على ضفاف الذّكرى
13-06-2012, 06:21 PM
1992\1\28
في سكون هذا الليل وهدأته,الليل الذي يغطي بستائره السوداء كل شيئ جميل والذي تتجدد فيه الأحزان ويولد فيه اليأس ويموت فيه الأمل ....من حولي تهب رياح الذكريات ومع هذا الصوت تتردد في مسمعي صرخات الماضي الأليم يحاول اليأس التسلل الى أعماقي ليقيد أجمل مابه من أحلام في غد قريب...فأتذكر وأكتب من جديد وأتساءل بيني وبين نفسي
الى متى .....؟؟أظل سجينتك أيها الليل والى متى تبقى كلماتي يتردد صداها فيك وبصمت ...............من هنا تنطلق صرختي لتدوي الوجود بصداها ,وليسمعني كل من فيه ويحس بي كل من له نبض قلب ,....كل شيئ يتكرر بنفس البطئ وبمرارة ورتابة ..
صرختي أيها الليل جزء منك ,فأنت من قبل جزء مني ...صرختي أيّها القلم لم تستطع فقه كلماتها ولا آهاتها ................
صرختي ,صرختي انحسرت بين أربعة جدران بل بين سطرين ...بين ورقة وقلم ,أوراق خرساء تزاحم في الخزانة ثيابي خبأتها جيدا أقلام جفت واستبدلت ومازالت بأعماقي بقايا الكلمات ....كلمات تنتحر من قوة البأس واليأس ,وأخرى توؤد ,وشبيهاتها تختنق في حلقي ومثل هاته تكتب ولا تسمع ..كلماتي جماد ...عدم ...كلماتي بلا بداية ولا نهاية .....
ألملم على هذه الصفحة البيضاء كلماتي الضائعة وأتوسل .,أتوسل ليلي الطويل أن يسمعني أتوسل للقلم والورقة ...أتوسل لصمت هذا المكان....فلا أجد غير كلمات ضائعة تتلاشى بين شفتي وتنكسر على جدار الصمت ,كلمات تضيع ,صرخات توؤد دموع لاتنتهي ...كل شيئ يتكرر بنفس البطئ وبمرارة ورتابة .........ويلفني الضياع في دوامته من جديد فأستسلم له وأكتب من جديد ...
سألني قلمي ماذا أكتب ؟؟وسألت بدوري ورقتي ماذا نكتب ؟؟حيّرني السؤال وحيّرني الجواب .....
أأكتب مابقلبي وأرسمه أم أكتمه ..؟؟سألني قلبي لماذا دائما أنت عكسي ؟؟
اذا حلمت ,حطمت,واذا نبضت خنقت ,واذا رقصت حرمت ,اذا فرحت بكيت ,واذا أحببت تجاهلت ...؟؟؟؟؟؟لا لا مستحيل ليس لك يا قلب .أن تحلم أو تفرح أو تحب ..
لكن لماذا ؟؟أجابني فزعا بدون لكن هو مكتوب علينا .........أرجوك لا تسالني فليس عندي جواب
صمت قلبي وفاجئني عقلي الى متى ؟؟؟الى متى تهربين ؟الى متى تضحين ؟الى متى تنكرين ذاتك
21-12-1989
استيقظت على الثالثة من بعد منتصف ليلة الأربعاء وكأنه أول يوم تستيقظ فيه من نومها العميق ,الظلام دامس وهي وحيدة ..فتحت عينيها السودوتين كسواد هذا الليل ونظرت من خلال النافذة المقابلة للشاطئ,حيت كان ضوء القمر الخافت يتسلل في سكون الى غرفتها الصغيرة ,ليبدد ظلام ذلك المكان ولينيره ولو قليلا ,هاته الغرفة التي يسودها صمت رهيب لا يسمع فيه سوى صدى موج البحر وهو يتمزق على تلك الصخور التي تأبى الاستسلام له ..متحدية ايّاه في عزّة وشموخ...أعادت الغطاء على جسمها النحيل وحاولت أن تغمض جفنيها الذابلتين لتعود الى عالم الأحلام والنسيان ....لكن ذلك الخوف الذي استبّد بها فجاة جعل النوم يفر من عينيها ,فأحست بقلق شديد يتملكها فراحت تبحث عن وسيلة تعيد لها النوم ...لكن دون جدوى وكأن استيقاظها
في ذلك الوقت المتأخر من الليل جاء ليجدد شيئا ما ...انه حدسها القوي الذي يوجس من شيئ ما سيحدث ...استغفرت الله ثلاثا وأنارت المصباح الصغير بيدها اليمنى وباليد اليسرى أزاحت عنها غطاء السرير وبخطا متثاقلة اقتربت من خزانتها الصغيرة المنزوية في آخر الغرفة
فتحت الدرج وراحت تبحث هنا وهناك .....كانت تبحث عن كراستها وبقايا قلمها ..عانقتهم بقوة وأسرت انتم مابقي لي من مقاعد الدراسة آآآآه الدراسة
ذلك الحلم الذي تبدد .والامل الذي وئد .....
مرّت عليها الطفولة كئيبة ,ساكنة ومرّت هي على مراهقتها مرور الكرام ...كانت طفولة أنثى في قرية محافظة.......كانت حياتها كلها لاآآآآت .....لا للخروج \لا للدراسة \لا للرفيقات\ لا لصلاة الجمعة في المسجد \لا للرسائل \لا لكل شيئ ولأي شيئ يفرحها .........
مجتمع ذكوري لكن الحكم أنثوي فالبيت كان من تسيير الأم فهي امرأة قوية والكل يحترم أمرها ....رغم أنها آخر العنقود الاّأن هذا لم يشفع لها أو ربما شفع القليل
فأمل الوحيدة التي وطأت قدماها عتبة المدرسة من بين أخواتها الأربعة ....البيت كبير والتناقض فيه كثير فالبنت تحب الدراسة ومتفوقة بل ممتازة والأبناء الذكور رفضوا الدراسة فلفضتهم المدارس ..........كل صباح كانت تحمل محفظتها الكبيرة جدا وهي تمسك بها بكل قوة والرياح تعصف حولها لامعطف يحميها ولا حضنا يدفيها ...لم تكن تودعها أمها بالأحضان والقبل وبلمجة صغير ة ...
