وتسمر الجدة ....مع الماضي
07-03-2009, 11:18 PM
بسم الله الرحمان الرحيم
سقط المطريستجمع قواه على مهاجمة ذرات الحرارة المتبقية على البسيطة ، ويدفن الحركة تحت أقبية المدافئ ، أين السكينة تحملق بنظرتها إلى الفرائس المرتعشة ، والقلوب التي راحت تتمتم في أحاديث متباينة .
كان الشتاء...وكانت القصص تُسردُ ، والعجائزُ تُلوّحُ بماض انفردبالتآخي والتضامن والطيبة .
كانت الجدة تقول : نغزل الصوف لننسج القشابية والبرانيس ، والرجال يتبارون على أيها أحسن في التفنن والإبداع ، وعلى أيها أكثر إعجابا وإقتناء ، وأنامل النسوة تتنافس في الجودة والعطاء ، لا تلبث الأسواق تزهو بالزرابي ، والأفرشة ، وعبق
التراث يعطر الأجواء .
ايه....أين نحن من مثل تلك الأيام وتسرح الجدة في نشاطها السردي ، ليقاطعها الأب : أتدرين أمي عمي الحاج مصطفى
لما سقط بيت جاره الهاري ، فجمع أهل القرية وأعادوا بناءه وتأثيثه ولما فرغوا من العمل دعا الجميع إلى بيته للعشاء ، فذبح عجلا وأقام إكراما تلاقت فيه القلوب على المودة قبل الأجساد ، وأ ُشبعتْ بالأخوة ، وامتلئت بالنشوة وهي تتفنن في المسامرة ، وعند الإفتراق دعوا له بالبركة وزيادة الخير .
ايه يا ولدي لا تذكرني، تلك الأيام لن تعود كانت البركة في الوقت ، في الصحة ، في الجلسة ، والقناعة كانت تاجا على رؤوسنا
لا نملك شيئا لكن نحمد الله ونطمع في الله حتى تأتينا نجدته وكرمه ، أما اليوم ماذا أقول ؟ ذهب طعم الجوار ، وقُطعت الأرحام فتأتي المواسم فلا نرى إلا العطش الروحي ، والنكد ، والمرض ، والغربة حتى ولو نحن مع الناس هناك غربة ، غربة الكلمة ، غربة الإستئناس ، غربة المحبة ، غربة الضحكة ، حتى الضحكات البريئة ماتت وأ ُقْبرتْ حلاوتها ، وخلفتها الشكاوي المتتالية ، وعدم الرضى والقناعة بالواقع ، الكل يفزع من الإبتلاء ، الكل يخشى الألم ، والكل يهرب من ذاته إلى ذاته الفانية .
صدقتِ أمي ، طغا الشر ، وطغت الشهوات والتطلع إلى مافي أيدي الآخرين ، حتى أصبح الإنسان يتهرب من لقاء أخيه خشية الإيذاء أو الوقوع معه أو بسببه في المعصية ، ضعفت الرقابة النفسية ومات الحس الإنساني وتمادى الشر في زحفه والفراغ في تشويشه على العقل فقتل في الإنسان الحكمة والتروي ورمى به إلى أحضان الإيذاء وحين يستفيق يندم ، ساعتها لا ينفع الندم .
الشتاء بارد هذه السنة أمي ، نعم يا ولدي لكن له الفضل في أن جمعنا هذه الليلة ، ضحك الأب ضحكة الواعي لما تقول ثم بادرها بقوله : اشتقنا لأكلاتك الشعبية يا أمي في مثل هذه الأوقات ....
المحاجب ، القرصة ، الشخشوخة الحارة .
ايه.....يا بني ، كانت لما كنت !!!
أنا الآن كما ترى أ ُ كلة غير مطبوخة وتضحك ...كتلة ضغط ،
وصداع ، وسكر ، وروماتيزم تُحرك روحا يائسة انزوت تتغذى على ماض اندثر ، ايه ...وهذا عهدكم عهد المقليات والمشويات ثم ترسل الجدة ابتسامة فاترة تقبلها بيد منحنية على خدها الشاحب
كانت الأمطار تسقط ، وأحفادها يتلذذون بالحديث ، إلى أن تعالى صوت والدتهم ، لماذا لم تناموا بعد ؟ كل واحد يلتحق بفراشه لينام ، غدا عندكم دراسة ولا مجال للسهر ، لا يا أمي ، إن حديث جدتي شيق وممتع ، قالت : إسرعوا الوقت متأخر ، إذهبوا للنوم .
