (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم)، والمقصود أن هؤلاء اللذين يتهمون كبار النقاد وعظماء الحديث بالكذب والتخليط في ما يعرف بـ "الجرح والتعديل" إنما يمارسون ايضاً جرحاً وتعديلاً، بل لا يعرفون إلا الجرح ولا يكادون يعرفون للتعديل سبيلاً ، وأقاموا سوق جرح خاص بهم ، سماته الخرص (إن هم إلا يخرصون)، والكلالة وعدم الصبر على تحري الحقيقة، بل لا يكادون يقيمون للمنهج القرآني في اعتبار الذاكرة التاريخية (أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل) وزناً يذكر ، وكأن الله قد ألغى كل معرفة ، وإن استندت إلى (أثارة من علم)، حتى يتحقق فيها اليقين الذي لا يخالجه ظن، وهذا من التعنت المذموم في طلب الطمأنينة ولهم سلف في ذلك (ولن نؤمن لرقيك حتى تنـزل علينا كتاب نقرؤه) ، فلا يكفيهم الاستدلال العادي الذي أقره القرآن في أمور الدين وغيرها على حد سواء...


.يتبع إن شاء الله