كانت تودها بكلمات جارحة ونظرات ثاقبة وكل صباح تعدها أنه اليوم الأخير لها في مقاعد الدراسة ..كانت تخشاها أمل وتتحاشى نظراتها وكانت ....تدعو الله في سرّها أن لا تفعل والدتها ما تقوله
والى محطة النقل المدرسي كانت تتردد مع خطاها كلمات والدتها وترن بقوة في ذاكرتها \خوتك قاعدين في الدار وأنتي تمشي في نقولة مع لولاد........\\والله من تجي هادي آخر مرة تمشي فيها لقرايا.....\\أنتركي بهدلتي بيا.....\كلام تعودت عليه وتعودوا أن يروا صديقاتها تلك النظرة الحزينة وتلك الابتسامة الصفرا ء .......تصنعت أمل السعادة وتصنعت اللباقة وتصنعت الهدوء .....كان كل شيئ مزيف وكاذب في حياتها ...بل حياتها كلها أمل كاذب ....
وفي المساء عند عودتها يقارع لها في الطريق أخوها الأوسط وسجارة الحشيش تحرقه من الداخل يريد بها أن يطفئ غيظه على أخته ..\ايا تمشاي راني نصفعك ....\ايهانات كل صباح ومساء وتفوق لا مثيل له ...السلام عليكم ورحمة الله :تقول أمل لم يرد عليها أحد من أهل البيت غير الوالد المغلوب على أمره
وعليك السلام ورحمة الله حبيبتي دخلت حجرتها ولحقت بها الأم \الشغل راه ايسناك لبسي ورواحي للكوزينة ...\لا قهوة المساء ولا حتى بقايا من غذاء النهار ........كانت تساءل نفسها دائما أهي فعلا أمي وأنا ابنتها؟؟؟
وكانت تقتلها الغيرة عندما كانت تمر على الصديقة الوحيدة التي سمحت لها أمها بمرافقتها
كانت تجد أم ليلى تفرغ لها الحليب وتضع لها قطع السّكر وتقدمه لها مع حلويات لم ترها من أيّام العيد ,,,,,,,,تقول خالتي ربيعة \بالحليب ولا كحلة \وتعتذر أمل وتقول وتقسم بأنها ارتشفت قهوة الصباح منذ قليل في البيت وتكاد تفضحها صرخات أحشائها من الجوع ...وتقول لها نفسها معاتبة \كاذبة يا أمل فلم تتعشين ولا قهوة الصباح كانت من نصيبك \
تقول في سرّها :لا يهم المهم أن أدرس ..........
مرّت السنة الدراسية 83\84 بسلام وكان يتخلل أيامها خوف رهيب ...ويسكن في لياليها كوابيس لا تنتهي
وانتهت الدراسة وحلّ الصيف على القرية وكان خريفا ينثر أوراقه على قلب أمل ...........
حملت بين يديها المرتعشتين كشف النقاط للثلاثي الأخير .......كانت علاماتها ممتازة ....
وكان ذلك الطابع الأحمر الذي تتربع بداخله تهنئة التي شارفت على امتياز ....كان يبرق في بؤبؤ عينيها التي حجبت عنهما الرؤيا تلك الدموع
ولأول مرة كانت دموع فرح .........مرّت عليها الوالدة وهي تقرؤها لم تسألها ولم تلتفت لما تحمله يداها الرقيقتين .....
دخلت امل حجرتها وخبأت كشف النقاط تحت وسادتها وهي لا تصدق أنّها مرّت الى السنة الثانية من التعليم المتوسط ....
لأنّها كانت مهددة في غدوها ورواحها ....حمدت الله أن اعمى عنها وشغل بال الوالدة ....وبقلب يكاد يطيرمن الفرح هرولت تبحث عن شيئ تساعد فيه أمّها ...حتى ترضى عنها وفاجأتها هذه الأخيرة بالكلام \خلاص تهنيتي قريتي في المتوسطة ,وعام وانتي تمشي وتجي ايوا ضورك ريحي روحك ماكانش قرايا العام الماجي ...\
شخص بصر أمل ووقفت متسمّرة وكأنها صعقت ,لم تعد الام كلامها فأدركت أمل أنّه لا مجال للنقاش .....خبأت رأسها الصغير بين دراعيها وراحت تبكي
أتت الأم مسرعة من ورائها وشدّت شعرها الطويل بقوة وأعادت برأسها الى الخلف وقالت وكأن ماردا من الجان يتملكها\ابكي ولا قعدي .قلت لقرايا ماكانش سي ماكانش ...صبرت عليك العام اللي فات وبغيا نزيد نصبر معاك ياك قلتهالك نهار اللي ديتي السيزيام باللي خلاص راكي تفكي الحرف وتعرفي تكتبي لي البرية لأختك في فرنسا ..ايا تعلمي شوية شغل مع أختك قبل ما تزوج .....\
هنا بركان هزّ أمل من الأعماق وصرخت بكل قوة :لا ............لا لا \من حقي عليك نقرا ولا من ولادك مابغاوش يقراوا حريمتيني أنا ...علاش ياما حرام عليك ..ياك ماقلتك اعطيني والوا ..ياك احرمتيني من اللبس كي خوتي وقلت ماعليش واحرمتيني من الخروج وقلت ماعليش ...حتى العيد تعيدي لخوتي واحنا لبنات لا ....حتى الأكل أخوتي يكلوا المقلي ولمشوي ولبنات لا .....وأنا اليوم ياما نقولك لا واذا ماخلتينيش نقرا عمري مانسمحلك ....\
هنا انتفضت الأم وأخذت البنت بين يديها وانهالت عليها بكل أنواع الضرب وبكل قوّتها ...لم تفعل لا الأخت ولا زوجة الأخ من تحريرها من بين يديها ....
تدخل الجيران عند سماع صراخ أمل ..........وأخيرا أفلتتها كانت العين زرقاء والفم يدمي وأثار القرص والعض في كامل الادرع والأرجل ...كانت أمل شبه مغشي عليها ..وأصبحت طريحة الفراش لم تنهض منه لأسبوع كامل ...والأم لم تهدأ بعد,كان لامل أخ أكبر يحبها جدا ...حنون وعطوف لكنه للأسف سكّير ...فاذا واجهته أي مشكلة يهرب الى الخمر حتى ينسى .....نظر الى معالم وجهها التي تغيرت فتخاصم مع الوالدة وللأسف سبها وهذا كان يغضب أمل ....فمهما فعلت تبقى أمي قالتها في نفسها ...هجر الأخ البيت وكان اللوم على البنت ...\هاكا بغيدي تخليلي داري بسبابك مشى أنت السبب الله ياخدك ...\فعلا جالت الفكرة في رأس امل الموت هو الحل كانت تخاف الله فلم تعزم على الانتحار انّما أرادت أن تعذب أمّها بعذابها فدخلت في اضراب عن الأكل \مرّ اليوم الأول فلم تعرها اهتماما أمّها وجاء اليوم الثاني وانتصف ,فاقترب منها الوالد الذي غلبته الدموع وتوسل اليها أن تأكل وستكمل دراستها \وعدا منه..\
هزت أمل رأسها بالرفض لأنّها تعلم أنّ القرار ليس بيده ...تحاورالوالد طويلا مع الأم لكن أبدا لم تلين كانت تختلس السّمع أمل لوالدتها وهي تسأل الأخت \كلات ولا لاّ تاكل السّم ...\ فتقول البنت الكبرى \مابغاتش \\لهلا يوكلولها خليها تقتل روحها على القرايا ...ماعرفتش هاد البنت شكون شبهت ربيت ربعة نتاع لبنات وهي خرجتلي عقلي ...\حطيه في الكوزينة مين تجوع تنوض تاكل ...\
استرجعت امل جملة أّمّها \ربيت ربعة نتاع لبنات ....ههههه ربعة نتاع نعجاة أو ربعة نتاع البوكوشات\ أسّرتها في نفسها ......