نظرات تأسف تُرْسلُ من الجدة ، لماذا لا نواصل السهر ؟ ،أنا لا يأتيني النوم الآن ، ذهب الأبناء ، وذهب الأب ، وبقت الجدة لوحدها رفقة نفسها يُكملان السهرة .
إنها تبتسم ، والغرفة مظلمة إلا من بصيص نور قادم من الموقد
نعم يا أبي سأجلب العلف للبقرة ، أنا مريض بنيتي كما ترين ، ولا أقوى على فعل ذلك وعندما أ ُُشفى أذهب إلى السوق وأشتري لك هدية ، هدية !!!...فرحت كثيرا ، واعتنيت بالبقرة تغذية ونظافة ، كثيرا ما كنت أغني أغاني الثورة وأنا هناك في الحقل ، والبقرة تنظر إلي تردد معي خوار الرضى وكأنها تشاركني غبطتي ، كنت كل يوم أدعو الله أن يُشفي والدي ليأتيني بالهدية .
مر الشتاء ، وجاء الربيع يتسارع بخضرته وأقبلت الدنيا معه زاهية ، مستبشرة ، وتماثل والدي للشفاء ، وكنت أسوق أحلامي إلى ماوراء الهدية .
ذهب والدي إلى السوق ، ساعتها لم أدخل البيت ، تحججت بالبقرة ومسكتها من اللجام وأسرعنا إلى حافة الوادي وقلبي معلق برجوع والدي والهدية ، وعاد الأب وقلبي في خفقان ، تناول غداءه وارتاح قليلا ثم ناداني : تعالي إليك ما وعدتك به وسلمني إياها ، ازداد قلبي في الخفقان وارتجفت يداي وانحنيت لرؤتها فإذا هي..........مغزلُ ُ.
ضحكت ...ثم بكيت ، ضاعت أحلامي ، كنت أظنه فستانا جميلا
أتباهى به في عرس جارنا تلك السنة ، رمقني أبي بنظرة حنو ثم قال: أنا أهديتك ما أعظم من المغزل يا بنيتي لا تنزعجي ،
أهديتك الحرفة ، قد تحتاجين إليها يوما .
وتستجمع الجدة أنفاسها ، ايه كم أنت حكيم يا أبي ، وأخذت تبكي ثم استوقفت نفسها ..لا تبكي أنت إمرأة قويت ألم تكبري على الأحلام ؟..وتكمل السمر ، كان زواجي بمجاهد ذاد عن الوطن وترك لي ثمرة من ثماره في الدنيا إنه "عمار" وتلفت العجوز :عمار ، عمار . اوه أصبحت أ ُخرّ ِفُ إنه نائم ، وتكمل حديثها ازدان فراشي ب"عمار " وفرحتنا به سترت ماضي الفقر ، كان أبوه رجلا مؤمنا ، حافظا لكتاب الله ، عشت معه بضع سنين ثم نال الشهادة في الحرب التحريرية ، وكبرت مع نفسي وعمار واعترضتني مآس شتى وعبء المسؤولية عند شبابي ، حينها تذكرت الهدية ، فأخرجتها ورحت أنسج الإنتظار على وقع المغزل المهتز بين حنايا أناملي ...ويأتي القوت ، كان الإستقلال على وشك الوصول ، وتطلع الجزائريين إليه في شوق كشوقي للهدية ، واستقرت الأوضاع ، وغادر الإستعمار البلاد ...وتستدرك الجدة جسدها أوه تعبت بصوت مرتفع أريد أن أنام فترتب الوسادة جيدا وتلف جسدها بالغطاء لتستسلم للنوم .
كانت الساعة الواحدة ليلا ، والأمطار لم تكف عن التساقط بعد ويخرج " عمار " ألم تنامي بعد يا أمي ، سمعت تنهداتك وبعض التمتمات ، هل تشعرين بشئ ، لا يا ولدي إذهب وأكمل نومك ، كنت أتسامر مع الماضي.............
سقط المطريستجمع قواه على مهاجمة ذرات الحرارة المتبقية على البسيطة ، ويدفن الحركة تحت أقبية المدافئ ، أين السكينة تحملق بنظرتها إلى الفرائس المرتعشة ، والقلوب التي راحت تتمتم في أحاديث متباينة .