وجاء اليوم الثالث ...وأمل لاتقوى على فتح عينيها من الفشل والارهاق نادت على أختها بصوت خافت \الما جبيلي شوية ما ....\
راحت البنت تبكي وتقول أختي ...أختي جاءتها الأم\مالها ...\\أختي راها تموت ...\لم تشعر الأم بنفسها الاّ وهي تحتضن فلذة كبدها وتقبلها وترجوها أن تأكل وستتركها تكمل دراستها ...قالت البنت في اعياء \حلفي بالله ثلاثة عاد وناكل ...\قالت الأم \والله العظيم ...والله عظيم ...والله العظيم ...\قالت لها أمل كملي \االنخليك تقراييي\
ابتسمت أمل وأحست بطعم النجاح ,...............
وبعد أيام سمحت لها بأن تذهب مع الوالد لالتقاط الصور الشمسية ...عند ابن عمتها في المدينة لأنّه كان مصور فوتوغرافي ..
لمّا رآها اغرورقت عيناه بالدموع ..وقال \الله يسامحك يامرت خالي...\وضع على وجهها بعض البودرات لتظليل الندوبات والكدمات وكانت الصورة
التي لازمتها طوال حياتها ولا زالت ...........وبعد كل السنين التي مرت لم يمحو الزمن ندوبا في الأعماق وكدمات مازلت لم تشفى بعد .........
كانت طفولة أمل ,ألم وعذاب وكانت ترى أنّ الدّراسة هي المنفد الوحيد لها من عائلتها وقريتها .أخذت الصور واستخرج لها والدها الوثائق المتبقية وبهذا استكملت ملف التسجيل للسّنة الدّراسية 84\85...وحلّت السّنة واستوسطت ومرّت كغيرها بترقب وتوجس وخوف شديد ..وصديقها كتاب وأمل ...زاد الخوف وزاد التّفوق والنّجاح ..
الأم لم تكفّ يوما عن تهديداتها ..والبنت لم تيأس من الدّعاء .........وانتهت السّنة الدّراسية ..لم يسألها أحد عن معدل الفصل الأوّل ولا الثّاني ولا الثاّلث ...
وحمدت الله ..أن شغل بال الأم عنها ...لكن للأسف شغلت عنها بصحتها وتدهور حالتها ونقص النّظر ...كانت الأم تشقى كثيرا مع الوالد في الزراعة والحرث فعائلة أمل مشهورة بالفلاحة ..كان لهم بستان شاسع به كل مالذّ من أشجار الفاكهة وكانت شجرة الرّمان صديقة أمل ...كانت تحب هذه الشّجرة وتشعر بعبق الجنّة في أريج أزهارها الحمراء....
قربت الأم على فقد بصرها من كثرة الأشغال والاهمال ...وحلّ الصيف محملا بحقائب سفر وبتذكرة قطار أخذت الوالدة بعيدا عن حضن البنت وأوّل مرّة تسافر الأّم بعيدا ....وأخيرا ...كانت تظن أمل أنّ هذا البعد لصالحها ويخدم أحلامها وطموحها ...لكّنه في البداية فقط راودها هذا الشّعور ولمّا انتصف الشّهر علمت أنّها لا تقدر على العيش بدون أمّها ...حاول الأب وكّذا الأخ مع رعاية الأخت حاولوا جاهدين أن يملؤوا هذا الفراغ ...لكن أبدّا وعبثا حاولوا ..
.
فالأم رغم قسوتها وجفائها الّا أنّ لها لمسة حنان في البيت لا تعوض ...وأجريت للأم عملية جراحية على العين اليمنى وانتظروا لنصف شهر آخر حتى يتيقنوا من نجاح العملية التّي وللأسف كانت فاشلة فلم تستعد الأم نظرها في العين اليمنى بل بعد العملية ضعف بصر العين اليسرى أيضا .....وكان هذا الخبر ثقيلا على أهل البيت والقرية معا ...فالأم خديجة رغم عصبيتها في البيت وتسلطها وحب القيادة الا أنّها محبوبة جدا في القرية فهي امرأة اجتماعية ..الكل يحبها كانت تتصدق كثيرا من محصول البستان وتهدي لجيرانها والأهل سلل من الفواكه وباقات من النعناع الأخضر والقسبر ....لم تردّ السائل قط ..كانت امرأة مضيافة وكريمة لأبعد حد ...تفرح لفرح أهل القرية فتكن الأولى من المهنئين تغني مع نسائهم وتبكي لأحزانهم ....
كان لخديجة صوحيبات من أياّم الثورة كنّ يتكاتفن جميعا ويتّحدن مع أزواجهن في ايواء المجاهدين واطعامهم ,وتزويدهم بالسّلاح الذي كان يهّرب لهم من الدّولة الشّقيقة المجاورة ,كان الوالد يقطع المسافات الطّوال على قدميه ويجوب الوديان والجبال ويمرّ الى الضّفة الأخرى ليلا ,يحمل فوق ظهره ما استطاع على حمله من الأسلحة والذّخيرة ولله الحمد كانت عين الله تحرسه فلم يمسك به العسكر الفرنسي ولا مرّة
وكانت الأم في الأثناء تطهو الطّعام للجنود المختبئين عندها هي وزوجها في البيت ..كان الطّعام الموجود آن ذاك خبز الشّعير وحليب الماعز ....وكسكس بخضروات البستان ودجاج الحظيرة..أحسّت خديجة ذات ليلة بحركة غير عادية خلف جدران بيتها الطّوبي وبسرعة البرق فتحت بابا في الأرض يؤدي الى باطنها بها مؤن وأغطية ...فأسرع المجاهدون للاختباء ...وتظاهرت الأم والأب بالنّوم مع صغارهم أثناء هجوم العسكر الفرنسي ودخوله عنوة للبيوت.....
تربت أمل وكبرت على قصص الأم ووقوفها هي والزّوج في وجه الاستعمار ...وشربت أمل مع حليب أمّها كره فرنسا والاستعمار والاستبدادوبهذا التكافل والاتحاد نجحت الثورة زد على ذلك مساعدة الدّول المجاورة ..وايواء المهاجرين اليه من المستضعفين وأهالي الأسرى ...وكم تحفظها أمل وكم تعشق تلك الأم هناك في القصّة ........وكلّما انقطع التّيار الكهربائي على القرية الاّ وسارعت الأم بجنب أمل تحكي لها قصصا وبطولات عاشتها الأمّ خديجة
وكم تحفظها أمل وكم تعشق تلك الأم هناك في القصّة ........
((ايه ..احنا بكري كنا نقصروا غير على الشمّع ..كنت رقد خوتك بعد مانعيشهم ..ونقعدوا نقصروا أنا وباباك مع الثّوار حتى للصباح ..ومين يبان الضو نقعدوا نعسوهم باش مايلحقهم حتّى واحد من الدّوار لخطر الحركا يابنتي هم لكانوا لعديان نتاعنا قبل فرنسا ...
والله يابنتي كنت نضحك ونستغرب مين نشوف كل المجاهدين صغار وغاديين للموت برجليهم كنت نقولهم ((اعلاش ياولدي أنت صغير وغادي تقتل روحك على ثلاث جبال ...كان القائد نتاعهم يقولي((ياما الجزائر كبيرة وواسعة وعظيمة ماشي غير هاد القرى والدّشور اللّي راكي تشوفي فيهم ....((كنت نودّعهم بالدموع والدّعا ((الله يحفظكم ويعمي عليكم ...
ولم تنسى أمل أبدا تلك القصة لذالك الجاسوس أو الواشي الّذي وشى باخوانه من المجاهدين وجعل العسكر الفرنسي كمينا وقتلهم جميعا ومنهم من كانت تعرفه أم أمل وأكل من يدها وشرب ...تحكي الأم والدّمع يجرّّح عينيها المريضتين ((الله ..الله يابنتي واش شافت هاذ لبلاد ..........
قصص كثيرة روتها الأم وحفظها أمل ...كانت تجد في الوالدة تناقض كبير ولكّنها في نظرها عظيمة عظمة الجزائر ...
(على سلامتك لا لا خديجة ..والله القرية بلا بيك صامتة )قالت الصديقة يمينة
(كيراكي تحسّي بروحك ...راكي تشوفي شوية من عينك )قالت كلثوم الجارة
(شوية برك والله بحال اللّي مادرتش العملية ..لعذاب وخلاص ..ايه الحمد لله )
..(وكيراكوا نتوما وأولادكم وأحبابكم والله توحّشتكوم بزاف ....حسّيت روحي باللّي راني في الغربة )
...بصّح المدينة يقولوا كبيرة وواسعة وفيها كلشي ..)
(ايه صح ...كبيرة ومنظمة ومزوقة لكن تخوّف ...الواحد مايعرف لاخر ...لا لا أختي يمينة قريتنا خير ..
كريمة بناسها ...وخضرا بحقولها ...)
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته :قالت أمل
وعليكم السّلام ورحمة الله :قالت النّسوة
(ايه يا خديجة بنتك كبرت ما شاء الله عليها ...)
(وعلى ماراني نسمع تقرا مليح ...بصّح اسّمحيلي يا اختي البنت ما يلزمها غير دارها ...)
صمتت الأم ولم ترد ..
وسمعتهن أمل وخفق قلبها بشدّة ..أكيد ستوقفني هذه المرّة .....ماذا أفعل يا الله لم يبقى الا القليل
ويأتي الموسم الدّراسي الجديد ويعاد نفس السيناريو ونفس الحوار حتّى الاخراج كان نفسه ...
سألت أمل :لماذا يا أمّي ..؟؟
ولا جواب ولا سبب مقنع ،ضربتها كالعادة وتعوّدت أمل التّحمّل ..كانت تقول في نفسها :سأصبر وأكيد هي موجة غضب ستبرد نارها حتما ..
لكن لهيب النّار طال وحرق جلد أمل ...وحرق معه كتبها كراريسها...أملها... أحلامها ..محفظتها القديمة
وأيقنت أمل أنّ قرار وكلمة ووعد أعطته لصديقتها يمينة التّي كانت خديجة تحترم رأيها ...
لكن لماذا ؟؟؟؟
(خلاص ..راني احرقتلك محفظتك وكتوبك ...مابقى ماتزيدي تقراي )
نظرت أمل لأمّها نظرة حقد وعتاب وتوسّل ....وأسرعت مهرولة الى الطّابق الثّاني الذّي كان قيد الانجاز رمت رجلها في الفراغ ونادتها (أيا أمي سألحق كتبي ...ان لم أدرس فلن أعيش ...)
صاحت الأم (هودي ...انزلي ..وتصادف رجوع الأب والأخ من الحقل ..(واش صرا واش كاين )قال الأب
قالت الأم (باغيا تقتل روحها على لقرايا ...)
الكلّ يقطع العهود نفسها لكن القرار بيدها ..وبحيلة استدرجت البنت ونزلت وهي ترتعش من الخوف كانت ترجو ضمّة ولو خفيفة ...وكانت ضمّة اختلجت لها أضلاعها وبصفعات تناثر الدّم منها وتناثرت أحلامها ......ضربت كالعادة ووبكت كما تعوّدت في صمت ....
صراع طويل ومرير وأكيد سيكون الاستسلام نهاية أحدهما ..وكالعادة نجحت أمل ونجح اضرابها عن الحياة ......وعادت بشفا مجروحة وصوت مبحوح ..
وكذلك هذه المرّة لم يسألها أحد عن الكدمات ولا عن صمتها الطّويل ..فالكلّ يعرف قصّتها والكلّ كان في رهان أن تعود أمل أو لا تعود .....
كان الخجل رفيقها الدّائم وطأطأة الرأس مخبأها ...تستمع للدّرس لا ترى المدرّس ..المهم كلماته والشّرح ..حفظت التّاريخ ونساها ..زارت مدن العالم في كل درس جغرافيا ...تعمّقت في الرّياضيات وهي تبحث عن حلّ لمعادلة صعبة في حياتها ...زتسكن روحها اذا مرت عليها آية أو حديث ينصف المرأة
كان أستاذ العلوم الطّبيعية يشجّعها دائما ويجلسها في المقاعد الأولى،التّي كان تهرب منها الى المقاعد الخلفية ...وكلّما أحنت رأسها رفعه لها وقال:(لا تحني رأسك أبدّا الاّ لله .....)