كان الشتاء...وكانت القصص تُسردُ ، والعجائزُ تُلوّحُ بماض انفردبالتآخي والتضامن والطيبة .
كانت الجدة تقول : نغزل الصوف لننسج القشابية والبرانيس ، والرجال يتبارون على أيها أحسن في التفنن والإبداع ، وعلى أيها أكثر إعجابا وإقتناء ، وأنامل النسوة تتنافس في الجودة والعطاء ، لا تلبث الأسواق تزهو بالزرابي ، والأفرشة ، وعبق
التراث يعطر الأجواء .
ايه....أين نحن من مثل تلك الأيام وتسرح الجدة في نشاطها السردي ، ليقاطعها الأب : أتدرين أمي عمي الحاج مصطفى
لما سقط بيت جاره الهاري ، فجمع أهل القرية وأعادوا بناءه وتأثيثه ولما فرغوا من العمل دعا الجميع إلى بيته للعشاء ، فذبح عجلا وأقام إكراما تلاقت فيه القلوب على المودة قبل الأجساد ، وأ ُشبعتْ بالأخوة ، وامتلئت بالنشوة وهي تتفنن في المسامرة ، وعند الإفتراق دعوا له بالبركة وزيادة الخير .
ايه يا ولدي لا تذكرني، تلك الأيام لن تعود كانت البركة في الوقت ، في الصحة ، في الجلسة ، والقناعة كانت تاجا على رؤوسنا
لا نملك شيئا لكن نحمد الله ونطمع في الله حتى تأتينا نجدته وكرمه ، أما اليوم ماذا أقول ؟ ذهب طعم الجوار ، وقُطعت الأرحام فتأتي المواسم فلا نرى إلا العطش الروحي ، والنكد ، والمرض ، والغربة حتى ولو نحن مع الناس هناك غربة ، غربة الكلمة ، غربة الإستئناس ، غربة المحبة ، غربة الضحكة ، حتى الضحكات البريئة ماتت وأ ُقْبرتْ حلاوتها ، وخلفتها الشكاوي المتتالية ، وعدم الرضى والقناعة بالواقع ، الكل يفزع من الإبتلاء ، الكل يخشى الألم ، والكل يهرب من ذاته إلى ذاته الفانية .
صدقتِ أمي ، طغا الشر ، وطغت الشهوات والتطلع إلى مافي أيدي الآخرين ، حتى أصبح الإنسان يتهرب من لقاء أخيه خشية الإيذاء أو الوقوع معه أو بسببه في المعصية ، ضعفت الرقابة النفسية ومات الحس الإنساني وتمادى الشر في زحفه والفراغ في تشويشه على العقل فقتل في الإنسان الحكمة والتروي ورمى به إلى أحضان الإيذاء وحين يستفيق يندم ، ساعتها لا ينفع الندم .
الشتاء بارد هذه السنة أمي ، نعم يا ولدي لكن له الفضل في أن جمعنا هذه الليلة ، ضحك الأب ضحكة الواعي لما تقول ثم بادرها بقوله : اشتقنا لأكلاتك الشعبية يا أمي في مثل هذه الأوقات ....
المحاجب ، القرصة ، الشخشوخة الحارة .
ايه.....يا بني ، كانت لما كنت !!!
أنا الآن كما ترى أ ُ كلة غير مطبوخة وتضحك ...كتلة ضغط ،
وصداع ، وسكر ، وروماتيزم تُحرك روحا يائسة انزوت تتغذى على ماض اندثر ، ايه ...وهذا عهدكم عهد المقليات والمشويات ثم ترسل الجدة ابتسامة فاترة تقبلها بيد منحنية على خدها الشاحب
كانت الأمطار تسقط ، وأحفادها يتلذذون بالحديث ، إلى أن تعالى صوت والدتهم ، لماذا لم تناموا بعد ؟ كل واحد يلتحق بفراشه لينام ، غدا عندكم دراسة ولا مجال للسهر ، لا يا أمي ، إن حديث جدتي شيق وممتع ، قالت : إسرعوا الوقت متأخر ، إذهبوا للنوم .
نظرات تأسف تُرْسلُ من الجدة ، لماذا لا نواصل السهر ؟ ،أنا لا يأتيني النوم الآن ، ذهب الأبناء ، وذهب الأب ، وبقت الجدة لوحدها رفقة نفسها يُكملان السهرة .