في سكون هذا الليل وهدأته,الليل الذي يغطي بستائره السوداء كل شيئ جميل والذي تتجدد فيه الأحزان ويولد فيه اليأس ويموت فيه الأمل ....من حولي تهب رياح الذكريات ومع هذا الصوت تتردد في مسمعي صرخات الماضي الأليم يحاول اليأس التسلل الى أعماقي ليقيد أجمل مابه من أحلام في غد قريب...فأتذكر وأكتب من جديد وأتساءل بيني وبين نفسي
الى متى .....؟؟أظل سجينتك أيها الليل والى متى تبقى كلماتي يتردد صداها فيك وبصمت ...............من هنا تنطلق صرختي لتدوي الوجود بصداها ,وليسمعني كل من فيه ويحس بي كل من له نبض قلب ,....كل شيئ يتكرر بنفس البطئ وبمرارة ورتابة ..
صرختي أيها الليل جزء منك ,فأنت من قبل جزء مني ...صرختي أيّها القلم لم تستطع فقه كلماتها ولا آهاتها ................
صرختي ,صرختي انحسرت بين أربعة جدران بل بين سطرين ...بين ورقة وقلم ,أوراق خرساء تزاحم في الخزانة ثيابي خبأتها جيدا أقلام جفت واستبدلت ومازالت بأعماقي بقايا الكلمات ....كلمات تنتحر من قوة البأس واليأس ,وأخرى توؤد ,وشبيهاتها تختنق في حلقي ومثل هاته تكتب ولا تسمع ..كلماتي جماد ...عدم ...كلماتي بلا بداية ولا نهاية .....
ألملم على هذه الصفحة البيضاء كلماتي الضائعة وأتوسل .,أتوسل ليلي الطويل أن يسمعني أتوسل للقلم والورقة ...أتوسل لصمت هذا المكان....فلا أجد غير كلمات ضائعة تتلاشى بين شفتي وتنكسر على جدار الصمت ,كلمات تضيع ,صرخات توؤد دموع لاتنتهي ...كل شيئ يتكرر بنفس البطئ وبمرارة ورتابة .........ويلفني الضياع في دوامته من جديد فأستسلم له وأكتب من جديد ...
سألني قلمي ماذا أكتب ؟؟وسألت بدوري ورقتي ماذا نكتب ؟؟حيّرني السؤال وحيّرني الجواب .....
أأكتب مابقلبي وأرسمه أم أكتمه ..؟؟سألني قلبي لماذا دائما أنت عكسي ؟؟
اذا حلمت ,حطمت,واذا نبضت خنقت ,واذا رقصت حرمت ,اذا فرحت بكيت ,واذا أحببت تجاهلت ...؟؟؟؟؟؟لا لا مستحيل ليس لك يا قلب .أن تحلم أو تفرح أو تحب ..
لكن لماذا ؟؟أجابني فزعا بدون لكن هو مكتوب علينا .........أرجوك لا تسالني فليس عندي جواب
صمت قلبي وفاجئني عقلي الى متى ؟؟؟الى متى تهربين ؟الى متى تضحين ؟الى متى تنكرين ذاتك
21-12-1989
استيقظت على الثالثة من بعد منتصف ليلة الأربعاء وكأنه أول يوم تستيقظ فيه من نومها العميق ,الظلام دامس وهي وحيدة ..فتحت عينيها السودوتين كسواد هذا الليل ونظرت من خلال النافذة المقابلة للشاطئ,حيت كان ضوء القمر الخافت يتسلل في سكون الى غرفتها الصغيرة ,ليبدد ظلام ذلك المكان ولينيره ولو قليلا ,هاته الغرفة التي يسودها صمت رهيب لا يسمع فيه سوى صدى موج البحر وهو يتمزق على تلك الصخور التي تأبى الاستسلام له ..متحدية ايّاه في عزّة وشموخ...أعادت الغطاء على جسمها النحيل وحاولت أن تغمض جفنيها الذابلتين لتعود الى عالم الأحلام والنسيان ....لكن ذلك الخوف الذي استبّد بها فجاة جعل النوم يفر من عينيها ,فأحست بقلق شديد يتملكها فراحت تبحث عن وسيلة تعيد لها النوم ...لكن دون جدوى وكأن استيقاظها
في ذلك الوقت المتأخر من الليل جاء ليجدد شيئا ما ...انه حدسها القوي الذي يوجس من شيئ ما سيحدث ...استغفرت الله ثلاثا وأنارت المصباح الصغير بيدها اليمنى وباليد اليسرى أزاحت عنها غطاء السرير وبخطا متثاقلة اقتربت من خزانتها الصغيرة المنزوية في آخر الغرفة
فتحت الدرج وراحت تبحث هنا وهناك .....كانت تبحث عن كراستها وبقايا قلمها ..عانقتهم بقوة وأسرت انتم مابقي لي من مقاعد الدراسة آآآآه الدراسة
ذلك الحلم الذي تبدد .والامل الذي وئد .....
مرّت عليها الطفولة كئيبة ,ساكنة ومرّت هي على مراهقتها مرور الكرام ...كانت طفولة أنثى في قرية محافظة.......كانت حياتها كلها لاآآآآت .....لا للخروج \لا للدراسة \لا للرفيقات\ لا لصلاة الجمعة في المسجد \لا للرسائل \لا لكل شيئ ولأي شيئ يفرحها .........
مجتمع ذكوري لكن الحكم أنثوي فالبيت كان من تسيير الأم فهي امرأة قوية والكل يحترم أمرها ....رغم أنها آخر العنقود الاّأن هذا لم يشفع لها أو ربما شفع القليل
فأمل الوحيدة التي وطأت قدماها عتبة المدرسة من بين أخواتها الأربعة ....البيت كبير والتناقض فيه كثير فالبنت تحب الدراسة ومتفوقة بل ممتازة والأبناء الذكور رفضوا الدراسة فلفضتهم المدارس ..........كل صباح كانت تحمل محفظتها الكبيرة جدا وهي تمسك بها بكل قوة والرياح تعصف حولها لامعطف يحميها ولا حضنا يدفيها ...لم تكن تودعها أمها بالأحضان والقبل وبلمجة صغير ة ...
كانت تودها بكلمات جارحة ونظرات ثاقبة وكل صباح تعدها أنه اليوم الأخير لها في مقاعد الدراسة ..كانت تخشاها أمل وتتحاشى نظراتها وكانت ....تدعو الله في سرّها أن لا تفعل والدتها ما تقوله
والى محطة النقل المدرسي كانت تتردد مع خطاها كلمات والدتها وترن بقوة في ذاكرتها \خوتك قاعدين في الدار وأنتي تمشي في نقولة مع لولاد........\\والله من تجي هادي آخر مرة تمشي فيها لقرايا.....\\أنتركي بهدلتي بيا.....\كلام تعودت عليه وتعودوا أن يروا صديقاتها تلك النظرة الحزينة وتلك الابتسامة الصفرا ء .......تصنعت أمل السعادة وتصنعت اللباقة وتصنعت الهدوء .....كان كل شيئ مزيف وكاذب في حياتها ...بل حياتها كلها أمل كاذب ....
وفي المساء عند عودتها يقارع لها في الطريق أخوها الأوسط وسجارة الحشيش تحرقه من الداخل يريد بها أن يطفئ غيظه على أخته ..\ايا تمشاي راني نصفعك ....\ايهانات كل صباح ومساء وتفوق لا مثيل له ...السلام عليكم ورحمة الله :تقول أمل لم يرد عليها أحد من أهل البيت غير الوالد المغلوب على أمره
وعليك السلام ورحمة الله حبيبتي دخلت حجرتها ولحقت بها الأم \الشغل راه ايسناك لبسي ورواحي للكوزينة ...\لا قهوة المساء ولا حتى بقايا من غذاء النهار ........كانت تساءل نفسها دائما أهي فعلا أمي وأنا ابنتها؟؟؟
وكانت تقتلها الغيرة عندما كانت تمر على الصديقة الوحيدة التي سمحت لها أمها بمرافقتها
كانت تجد أم ليلى تفرغ لها الحليب وتضع لها قطع السّكر وتقدمه لها مع حلويات لم ترها من أيّام العيد ,,,,,,,,تقول خالتي ربيعة \بالحليب ولا كحلة \وتعتذر أمل وتقول وتقسم بأنها ارتشفت قهوة الصباح منذ قليل في البيت وتكاد تفضحها صرخات أحشائها من الجوع ...وتقول لها نفسها معاتبة \كاذبة يا أمل فلم تتعشين ولا قهوة الصباح كانت من نصيبك \
تقول في سرّها :لا يهم المهم أن أدرس ..........
مرّت السنة الدراسية 83\84 بسلام وكان يتخلل أيامها خوف رهيب ...ويسكن في لياليها كوابيس لا تنتهي
وانتهت الدراسة وحلّ الصيف على القرية وكان خريفا ينثر أوراقه على قلب أمل ...........
حملت بين يديها المرتعشتين كشف النقاط للثلاثي الأخير .......كانت علاماتها ممتازة ....
وكان ذلك الطابع الأحمر الذي تتربع بداخله تهنئة التي شارفت على امتياز ....كان يبرق في بؤبؤ عينيها التي حجبت عنهما الرؤيا تلك الدموع
ولأول مرة كانت دموع فرح .........مرّت عليها الوالدة وهي تقرؤها لم تسألها ولم تلتفت لما تحمله يداها الرقيقتين .....
دخلت امل حجرتها وخبأت كشف النقاط تحت وسادتها وهي لا تصدق أنّها مرّت الى السنة الثانية من التعليم المتوسط ....
لأنّها كانت مهددة في غدوها ورواحها ....حمدت الله أن اعمى عنها وشغل بال الوالدة ....وبقلب يكاد يطيرمن الفرح هرولت تبحث عن شيئ تساعد فيه أمّها ...حتى ترضى عنها وفاجأتها هذه الأخيرة بالكلام \خلاص تهنيتي قريتي في المتوسطة ,وعام وانتي تمشي وتجي ايوا ضورك ريحي روحك ماكانش قرايا العام الماجي ...\
شخص بصر أمل ووقفت متسمّرة وكأنها صعقت ,لم تعد الام كلامها فأدركت أمل أنّه لا مجال للنقاش .....خبأت رأسها الصغير بين دراعيها وراحت تبكي
أتت الأم مسرعة من ورائها وشدّت شعرها الطويل بقوة وأعادت برأسها الى الخلف وقالت وكأن ماردا من الجان يتملكها\ابكي ولا قعدي .قلت لقرايا ماكانش سي ماكانش ...صبرت عليك العام اللي فات وبغيا نزيد نصبر معاك ياك قلتهالك نهار اللي ديتي السيزيام باللي خلاص راكي تفكي الحرف وتعرفي تكتبي لي البرية لأختك في فرنسا ..ايا تعلمي شوية شغل مع أختك قبل ما تزوج .....\
هنا بركان هزّ أمل من الأعماق وصرخت بكل قوة :لا ............لا لا \من حقي عليك نقرا ولا من ولادك مابغاوش يقراوا حريمتيني أنا ...علاش ياما حرام عليك ..ياك ماقلتك اعطيني والوا ..ياك احرمتيني من اللبس كي خوتي وقلت ماعليش واحرمتيني من الخروج وقلت ماعليش ...حتى العيد تعيدي لخوتي واحنا لبنات لا ....حتى الأكل أخوتي يكلوا المقلي ولمشوي ولبنات لا .....وأنا اليوم ياما نقولك لا واذا ماخلتينيش نقرا عمري مانسمحلك ....\
هنا انتفضت الأم وأخذت البنت بين يديها وانهالت عليها بكل أنواع الضرب وبكل قوّتها ...لم تفعل لا الأخت ولا زوجة الأخ من تحريرها من بين يديها ....
تدخل الجيران عند سماع صراخ أمل ..........وأخيرا أفلتتها كانت العين زرقاء والفم يدمي وأثار القرص والعض في كامل الادرع والأرجل ...كانت أمل شبه مغشي عليها ..وأصبحت طريحة الفراش لم تنهض منه لأسبوع كامل ...والأم لم تهدأ بعد,كان لامل أخ أكبر يحبها جدا ...حنون وعطوف لكنه للأسف سكّير ...فاذا واجهته أي مشكلة يهرب الى الخمر حتى ينسى .....نظر الى معالم وجهها التي تغيرت فتخاصم مع الوالدة وللأسف سبها وهذا كان يغضب أمل ....فمهما فعلت تبقى أمي قالتها في نفسها ...هجر الأخ البيت وكان اللوم على البنت ...\هاكا بغيدي تخليلي داري بسبابك مشى أنت السبب الله ياخدك ...\فعلا جالت الفكرة في رأس امل الموت هو الحل كانت تخاف الله فلم تعزم على الانتحار انّما أرادت أن تعذب أمّها بعذابها فدخلت في اضراب عن الأكل \مرّ اليوم الأول فلم تعرها اهتماما أمّها وجاء اليوم الثاني وانتصف ,فاقترب منها الوالد الذي غلبته الدموع وتوسل اليها أن تأكل وستكمل دراستها \وعدا منه..\
هزت أمل رأسها بالرفض لأنّها تعلم أنّ القرار ليس بيده ...تحاورالوالد طويلا مع الأم لكن أبدا لم تلين كانت تختلس السّمع أمل لوالدتها وهي تسأل الأخت \كلات ولا لاّ تاكل السّم ...\ فتقول البنت الكبرى \مابغاتش \\لهلا يوكلولها خليها تقتل روحها على القرايا ...ماعرفتش هاد البنت شكون شبهت ربيت ربعة نتاع لبنات وهي خرجتلي عقلي ...\حطيه في الكوزينة مين تجوع تنوض تاكل ...\
استرجعت امل جملة أّمّها \ربيت ربعة نتاع لبنات ....ههههه ربعة نتاع نعجاة أو ربعة نتاع البوكوشات\ أسّرتها في نفسها ......