إنها تبتسم ، والغرفة مظلمة إلا من بصيص نور قادم من الموقد
نعم يا أبي سأجلب العلف للبقرة ، أنا مريض بنيتي كما ترين ، ولا أقوى على فعل ذلك وعندما أ ُُشفى أذهب إلى السوق وأشتري لك هدية ، هدية !!!...فرحت كثيرا ، واعتنيت بالبقرة تغذية ونظافة ، كثيرا ما كنت أغني أغاني الثورة وأنا هناك في الحقل ، والبقرة تنظر إلي تردد معي خوار الرضى وكأنها تشاركني غبطتي ، كنت كل يوم أدعو الله أن يُشفي والدي ليأتيني بالهدية .
مر الشتاء ، وجاء الربيع يتسارع بخضرته وأقبلت الدنيا معه زاهية ، مستبشرة ، وتماثل والدي للشفاء ، وكنت أسوق أحلامي إلى ماوراء الهدية .
ذهب والدي إلى السوق ، ساعتها لم أدخل البيت ، تحججت بالبقرة ومسكتها من اللجام وأسرعنا إلى حافة الوادي وقلبي معلق برجوع والدي والهدية ، وعاد الأب وقلبي في خفقان ، تناول غداءه وارتاح قليلا ثم ناداني : تعالي إليك ما وعدتك به وسلمني إياها ، ازداد قلبي في الخفقان وارتجفت يداي وانحنيت لرؤتها فإذا هي..........مغزلُ ُ.
ضحكت ...ثم بكيت ، ضاعت أحلامي ، كنت أظنه فستانا جميلا
أتباهى به في عرس جارنا تلك السنة ، رمقني أبي بنظرة حنو ثم قال: أنا أهديتك ما أعظم من المغزل يا بنيتي لا تنزعجي ،
أهديتك الحرفة ، قد تحتاجين إليها يوما .
وتستجمع الجدة أنفاسها ، ايه كم أنت حكيم يا أبي ، وأخذت تبكي ثم استوقفت نفسها ..لا تبكي أنت إمرأة قويت ألم تكبري على الأحلام ؟..وتكمل السمر ، كان زواجي بمجاهد ذاد عن الوطن وترك لي ثمرة من ثماره في الدنيا إنه "عمار" وتلفت العجوز :عمار ، عمار . اوه أصبحت أ ُخرّ ِفُ إنه نائم ، وتكمل حديثها ازدان فراشي ب"عمار " وفرحتنا به سترت ماضي الفقر ، كان أبوه رجلا مؤمنا ، حافظا لكتاب الله ، عشت معه بضع سنين ثم نال الشهادة في الحرب التحريرية ، وكبرت مع نفسي وعمار واعترضتني مآس شتى وعبء المسؤولية عند شبابي ، حينها تذكرت الهدية ، فأخرجتها ورحت أنسج الإنتظار على وقع المغزل المهتز بين حنايا أناملي ...ويأتي القوت ، كان الإستقلال على وشك الوصول ، وتطلع الجزائريين إليه في شوق كشوقي للهدية ، واستقرت الأوضاع ، وغادر الإستعمار البلاد ...وتستدرك الجدة جسدها أوه تعبت بصوت مرتفع أريد أن أنام فترتب الوسادة جيدا وتلف جسدها بالغطاء لتستسلم للنوم .
كانت الساعة الواحدة ليلا ، والأمطار لم تكف عن التساقط بعد ويخرج " عمار " ألم تنامي بعد يا أمي ، سمعت تنهداتك وبعض التمتمات ، هل تشعرين بشئ ، لا يا ولدي إذهب وأكمل نومك ، كنت أتسامر مع الماضي.............
من مواضيعي
0 مواضع عطف البيان
0 البدل وأنواعه
0 الظروف المعربة
0 جلسةمفتوحة مع المفكر الجزائري مالك بن نبي
0 دروس دعم لتلاميذ المتوسط والبكالوريا بقناة القرآن الكريم
0 مر من هنا...ولا تندم
0 البدل وأنواعه
0 الظروف المعربة
0 جلسةمفتوحة مع المفكر الجزائري مالك بن نبي
0 دروس دعم لتلاميذ المتوسط والبكالوريا بقناة القرآن الكريم
0 مر من هنا...ولا تندم
التعديل الأخير تم بواسطة ام سيرين ; 07-03-2009 الساعة 11:32 PM