وجاء اليوم الثالث ...وأمل لاتقوى على فتح عينيها من الفشل والارهاق نادت على أختها بصوت خافت \الما جبيلي شوية ما ....\
راحت البنت تبكي وتقول أختي ...أختي جاءتها الأم\مالها ...\\أختي راها تموت ...\لم تشعر الأم بنفسها الاّ وهي تحتضن فلذة كبدها وتقبلها وترجوها أن تأكل وستتركها تكمل دراستها ...قالت البنت في اعياء \حلفي بالله ثلاثة عاد وناكل ...\قالت الأم \والله العظيم ...والله عظيم ...والله العظيم ...\قالت لها أمل كملي \االنخليك تقراييي\
ابتسمت أمل وأحست بطعم النجاح ,...............
وبعد أيام سمحت لها بأن تذهب مع الوالد لالتقاط الصور الشمسية ...عند ابن عمتها في المدينة لأنّه كان مصور فوتوغرافي ..
لمّا رآها اغرورقت عيناه بالدموع ..وقال \الله يسامحك يامرت خالي...\وضع على وجهها بعض البودرات لتظليل الندوبات والكدمات وكانت الصورة
التي لازمتها طوال حياتها ولا زالت ...........وبعد كل السنين التي مرت لم يمحو الزمن ندوبا في الأعماق وكدمات مازلت لم تشفى بعد .........
كانت طفولة أمل ,ألم وعذاب وكانت ترى أنّ الدّراسة هي المنفد الوحيد لها من عائلتها وقريتها .أخذت الصور واستخرج لها والدها الوثائق المتبقية وبهذا استكملت ملف التسجيل للسّنة الدّراسية 84\85...وحلّت السّنة واستوسطت ومرّت كغيرها بترقب وتوجس وخوف شديد ..وصديقها كتاب وأمل ...زاد الخوف وزاد التّفوق والنّجاح ..
الأم لم تكفّ يوما عن تهديداتها ..والبنت لم تيأس من الدّعاء .........وانتهت السّنة الدّراسية ..لم يسألها أحد عن معدل الفصل الأوّل ولا الثّاني ولا الثاّلث ...
وحمدت الله ..أن شغل بال الأم عنها ...لكن للأسف شغلت عنها بصحتها وتدهور حالتها ونقص النّظر ...كانت الأم تشقى كثيرا مع الوالد في الزراعة والحرث فعائلة أمل مشهورة بالفلاحة ..كان لهم بستان شاسع به كل مالذّ من أشجار الفاكهة وكانت شجرة الرّمان صديقة أمل ...كانت تحب هذه الشّجرة وتشعر بعبق الجنّة في أريج أزهارها الحمراء....
قربت الأم على فقد بصرها من كثرة الأشغال والاهمال ...وحلّ الصيف محملا بحقائب سفر وبتذكرة قطار أخذت الوالدة بعيدا عن حضن البنت وأوّل مرّة تسافر الأّم بعيدا ....وأخيرا ...كانت تظن أمل أنّ هذا البعد لصالحها ويخدم أحلامها وطموحها ...لكّنه في البداية فقط راودها هذا الشّعور ولمّا انتصف الشّهر علمت أنّها لا تقدر على العيش بدون أمّها ...حاول الأب وكّذا الأخ مع رعاية الأخت حاولوا جاهدين أن يملؤوا هذا الفراغ ...لكن أبدّا وعبثا حاولوا ..
.
فالأم رغم قسوتها وجفائها الّا أنّ لها لمسة حنان في البيت لا تعوض ...وأجريت للأم عملية جراحية على العين اليمنى وانتظروا لنصف شهر آخر حتى يتيقنوا من نجاح العملية التّي وللأسف كانت فاشلة فلم تستعد الأم نظرها في العين اليمنى بل بعد العملية ضعف بصر العين اليسرى أيضا .....وكان هذا الخبر ثقيلا على أهل البيت والقرية معا ...فالأم خديجة رغم عصبيتها في البيت وتسلطها وحب القيادة الا أنّها محبوبة جدا في القرية فهي امرأة اجتماعية ..الكل يحبها كانت تتصدق كثيرا من محصول البستان وتهدي لجيرانها والأهل سلل من الفواكه وباقات من النعناع الأخضر والقسبر ....لم تردّ السائل قط ..كانت امرأة مضيافة وكريمة لأبعد حد ...تفرح لفرح أهل القرية فتكن الأولى من المهنئين تغني مع نسائهم وتبكي لأحزانهم ....
كان لخديجة صوحيبات من أياّم الثورة كنّ يتكاتفن جميعا ويتّحدن مع أزواجهن في ايواء المجاهدين واطعامهم ,وتزويدهم بالسّلاح الذي كان يهّرب لهم من الدّولة الشّقيقة المجاورة ,كان الوالد يقطع المسافات الطّوال على قدميه ويجوب الوديان والجبال ويمرّ الى الضّفة الأخرى ليلا ,يحمل فوق ظهره ما استطاع على حمله من الأسلحة والذّخيرة ولله الحمد كانت عين الله تحرسه فلم يمسك به العسكر الفرنسي ولا مرّة
وكانت الأم في الأثناء تطهو الطّعام للجنود المختبئين عندها هي وزوجها في البيت ..كان الطّعام الموجود آن ذاك خبز الشّعير وحليب الماعز ....وكسكس بخضروات البستان ودجاج الحظيرة..أحسّت خديجة ذات ليلة بحركة غير عادية خلف جدران بيتها الطّوبي وبسرعة البرق فتحت بابا في الأرض يؤدي الى باطنها بها مؤن وأغطية ...فأسرع المجاهدون للاختباء ...وتظاهرت الأم والأب بالنّوم مع صغارهم أثناء هجوم العسكر الفرنسي ودخوله عنوة للبيوت.....
تربت أمل وكبرت على قصص الأم ووقوفها هي والزّوج في وجه الاستعمار ...وشربت أمل مع حليب أمّها كره فرنسا والاستعمار والاستبدادوبهذا التكافل والاتحاد نجحت الثورة زد على ذلك مساعدة الدّول المجاورة ..وايواء المهاجرين اليه من المستضعفين وأهالي الأسرى ...وكم تحفظها أمل وكم تعشق تلك الأم هناك في القصّة ........وكلّما انقطع التّيار الكهربائي على القرية الاّ وسارعت الأم بجنب أمل تحكي لها قصصا وبطولات عاشتها الأمّ خديجة
وكم تحفظها أمل وكم تعشق تلك الأم هناك في القصّة ........
((ايه ..احنا بكري كنا نقصروا غير على الشمّع ..كنت رقد خوتك بعد مانعيشهم ..ونقعدوا نقصروا أنا وباباك مع الثّوار حتى للصباح ..ومين يبان الضو نقعدوا نعسوهم باش مايلحقهم حتّى واحد من الدّوار لخطر الحركا يابنتي هم لكانوا لعديان نتاعنا قبل فرنسا ...
والله يابنتي كنت نضحك ونستغرب مين نشوف كل المجاهدين صغار وغاديين للموت برجليهم كنت نقولهم ((اعلاش ياولدي أنت صغير وغادي تقتل روحك على ثلاث جبال ...كان القائد نتاعهم يقولي((ياما الجزائر كبيرة وواسعة وعظيمة ماشي غير هاد القرى والدّشور اللّي راكي تشوفي فيهم ....((كنت نودّعهم بالدموع والدّعا ((الله يحفظكم ويعمي عليكم ...
ولم تنسى أمل أبدا تلك القصة لذالك الجاسوس أو الواشي الّذي وشى باخوانه من المجاهدين وجعل العسكر الفرنسي كمينا وقتلهم جميعا ومنهم من كانت تعرفه أم أمل وأكل من يدها وشرب ...تحكي الأم والدّمع يجرّّح عينيها المريضتين ((الله ..الله يابنتي واش شافت هاذ لبلاد ..........
قصص كثيرة روتها الأم وحفظها أمل ...كانت تجد في الوالدة تناقض كبير ولكّنها في نظرها عظيمة عظمة الجزائر ...
(على سلامتك لا لا خديجة ..والله القرية بلا بيك صامتة )قالت الصديقة يمينة
(كيراكي تحسّي بروحك ...راكي تشوفي شوية من عينك )قالت كلثوم الجارة
(شوية برك والله بحال اللّي مادرتش العملية ..لعذاب وخلاص ..ايه الحمد لله )
..(وكيراكوا نتوما وأولادكم وأحبابكم والله توحّشتكوم بزاف ....حسّيت روحي باللّي راني في الغربة )
...بصّح المدينة يقولوا كبيرة وواسعة وفيها كلشي ..)
(ايه صح ...كبيرة ومنظمة ومزوقة لكن تخوّف ...الواحد مايعرف لاخر ...لا لا أختي يمينة قريتنا خير ..
كريمة بناسها ...وخضرا بحقولها ...)
السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته :قالت أمل
وعليكم السّلام ورحمة الله :قالت النّسوة
(ايه يا خديجة بنتك كبرت ما شاء الله عليها ...)
(وعلى ماراني نسمع تقرا مليح ...بصّح اسّمحيلي يا اختي البنت ما يلزمها غير دارها ...)
صمتت الأم ولم ترد ..
وسمعتهن أمل وخفق قلبها بشدّة ..أكيد ستوقفني هذه المرّة .....ماذا أفعل يا الله لم يبقى الا القليل
ويأتي الموسم الدّراسي الجديد ويعاد نفس السيناريو ونفس الحوار حتّى الاخراج كان نفسه ...
سألت أمل :لماذا يا أمّي ..؟؟
ولا جواب ولا سبب مقنع ،ضربتها كالعادة وتعوّدت أمل التّحمّل ..كانت تقول في نفسها :سأصبر وأكيد هي موجة غضب ستبرد نارها حتما ..
لكن لهيب النّار طال وحرق جلد أمل ...وحرق معه كتبها كراريسها...أملها... أحلامها ..محفظتها القديمة
وأيقنت أمل أنّ قرار وكلمة ووعد أعطته لصديقتها يمينة التّي كانت خديجة تحترم رأيها ...
لكن لماذا ؟؟؟؟
(خلاص ..راني احرقتلك محفظتك وكتوبك ...مابقى ماتزيدي تقراي )
نظرت أمل لأمّها نظرة حقد وعتاب وتوسّل ....وأسرعت مهرولة الى الطّابق الثّاني الذّي كان قيد الانجاز رمت رجلها في الفراغ ونادتها (أيا أمي سألحق كتبي ...ان لم أدرس فلن أعيش ...)
صاحت الأم (هودي ...انزلي ..وتصادف رجوع الأب والأخ من الحقل ..(واش صرا واش كاين )قال الأب
قالت الأم (باغيا تقتل روحها على لقرايا ...)
الكلّ يقطع العهود نفسها لكن القرار بيدها ..وبحيلة استدرجت البنت ونزلت وهي ترتعش من الخوف كانت ترجو ضمّة ولو خفيفة ...وكانت ضمّة اختلجت لها أضلاعها وبصفعات تناثر الدّم منها وتناثرت أحلامها ......ضربت كالعادة ووبكت كما تعوّدت في صمت ....
صراع طويل ومرير وأكيد سيكون الاستسلام نهاية أحدهما ..وكالعادة نجحت أمل ونجح اضرابها عن الحياة ......وعادت بشفا مجروحة وصوت مبحوح ..
وكذلك هذه المرّة لم يسألها أحد عن الكدمات ولا عن صمتها الطّويل ..فالكلّ يعرف قصّتها والكلّ كان في رهان أن تعود أمل أو لا تعود .....
كان الخجل رفيقها الدّائم وطأطأة الرأس مخبأها ...تستمع للدّرس لا ترى المدرّس ..المهم كلماته والشّرح ..حفظت التّاريخ ونساها ..زارت مدن العالم في كل درس جغرافيا ...تعمّقت في الرّياضيات وهي تبحث عن حلّ لمعادلة صعبة في حياتها ...زتسكن روحها اذا مرت عليها آية أو حديث ينصف المرأة
كان أستاذ العلوم الطّبيعية يشجّعها دائما ويجلسها في المقاعد الأولى،التّي كان تهرب منها الى المقاعد الخلفية ...وكلّما أحنت رأسها رفعه لها وقال:(لا تحني رأسك أبدّا الاّ لله .....)
من مواضيعي
0 برزخ الأماني ..
0 خبز بالزيتون والأعشاب
0 مشروع أرملة
0 بعثية الرّماد
0 الى أمل الرّبيع
0 موعد مع الفشل
0 خبز بالزيتون والأعشاب
0 مشروع أرملة
0 بعثية الرّماد
0 الى أمل الرّبيع
0 موعد مع الفشل
التعديل الأخير تم بواسطة أمل الرّبيع ; 20-06-2012 الساعة 07:43 PM








